تنبؤات جدتي
كنا نسكن محافظة بغداد وفي العطلة المدرسية الصيفية من كل عام نقوم بزيارة الأقارب الساكنين ناحية خليفان التابعة لقضاء راوندوز/ محافظة أربيل وهذا ما حصل في صيف عام 1958 عندما وقع انقلاب 14 تموز وكنت في الثانية عشرة من عمري وبالرغم من ذلك فإنني لا أنسى تداعيات وردود الفعل بين مواطني تلك الناحية وأقربائي على الخصوص والذين فرحوا وابتهجوا بسقوط النظام الملكي في العراق ومقتل العائلة المالكة شانهم شأن معظم ألوان وأطياف الشعب العراقي إلا أن الشيء الذي جلب انتباهي هو الحالة غير الطبيعية التي كانت عليها جدتي (مريم) يرحمها الله فقد كانت فاقدة لصوابها وهي تبكي وتصرخ وتنذر المحتفلين من أبنائها وأقاربها بمصير أسود وتتوعد العراقيين بانتقام الله سبحانه وتعالى جراء اقتراف الانقلابيين لهذه الجريمة الشنعاء وقتلهم العائلة المالكة والشاب البريء ملك العراق (فيصل الثاني) الذي اغتيل غدراً , وكانوا هم مستمرين على ممارسة احتفالهم بهذه المناسبة من خلال أداء الأغاني والدبكات ويستهزئون بجدتي ومليكها...
الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام محمد عارف
لقد استمرت في البكاء والنحيب لأيام عديدة وأكثر ما كان يزعجها هو صوت المذياع والذي كانت تنبعث منه اصوات الاناشيد وصرخات المذيعين وتطلب غلق المذياع وإسكات أصوات الكفرة الظالمين الذين قتلوا سليل الدوحة الهاشمية مع استمرارها بين الحين والحين في رفع كفيها للسماء وهي تطلب من الله عزت قدرته الانتقام من القتلة المجرمين , لقد دفعني الفضول
العائلة المالكة في العراق
لاستفسر من جدتي عن سبب تأثرها الشديد من مقتل العائلة المالكة والملك (فيصل الثاني) بشكل خاص دون سواها من النسوة في العائلة والعشيرة فعاودها البكاء وأخذت تسرد لي حكايتها مع المرحوم الملك (فيصل الثاني) ملك العراق وموقفه النبيل منها والذي لا يمكن أن تنساه ... ذاكرة بأن ابنها البكر (شيخ محمد) صدر عليه حكم بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً من قبل محكمة الجزاء الكبرى في محافظة أربيل عام 1948 بسبب مقتل أحد الاشخاص في نزاع عشائري وتواجده في مسرح الجريمة بحكم قرابته من أحد طرفي النزاع , ونقل الى سجن لواء الرمادي (محافظة الأنبار) لتنفيذ مدة محكوميته هناك .
( مريم ) (شيخ محمد )
صدمت جدتي بقرار الحكم على ولدها وأصبحت بحالة نفسية سيئة للغاية حيث ذهب ابنها للسجن بجريرة غيره وأخذت تتوسل وتبحث عن كافة السبل من أجل انقاذ ابنها العزيز على قلبها من قيود هذا الحكم الجائر بحقه , وكانت لمفارقته الوقع المؤثر لاسيما وأنها لم تفارقه منذ ولادته ولغاية تاريخ توقيفه عن هذه القضية التي نحن بصدد الحديث عنها وحكم عليه بسبب الصدفة التي قادته للتواجد في مسرح الجريمة عند ارتكابها.
الملك فيصل الثاني ملك العراق
كان لجدتي قريبة كانت تعمل خادمة في القصر الملكي (قصر الرحاب) منذ صغرها ولحين بلوغها سن الزواج حيث تم اعادتها الى ذويها الساكنين ناحية خليفان وتزوجت بعد فترة قصيرة من عودتها , دفعت الحاجة جدتي الى مفاتحتها لغرض مرافقتها الى العاصمة بغداد ومقابلة العائلة المالكة والتوسط لديهم لغرض اطلاق سراح ولدها باعتبارها كانت تعمل عندهم لفترة طويلة وكانت على علاقة ومعرفة مع أغلب أفراد العائلة المالكة وخاصة النساء منهم.
وفعلاً اتفقتا وعقدتا العزم للسفر الى العاصمة بغداد وأصبحتا ضيفتين مكرمتين لدى هذه العائلة وأصبحتا محط اهتمام الملكة (عالية ) والدة ملك العراق (فيصل الثاني) وباقي أفراد العائلة.
الملك فيصل الثاني ووالدته الملكة عالية
أبقت الملكة (عالية) ضيفتيها في القصر لحين البت والانتهاء من اجراءات النظر في شكوى جدتي وإطلاق سراح ابنها , وأوكلت ذلك إلى شقيقها الوصي على عرش العراق (عبد الإله) بسبب عدم بلوغ الملك (فيصل الثاني) سن الرشد الذي يؤهله لاستلام مسؤولياته كملك على العراق.
(مصطفى)
كانت جدتي وزميلتها ومعها طفلها الصغير الرضيع (مصطفى) والذي كان مثار اهتمام الملك (فيصل الثاني) حيث كان يداعبه ويحتضنه باستمرار... امضوا فترة بقائهم هناك في القصر الملكي ومع العائلة المالكة , أثمرت جهود الملكة (عالية) من خلال شقيقها الوصي (عبد الإله) والذي اصدر ارادة ملكية وبعد ما يقارب العشرون يوماً على اطلاق سراح خالي (شيخ محمد) وتسليمه إلى جدتي (مريم) وتوديعهم بحفاوة بالغة من قبل العائلة المالكة وبقبلة على خد الطفل (مصطفى) من قبل ملك العراق الصغير (فيصل الثاني).
انتهت جدتي من سرد حكايتها مع هذه العائلة الكريمة والدموع لا تفارق عينيها وهي تخاطبني قائلة : (( يا بني هل عرفت لماذا أنا متأثرة من ما حصل لهذه العائلة الكريمة وهؤلاء المجرمون القتلة لن يغفر الله لهم فعلتهم النكراء وسيقتص منهم في الدنيا وفي الآخرة وسترى ما سيحل بهم من غضب الله سبحانه وتعالى , والشعب العراقي لن يشعر بالراحة بعد اليوم وسيندم ويتحسر على أيام الملك المغدور فيصل )) مع استمرارها بين الحين والحين في رفع كفيها للسماء وهي تطلب من الله عزت قدرته الانتقام من القتلة.
النقيب عبد الستار سبع العبوسي
نعود للحديث عن انقلاب 14 تموز 1958 وإبادة العائلة المالكة صبيحة ذلك اليوم الاسود بأبشع صورة وقتل الانقلابيين بدم بارد جميع أفراد هذه العائلة في قصر الرحاب عندما خرجوا واصطفوا في باحة القصر وقام النقيب (عبد الستار سبع العبوسي) بفتح النار عليهم من الخلف من غدارة كان يحملها بالرغم من قيام جدة الملك (نفيسه) برفع القرآن الكريم فوق رأس الملك وتوسلها بالمذكور وجنوده الذين شاركوا المذكور في القضاء على هذه العائلة وتبجحه عند لقائه في نفس اليوم العقيد (عبد السلام محمد عارف ) أحد منفذي الانقلاب بأنه قتل جميع أفراد العائلة المالكة المتواجدون في قصر الرحاب صباح ذلك اليوم فأجابه المذكور : (( عفارم زين سويت))
عبد الإله ونوري السعيد
وما حصل بعد ذلك من أعمال يندى لها الجبين عندما قام الغوغاء بأعمال القتل والسحل والتمثيل بالجثث كما حصل ذلك مع جثتي (عبد الإله ونوري السعيد ) وتحت أنظار القائمين بالانقلاب , لقد تركت هذه الأعمال المنافية لأبسط القيم السماوية والإنسانية أثرها البليغ في نفوس الشرفاء من أبناء الشعب العراقي وشعوب العالم قاطبة الذين وصلتهم أخبار هذه المجزرة البشعة.
لقد تحققت تنبؤات جدتي من قصاص الله جلت قدرته فهو يمهل ولا يهمل سواء أكان القصاص على مخططي ومنفذي الانقلاب وأعمال القتل الذين نالوا جزائهم حيث قتل أغلبهم أو ماتوا في ظروف غامضة فهذا (عبد الكريم قاسم) قائد الانقلاب أطيح به في انقلاب 8 شباط 1963 وقتل بعد محاكمة صورية في صالة الموسيقى لمحطة تلفزيون بغداد من قبل زملائه الذين كانوا معه ضمن تنظيمات الضباط الأحرار القائمين بالانقلاب
أما زميله وعدوه لاحقاً (عبد السلام محمد عارف) فقد قتل في حادث سقوط طائرة الهليوكوبتر التي كانت تقله في مدينة البصرة في منطقة النشوة عام 1966 ولا مجال لذكر مصير المساهمين الآخرين في هذا الانقلاب إلا أنه لا بد من التطرق الى مصير قاتل العائلة المالكة النقيب (عبد الستار سبع العبوسي) والذي أصيب بعد الحادث بانفعالات نفسية ومعاناة حرمته من النوم والراحة حيث أصبحت أشباح هذه العائلة وعلى الخصوص شبح الملك المغدور (فيصل) تطارده في منامه , حيث كان يأتيه في كل ليلة بملابس بيضاء ويقول له : (( لماذا قتلتني ؟هل أصابك ضرر مني؟ هل قمت بخطأ ما ؟ لماذا حرمتني لذة الحياة وأنا في ريعان الصبا ؟ ))
الملك فيصل الثاني مع خاله عبد الإله
تردت حالته العقلية والنفسية ولم يستطع الاستمرار في هذه الحالة التي كان عليها وأراد التخلص من عذاب الضمير فانتحر بمسدسه الشخصي عام 1970 وكان برتبة عقيد ركن في الجيش العراقي , لأن الروح المظلومة تطارد قاتلها.
أما عن حالة الشعب العراقي بعد هذا الانقلاب حيث توالت الأحداث المأساوية والصراعات السياسية والأيدلوجية والطائفية المصاحبة لتوالي الانقلابات وارتكبت بحق الشعب العراقي الكثير من المآسي والجرائم وأصبح العراق نهباً مشاعاً للمغامرين والجهلة الذين ساهموا في تدميره والقضاء على مقومات نهضته وتطوره , حيث ضاعت أمواله وتعطل البناء والعراق في تراجع مستمر حتى أصبحنا في الحضيض وصنفنا مع الدول المتخلفة بعد أن كنا في مقدمة دول العالم الثالث وكيف لا بعد أن أصبح ربع الشعب العراقي مهجراً في داخل بلده أو في البلدان المجاورة وباقي دول العالم.
قارئي العزيز:
استميحك عذراً عن الاطالة ولكن وقبل إزدال الستار عن هذه المشاهد المأساوية التمس منكم أن تتخيلوا كيف كان سيكون حال العراق فيما لو استمر النظام الملكي فيه ولا بأس ومن خلاله أن ننظر إلى ما وصلت إليه حال جارته المملكة الأردنية الهاشمية , حيث التطور والبناء في كافة الصعد والمجالات مع الأخذ بنظر الاعتبار الفرق الشاسع بين الدولتين من حيث الموارد والإمكانيات.
691 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع