أيام زمان - / الجزء العاشر- الشناشيل

          

 أيام زمان الجزء العاشر- الشناشيل

   

الشناشيل ظهرت لأول مرة في العراق في مدينة البصرة، في القرن السابع عشر الميلادي، متأثرة بمثيلاتها التركية والهندية. وانتقل هذا الطراز الجميل إلى بغداد والبصرة وبقية مدن العراق، والأسلوب المعماري الذي امتازت به بيوت الشناشيل عن غيرها من بيوت المحلة، فقد أضفى عليها نكهة خاصة في تاريخ التراث البغدادي المعماري، وأن هذه البيوت تعتبر قطعًا فنية نادرة لما لها من جمالية في طرازها، وهندستها المعمارية. وكانت مناطقها توصف بالجميلة والغنيّة في أربعينات القرن الماضي، حيث أشتهر يهود العراق في التاريخ المعاصر ببنائهم لبيوت الشناشيل في أغلب مناطق سكناهم، ولكن وبعد خروجهم من العراق أصبحت اليوم تعاني من الإهمال بعد رحيل أهلها ولم تشهد أي عملية إعمار على مدى ثمانية عقود.

   

يصعب تحديد الزمن الذي ظهرت فيها الشـناشـيل على وجه الدقّة، لكن ما يمكن تأكيده هو أنّ عمليات تطويرها وتحسـين أدائها لم تتوقّف لمئات السـنين.
الشـناشـيل جميلة بكل شيء وليس في بنائها وتصميمها و زخرفتها بل في عبق مشاركتها في الفرح والحزن وفلسفة حياة على حد سواء، وربما البناء هو أيضا جزء من تلك الروحية الخالدة، في ذاكرة الكثير من العراقيين، ويتأسفون حينما يهدم بناء قديم من دون التفكير للحظة، بأنه يحمل بصمة معمارية وروحاً عراقية فريدة في ذاكرتهم، وخلال عشـرات السـنين قسـم كبير قد أضمحل، والقسم الآخر أصابه التدمير والانهيار والتهميش، نظراً للظروف التي مر بها البلد ولكن تبقى هذه البيوت ارث حضاري يخشى عليه من الاندثار فهو يحمل ذكريات الماضي الجميل. يعود بالذاكرة إلى مئات السنين خلت كانت تعج بمظاهر البساطة والترف الإنساني المليء بالحب والجمال وشيوع الألفة بين أبناء الحي الواحد، مجدولة بفيض العاطفة من حزن وحب وألم وأمل.
الشـناشـيل واحدة من العلامات المعمارية وسـمة من سـمات المجتمع العراقي بطبيعة حياته وعلاقاته المتداخلة والتي تكتنفها الألفة والمحبة والانسجام، وعموما فأنها تمتلك خاصية فنية في زخارفها وقرانيصها وأعمدتها وأبوابها وزجاجها الملون وغرفها. وهي بمثابة شـواهد على تاريخ شـهدته أجيال كثيرة على مر العصور وما زال بعضها شـامخا في كثير من المناطق، إذا كانت فناً من فنون الإبداع المعماري والبيئي والجمالي، وبالأخص في بغداد والبصرة.
يذكر أن الشناشيل وردت في الكثير من القصائد والقصص والروايات، وربما في مقدمتها قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (شناشيل ابنة الجلبي). كما جُسّدت في اللوحات التشكيلية والأعمال النحتية أيضاً، ناهيك عن الصور الفوتوغرافية، التي قدمها العديد من الأدباء والفنانين العراقيين. حيث كانت يوماً حكاية تروى، وغناءً يطرب له.
الشناشيل مفردة شنشول غير عربية، ويقال إن كلمة شناشيل تنحدر من أصل تركي، أو فارسي، أو غير ذلك، ولكنها ستبقى عراقية المنبع بعملها البنائي، وفنها المعماري والبيئي، وإن الكلمة مؤلفة من (شاه) بمعنى الملك و(شن) بمعنى المقصورة، فالشناشيل اسم له معنى خاص عند العراقيين، لما يحمله من عبق تراثي وتناغم، ما بين الفن وفلسفة الحياة، والهندسة المعمارية، والظروف المناخية والبيئية بطرازها الجميل.
هي شرفات خشبية مزخرفة هندسيًا بالرسم على الزجاج، تعمل على إبراز واجهة الطابق الثاني بأكمله أو غرفة من غرفه بشكل شرفة معلقة بارزة إلى الأمام، وأغلب مناطق الشناشيل تقع في أحياء شعبية تهيمن عليها روح التقاليد المحافظة بالبساطة، التي تجدها متجسدة في النساء اللاتي يفترشن عتبات تلك البيوت، بينما تقوم الفتيات بالنظر إلى المارة في الشارع من خلف النوافذ الخشبية المرصعة بالزجاج الملون، التي صممت كالشرفة. وهي التي تخفي العين التي وراءها وتمكن هذه العين من مراقبة عالم الشارع أو الزقاق.
كما أن الشناشيل تعكس خصوصية المجتمع الشـرقي حيث يمكن للمرأة أن ترى خارج البيت وليس العكس أضافه إلى توفيره للضلال في الأزقة الضيقة وكذلك كونه ماده عازلة للحرارة وماصة للصوت ولها جمالية تمثل روح الطبيعة. كما أنها تحفظ جدران الطابق الأرضي من أشـعة الشـمس الحارة في الصيف. تقدم الشناشيل التي عرفت بشكل خاص في البيوت المطلة على شارع الرشيد أيام زمان فوائد عدة منها جمالية وأخرى وظيفية فالناحية الجمالية تظهر في الزخرفة بأشـكالها المختلفة نباتية وهندسية الضافة الى إضفاء الجو العاطفي الرومانسي نتيجة الى تسرب أشعة الشمس من خلال الزجاج الملون فيضفي ذلك على البيت جمالا وتلوين، وتوفر الشـناشـيل المصطفة على طول أزقتها وأحيائها، الضيقة المظلمة مظلّة كبيرة وطويلة، يحتمي بها المشاة والمارّة من حرارة شمس الصيف، وأمطار الشـتاء، وتدفع تيارات من الهواء بينها ما يجعل المرور بينها في أيام الصيف اللاهب لطيفاً، وتزداد أهمية المظلة التي تطل إلى الخارج لمسافة متر تقريبا، عندما تطل الشـناشـيل من عشـرين الى ثلاثين منزلاً متجاوراً، ويقابلها عدد مماثل من المنازل، علماً أن هذا التقابل يجعل الأزقة بمنأى عن أشعة الشمس فضلا عما تؤلفه الشـناشيل في الزقاق الواحد من نسق معماري ذي أبعاد هندسية جميلة لأنها في ارتفاع واحد، سواء عن مستوى ارض الزقاق أو على مستوى إطلالتها أو طلعاتها الخارجية.
لقد تميز النمط البغدادي بتناغم متناسق بين الناحية الوظيفية والناحية الجمالية ، لقد راعى المعمار البغدادي عند تشييد الدار البغدادي الظروف المناخية وأحياءها ومحلاتها وجعل الشبابيك المطلة على الخارج قليلة الفتحات ومقاربة لشبابيك الجانب الآخر من الدور، وجعل الفسحات المكشوفة متجهة لوسط الدار ليوفر بذلك جواً مظللاً منوراً قدر الإمكان مراعياً الظروف الاجتماعية السائدة حينذاك، فكان الطابق الأول أو ما فوقه بأكمله أو غرفة من غرفه بشكل ناتئ الى الأمام، ويكون هذا البروز مصنوعاً من الخشب ومجملاً بزخارف هندسية وهي الشناشيل الخشبية باستخدام الزجاج المتعدد الألوان لتلطيف أشعة الشمس عند مرورها داخل البيت وغرفه.
الشناشيل يعود انتشارها في حواضر الدولة العربية الإسلامية إلى العصر الفاطمي، حيث تطورت العمارة العربية، وأضفوا الكثير من الزخرفة الخشبية المكونة بتعريشة نباتية للمُيَسّرين والتجار، وبالتأكيد اخذ الفاطميون بعض تقنية الشناشيل من الدول التي تاجروا معها وخاصة الهند وإسطنبول.
انتشـرت الشـناشـيل المشـربية في الفترة العباسـية (750 – 1258) واسـتخدمت في القصور وعامة المباني وعلى نطاق واسـع، إلا أن أوج اسـتخدامها كان في العصر العثماني (1805 – 1517) حين وصلت إلى أبهى صورها وانتشرت انتشـاراً شـبه كامل في العراق والشـام ومصر والجزيرة العربية، وذلك لأنّ استخدامها في مختلف المباني، أثبت فعاليّة كبيرة في الوصول إلى بيئة داخليّة مريحة وفعالة، بالرغم من الظروف الخارجيّة شـديدة الحرارة، ومع انتشـار الشـناشـيل أو ما تسمى (المشـربيات ) في البلاد الأخرى عامّة، ظهرت أنماط وأشـكال مختلفة من المشـربيات ـ الشـناشـيل، تبعاً لنوع الخشـب المسـتخدم وإتقان حرفة تشـكيل الخشـب وتجميعه، إلا أنّها جميعاً تشـترك في أصل واحد وطريقة عمل واحدة.
وإن تسـمية مشـربية مشـتقة من اللفظة العربية (شـرب) وتعني في الأصل مكان الشـرب، وكانت في الماضي عبارة عن حيّز بارز ذي فتحة منخليه، توضع فيها جرار الماء الصغيرة لتبرد بفعل التبخر الناتج عن تحرك الهواء عبر الفتحة، ومن هنا عرفت المشـربيّة بهذا الاسـم، إذ إنّ آنية الماء توضع فيه لتبريدها، ولتبريد الهواء المار فوقها، لأن الأواني الفخارية يدوية الصنع كانت ترص داخل صينية نحاسية لامعة، توضع وراء المشربية لتزداد مياهها برودة طبيعية منعشة، عندما يمر الهواء على الأواني المسامية، وكانت هذه الأواني تقفل وتزين فوهتها بغطاء نحاس رشيق، تلميعه كان من ضمن مهام فتيات الدار، ويمكن استخدام كلمة المشربية بديلا عن لفظة الشناشيل، لكنها كانت ستؤدي الى ضياع خصوصية الشناشيل البغدادية والبصراوية ذات الخصوصية العميقة في باقي مشربيات العالم العربي.

        

ويذكر المؤرخون بان خشب "الجاوي" كان يستخدم وهو النوع المفضل في العمائر البصرية، وكان سكان البصرة القدامى المتمكنين يعمدون إلى طلاء شبابيك الشناشيل بالدهان العطري، ويلاحظ أن شريطا "إبْزيما" يربط أجزاء الشناشيل بعضها ببعض لكي تكون ذات متانة قوية تستمر عقود من الدهر.
إضافة إلى أنها تعتمد على أعمدة ملساء ومضلعة وتعلوها تيجان مقرنصة، في حين عمد الفنانون إلى تزويدها بفصوص مدببة أو مسننة وأحيانا ثلاثية الفصوص وهذه الأشكال تتباين حسب الإمكانية المادية والذوق لصاحب البناء، وقد تأخذ نقوش شبكية، ويلاحظ أن الفتحات العليا للأقواس أوسع من الفتحات السفلى وذلك لأنها تحتضن أنواع الزجاج المشجّر والملوّن، ويلاحظ في بعض الشناشيل أن السقوف والسلالم تُشْمل بالزخرفة والتلوين. نظراً لطبيعة العمارة دائمة التقلّب والتطوّر.
للشناشيل استخدامات ووظائف حيث تقوم بضبط درجات الحرارة صيفاً، إنّ أكبر مسـبب لارتفاع درجات الحرارة في الفراغات المعماريّة الداخليّة، هو الكسـب الحراري المباشـر من أشـعّة الشـمس، وبالتالي فإنّه ينصح تجنّب الأشـعّة السـاقطة على النوافذ بزاوية سـقوط كبيرة ومباشـرة، والاكتفاء بالوهج المنعكس الأقل كثافة الذي لا يسـبب الكسـب الحراري للداخل. وبما أنّ المشـربيّة سـمحت بالفتحات الكبيرة في الجدران فقد أصبح من الممكن لتيّار ثابت من الهواء أن يمر عبر فتحاتها الصغيرة إلى داخل الغرف، مما يسـاعد مسـتخدمي المكان على فقد الحرارة من أجسـامهم عن طريق التعرّق. وقد اعتاد السـكّان المحليّون على وضع آواني الشـرب الفخاريّة في المشـربيّات، مما سـمح للهواء الداخل إلى المبنى أن يفقد من حرارته عن طريق تبخير أجزاء من مياه الشـرب في الآنية، وبالتالي يدخل الهواء البارد “نسـبيّا” إلى الغرف.
وكذلك ضبط درجات الحرارة شـتاءً، يسـمح تصميم القضبان وفتحات المشـربيّة لأشـعّة الشـمس في الشـتاء بالدخول إلى الفراغ المعماري الداخلي، حيث يتم تصميم هذه الفتحات والأخذ بعين الاعتبار زوايا سـقوط الشـمس شـتاءً (حيث أنها تكون أقرب إلى الأرض) وبالتالي يزيد ذلك من درجة حرارة الداخل ويشـعر السـكّان بالدفء. إنّ نقطة تحوّل المشـربيّة من أداة لتلطيف الجو الحار إلى أداه للحفاظ على درجات الحرارة شـتاءً هي نقطة حرجة، لذا يجب على الحرفي والمعماري أن يفهم تماماً عمل المشـربيّة واسـتجابتها لأشـعّة الشـمس في كلا الفصلين.
وتعمل على ضبط مرور الضوء، على المصمم أن يختار المسـافات الفاصلة وحجم قضبان مناسـب للمشـربيّة التي تغطّي فتحة في الواجهة بحيث تعترض الإشـعاع الشـمسي المباشـر، في الواجهات الجنوبيّة يسـتخدم مشـبك ذا مسـافات فاصلة صغيرة. ويقلل التدرّج في شـدّة الضوء (التدرّج الناتج عن سـقوطه على القضبان دائريّة المقطع) من حدّة التباين بين سـواد القضبان (غير المنفّذة للضوء) وشـدّة الوهج بينها، لذلك فإن عين الناظر لا تبهر من هذا التباين بين السـواد والبياض، بعكس ما يحدث عند استخدام كاسـرات الشـمس. ويفضّل أن تكون قضبان المشـربيّة التي تقع على مسـتوى الإنسـان قريبة من بعضها البعض، لزيادة الانكسـارات في الضوء المار من خلالها، فتخفف من الإبهار الناتج من أشـعة الشـمس ومكوّنات المشـربيّة، ولتعويض نقص الإضاءة في المسـتوى السفلي، يفضّل زيادة المسـافة بين القضبان كلّما اتجهنا إلى الأعلى. والاهم تعمل على ضبط تدفّق الهواء توفّر المشـربيّة ذات الفتحات الكبيرة الواضحة فراغات أكبر في المشـبك، مما يساعد على تدفّق الهواء داخل الغرفة، أمّا عندما تتطلّب اعتبارات الإنارة فتحات ضيّقة لتقليل الإبهار، فإنّ تدفّق الهواء ينقص بشـكل ملحوظ. يعوّض هذا النقص السـلبي لتدفّق الهواء من خلال فتحات أكبر بين قضبان المشـربيّة في الجزء العلوي منها.

          

وفي الختام ضرورة أن تولي الدولة اهتمامًا كبيرًا بهذه المناطق الأثرية، التي تعتبر جزءًا مهمًا من تاريخ العراق، وألهمت بسحرها الأدب العراقي والإبداع الفكري والمعرفي، وتعيد تعمير الدور التي تعرضت للانهيار أو الهدم نتيجة الإهمال.
المصدر:
الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية مناف العبيدي
الشرق الأوسط ـ الخليج أونلاين
الشـناشـيل ج1 زينة الألوسي.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

729 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع