أيام زمان الحادي عشر / عربة الربل

      

      أيام زمان الحادي عشر /عربة الربل

   

تعودُ بنا الذكريات إلى عربة الربلِ، وهي تسير في الشوارعِ حاملة معَهُا ما يستطيعُ حملَه من الركابِ، يتنقّلون بواسطتها من منطقة إلى أخرى ومن شارع إلى آخرَ، وبأجر لا يتجاوزُ الخمسين فلساً (درهم واحد) وكانت هذه الأجرةُ تقدر حسب بُعد المسافة التي يقطعها الربل فأجرة النقل داخل المدينة لا تتعدى المبلغ المذكور.

     

والعراقيون مازالوا يتذكرون صورة الربل وخيولها والحوذي (العربنجي) الذي يقودها وبيده السوط (القمجي)، وهو جالس في مكان مرتفع من مقدمة عربة الربل بلباسه الشعبي التقليدي (الصاية أو الزبون) ويعتمر في رأسه (الجراوية) أو الكوفية، وصوته الغاضب الذي يخاطب فيه خيوله (دي مال العمى).
كانت وسيلة النقل المفضلة لعدد كبير من شرائح المجتمع قبل دخول السيارات إلى العراق ومصدرا لرزق العديد من عباد الله، وعربة الربل كانت تعتبر من وسائل النقل الراقية، حيث استقلها الملوك والأمراء والوزراء ووجهاء بغداد، كما أنها كانت مظهراً من مظاهر الحياة العراقية القديمة ووسيلة نقل مريحة وأجورها مناسبة قياسا بأجور السيارات آنذاك.
انقسم عامّةُ الناس في إطلاق التسمية فمنهم، من كان يسميها (عربانة) ومنهم من كان يسميها (رَبَلْ) وهي الأصح نسبة إلى كلمة (Rubber) بالإنجليزية والتي تعني (المطاط).
عرفها العراقيون لأول مرة حينما سارت في شوارع بغداد، ثم انتقلت الى مدينة الموصل كان الجميع يستخدمها كونها واسطة نقل سريعة، ومن الممكن أن تدخل حتى في الشوارع الضيقة، ووسيلة نقل آمنه للعوائل، بدأت قصتها مع البغداديين حينما استورد أحد العراقيين (10) ربلات من الهند عام 1918، وكانت هذه أول وجبة منها تعرف في بغداد ثم استوردت أعداد كثيرة منها فيما بعد.
كانت (الربلات) العشر الأولى تسد حاجة سكان بغداد في التنقل، لكن مع الزمن وازدياد عدد السكان احتاج البغداديون لعربات جديدة، وفي سنة 1940 بدأ العراقيون يصنعون تلك الربلات بدلا من استيرادها.

         

كان شارع الرشيد يمثل مركز العاصمة، وحوله تتجمع أبنية الدولة وبيوت السكان، وكانت (الربلات) تعمل فيه من الباب الشرقي إلى الباب المعظم. والطريف إن (الربل) كان يخضع لنظام مرور صارم منذ بدء وجوده، ففي عهد الاحتلال البريطاني، كان هناك جندي إنكليزي مكلف، بتنظيم سير (الربلات) في شارع الرشيد واسمه (ابوديا)، وكان يلاحق أصحاب (الربلات) المخالفين، ويفرض عليهم الغرامات، والمخالفات التي كان يعاقب عليها هي إذ كان صاحب (الربل) يحمل شخصاً إلى جانبه في مقعد القيادة، أو يحمل أكثر من أربعة أشخاص، أو لم يضع صاحب (الربل) فانوساً للإضاءة. وكثيراً ما كان (أبوديا) يكمن لأصحاب (الربلات) المخالفين خلف أحد أعمدة شارع الرشيد.
للعربة ومن يقودها ضوابط معينة للعمل في شوارع المدينة، حيث كانت تخضع لاختبارات معينة ودقيقة وهي شبيهة بتلك الاختبارات، التي تجرى لسائقي السيارات حالياً، حيث يُمنح من يجتاز تلك الاختبارات إجازة رسمية، تخوله قيادة العربة، كما أنّ هناك فحص طبي بيطري يجرى للخيول، التي تجر العربات كل ستة أشهر.
وعادة يستعملها أهل بغداد للتنزه في شارع الرشيد بعد افتتاحه سنة 1916 م، حيث يذهب المتنزهون عادة الى منطقة الباب الشرقي ومحلة البتاوين للتنزه، في هذه المنطقة التي كانت مكتظة بالبساتين حيث مقهى العبد، وبعدها أماكن تجمع الخارجين على القانون، وأهل بغداد الذاهبين الى الأعظمية شمال بغداد فقد كان هنالك طريق ترابي تسلكه هذه العربات، وتكون بداية الطريق المار بالبلاط الملكي وقصر شعشوع اليهودي البغدادي الذي تبرع بداره، ليسكنها الملك بعد غرق البلاط الحكومي المجاور للقشلة، ولعدم وجود عقار مملوك للملك، وهذه جميعها في منطقة الكسرة لذلك كان تراب هذا الطريق يرش بالماء، وكانت الأجرة (عانه) واحده أربعة فلوس والدينار يساوي ألف فلس، والعربنچية قسمين الأوّل أصحاب الربلات(الملاكين)، ويواجهون أوامر البلدية التي لا تنقطع، وتحاسبهم على كلَّ صغيرة وكبيرة، حيث كانت تمنعهم مراراً من السير في الشوارع، بدواعي المحافظة على نظافتها والتي تتسبب فضلات خيول في تلويثها، ومن هذه القرارات وضع أغطية خاصة في مؤخرة الخيول(الحاضنة) لتجميع فضلاتها إلّا أنّ هذه العملية لم يكتب لها النجاح. والقسم الثاني (الصنّاع) وهم سائقي الربلات (الخوذي). والذي يسوق الربل فتتم السيطرة عليها بواسطة اللجام والسوط (القمچي)، الذي يصنع من أعواد الخيزران، ويبلغ طوله المترين أو أكثر من ذلك بقليل. ويكون سمكها بسمك الأصبع الواحد وفي نهايته سير رفيع مصنوع من الجلد طوله متر واحد، وسمكه لا يتجاوز السنتمتر الواحد. يستعمله حوذي العَربة بلا رحمة في حثِّ الخيول على السير، وعند انتهاء عمله يضعه في المكان المخصص له على الجانب الأيمن من مكان جلوسه.

   


وكان الميسورين يستخدمون الرَّبل عند زفاف أولادهم أو بناتهم، بعد أن يتمّ الاتفاقُ على أجرة الرَّبل والتي لا تتجاوز في كثير من الأحيان الدينار، ويتمّ تزين العربة بالبالونات والورود وأدوات الزينة الأخرى، وكانت الزفّةُ تتكوّنُ من عدَّة ربلات يقودهم الأكبر سنّاً والأكثر خبرة وخدمة في هذا الشأن. وتدفع الأجرة بعدد من العربات التي تنقل أهل العريس وأقاربه والمدعوين والنفقات يتحملها في اغلب الأحيان أهل العريس، وترافق هذه الزفة أصوات الدفوف وموسيقى الفرق الجوالة.
كما أنّ كثيرًا من رجال الحكومة وكبار موظفيها يستخدمون الرّبلات في تنقلاتهم خلال تأدية واجباتهم الرسمية. وكذلك التجار والوجهاء وموظفي الدولة وحتى عامة الناس والمتزوجون الجدد أحيانا.
هذه المهنة تتطلب جهدا كبيرا وتعاملا خاصا مع الحصان، لا يتقنه إلا صاحب المهنة والحريص على رزق
عائلته، كما أن الجهد يتجلى أيضا في العناية الكبيرة بتزيين العربة، وتجميلها وتزويدها بالوسائل المريحة للراكب، التي تشكل مظهرا جماليا وعامل جذب، كما يتطلب العمل معرفة مناطق المدينة وأزقتها إضافة إلى الاهتمام بنظافة العربة، وتزيينها أيضا بأشياء تراثية وتثبيت عدد كبير من الفسفور المختلفة الألوان خلف العربة وعلى جوانبها، وصنع ضفائر للخيل أيضا لإظهارها بمنظر لطيف يسر الراكب.
هذه المهنة التي عفا عليها الزمن، كانت هي سيدة الطريق، والعمل صيفا يستمر لساعات متأخرة من الليل ورزقها وفير، وكان أصحاب العربات يلتزمون في أوقات العمل مع التجار أو من النساء اللاتي يعملن في سلك التعليم لنقلهن الى مدارسهن، وخاصة الأيام الممطرة وصعوبة النقل لانعدام الطرق المعبدة سابقا.
يتكون الرَّبل على نوعين الأول (المستورد) والثاني (المحلي) والنوع الثاني يكون على شكلين أيضاً ما يجره حصان واحد وما يجره حصانان، والأخير كان يستعمل بكثرة في المحافظات. ولكل واحد منهما سعره الخاص
به إلّا أنَّ المستورد يفوق بسعره المصنوع محلياً بفارق كبير.
تبدأ عملية صنع العربة من الخطوة الأولى على يد نجارين متخصصين، حيث يقومون بتقطيع هذا النوع من الخشب بطريقة المساطر الخشبية، والزوايا اللازمة لصناعة العربة، حسب نوعيتها ، ولم تفقد هذه الصناعة ميزتها، رغم التقدم التكنولوجي الذي حصل في مجال صناعة الأخشاب ولم يتغير منها سوى اللون حيث تطلى بالألوان الزاهية التي يرغب فيها صاحب العربة ، فضلاً عن تزيين العربة بالعديد من أشكال السروج وهي المنقوشات التي اختص بها أبناء البادية ، كذلك تضاف أشكال أخرى من الجلد أو المطاط ، وفي السنوات اللاحقة أضيفت إلى العربة أشكال أخرى من الإكسسوارات.

          

أما الفوانيس التي تنصب إلى جانبي مكان جلوس (العربنجي)، فإنها كانت تصنع بشكل فلكلوري جميل في سوق الصفافير وبأشكال ملونة. كان سعر العربة آنذاك لا يتجاوز (40) ديناراً وهي الكلفة من دون الحصان، أما الحصان فيبلغ سعره بحدود (50) ديناراً.
تصنع العربة على يد حرفيين أكفاء، وتبدأ من الخطوة الأولى على يد نجارين متخصصين بصنع بدن الربل وجميع أجزائه من خشب التوت والحديد وجلد الجاموس، وبعض المواد الأخرى. وتكون هذه العربة مكشوفة الجوانب ومفتوحة من الأمام فهي صيفية أكثر مما هي شتائية. وتطلى العربة بالألوان الزاهية التي يرغبها صاحب العربة واللون السائد للعربة هو الأسود، وأضيفت إلى العربة في السنوات اللاحقة أشكال أخرى من الإكسسوارات، أما الفوانيس التي تنصب على جانبي مكان الجلوس، وكانت تصنع بشكل فولكلوري جميل وبأشكال ملونة. ويتكون الربل من مقعد أمامي مرتفع لسائق العربة، وعلى يمين وشمال مقعده قاعدة فانوسي كيروسين مخروطي الشكل، تنار ليلا وأسفل المقعد في مواجهة الأرض فانوس مشابه آخر، كما يلامس قدم السائق الذي يقود العربة عتلة المنبه الموصلة بجرس مثبت بحزام على بدن الحصان وهو شبيه بجرس الدراجة الهوائية.
أما الركاب فتطوق مقعدهم مظلة متحركة للخلف وأعلى الأمام تسمى الشمسية لونها اسود اقل ارتفاعا من مقعد السائق، وهذه المظلة تغطي الراكبين ليحفظهم من المطر في فصل الشتاء، وحرارة الشمس في فصل الصيف، وفي بعض الأحيان تكون مكشوفة، والمقاعد مغلفة بالجلد وعليها نقوش بديعة مرسومة بدقة، أو ومفروش بفرش من القماش الناعم المريح وأسفله دوشمة الإسفنج المثبتة على قاعدة المقعد الذي يواجه مقعدا آخر صغير للصبية ، وهذه المواد تصنع من قبل الحرفيين الشعبيين (السرّاجة) والمتخصصين بصناعة المواد والإداوة التي تحتاجها الربلات آنذاك.
متناهية، وفي الشتاء وأثناء سقوط الأمطار يتم تغطية الربل بقماش مشمّع مستطيل الشكل، توضع مقدمته فوق محل جلوس الحوذي (العربنچي) ويُنشر بقية المشمع فوق التنتة للحفاظ على الراكب من البلل ومن سقوط قطرات المطر داخل العربة، كما أنّ العربنجي يغطي رأسه وجسمه بمشمع مطري يسمونه (گبع).

   

وتسير العربة بأربع عجلات خشبية مغلفة بمادة (التاير)، ويجرها حصانان يفصل بينهما ما يسمى بـ(الاوخ) وتوضع في فم كل حصان ما يسمى (قنطرمة).
وفي بغداد كانت هناك أماكن لمبيت عربات الربل تسمى (الطولة) وجمعها (طوايل)، يعمل فيها أناسا متخصصون في رعاية الحصن وتهيئة الربلات صباحا مقابل أجور تدفع لهم، وهذه (الطوايل) منتشرة في بعض المناطق الشعبية البغدادية كالفضل وباب الشيخ والرحمانية وقنبر علي وغيرها. ومن عادة هذه (الطوايل) أن تفتح أبوابها في وقت الفجر، لأن اغلب (العربنجية) يخرجون للعمل مبكرين صباحا، خاصة أيام الأعياد والكسلات أيام العطل.
ومن لطائف أصحاب الربلات أن لهم تقاليدهم الجميلة فاذا مرض أحدهم قام الأخرون بمساعدة عائلته حتى شفائه كما أن لهم أهازيجهم الجميلة كأغنيتهم:
(ثكل إخذني وياك عيني أبو الربل)
ويبقى الربل رمزا تراثيا كبيرا وخالدا من رموز العراق القديمة
مصادر: وكالات – تواصل اجتماعي – نشر محرري الموقع
هاف بوست عراقي
دار العراق

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

896 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع