تسيبي ليفني - هكذا تم تجنيد حسين الشهرستاني جاسوساً في الموساد الصهيوني!!
إن أول ما يلفت الانتباه له عند مطالعة السيرة الذاتية لزعيمة حزب كاديما الجديدة، ووزيرة خارجية اسرائيل السابقة، تسيبي ليفني، هي أنها بدأت نشاطها كجاسوسة، من الدرجة الأولى في خدمة جهاز الموساد الصهيوني. وكأي جاسوسة محترفة تأخذ دورا سياسيا فإنها التزمت بصمت أبي الهول حول ادوارها القاتلة في باريس، وهي حتى الآن لم تتحدث بعد عن إنخراطها السابق في منظومات الإستخبارات الاسرائيلية والأجنبية خلال الثمانينيات من القرن الماضي، رغم أن هناك تقارير خاصة وعديدة عنها، ربطت اسمها بالعمل، كجاسوسة إسرائيلية كانت نشطة في فرنسا، أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، توزع عملها ما بين جمع المعلومات عن "إرهابيين عرب في أوروبا"[حسب الوصف الاسرائيلي]، إلى العمل كمدبرة منزلية، والإشراف على عدد من الإقامات المشبوهة في العاصمة الفرنسية لمن يطلبها من السواح والزوار والدبلوماسيين العرب. ومن هناك نجحت ليفني وانطلقت في تنفيذ عمليات الإغتيال واستدراج وإسقاط العديد من الاشخاص العرب وغيرهم المستهدفين من قبل الموساد، ونجحت في تجنيد العديد منهم، ومنهم سفراء عرب كزين العابدين بن علي، وعدد من موظفي السلك الدبلوماسي العربي في باريس.
خطورة عمل ليفني مع الموساد في تلك الفترة تكمن في أنها كانت في وحدة النخبة، "بحسب وصف أفرام هالفي"، المدير السابق للموساد، والذي لأسباب أمنية لازال يرفض إعطاء تفاصيل أكثر عن المهمات القذرة التي قامت بها ليفني، ونفذتها في الفترة ما بين عامي 1980 و 1984.
ليفني، الشابة الجميلة، اليهودية البولندية الأصل، كانت تتحدث اللغة الفرنسية والانجليزية بطلاقة، إضافة الى لغتها الام البولندية. عملت في باريس التي كانت، وقتئذ، ساحة لمعارك طاحنة بين الموساد وعدد من قيادات الفصائل الفلسطينية،
وباريس كانت قبلة النشاط العراقي الدبلوماسي والسياسي والامني، لتحقيق طموحات قيادة العراق النووية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، خاصة بعد توقيع الاتفاقيات النووية للتعاون مع فرنسا لأجل بناء مفاعل تموز النووي، الذي تم تأخيره ومن ثم الأمر بتدمير وتخريب أجزاء منه مرارا في مراحل بنائه في فرنسا، ومن ثم القرار بتدميره بعد أن تم انجازه واستكمال بنائه والاقتراب من لحظة تشغيله على ارض العراق، من خلال مناورة قصفه جوياً من قبل طائرات العدو الصهيوني. رغم ان التخريب والتفجير قد تم من داخله على ايادي احد المخربين الفرنسيين المجندين والتعاون مع الموساد.
ليفني كانت هناك في باريس مصدرا هاماً في تزويد الاستخبارات الإسرائيلية بما تطلبه حول مراحل تنفيذ وانجاز حلقات بناء المفاعل والتعرف على الكوادر الهندسية والعلمية العراقية المكلفة بانجازه.
وبعد تجربة طويلة وتدريب مضني انخرطت ليفني خلالها في صفوف الموساد عن طريق صديقة طفولتها "ميرا غال" التي خدمت بالموساد 20 عاماً، وهي لازالت الى جنبها تعمل كمديرة لمكتب ليفني. وكباقي المتطوعين والمنخرطين الجدد في جهاز الموساد، قامت ليفني بأعمال ضمن النشاط الطلابي والشباني لإختراق النخب الفرنسية والعربية بباريس. قدمت نفسها هناك، كبولونية، و تنقلت في القارة الأوربية، أين خاضت العديد من الإختبارات التي لا تخلو في معظمها من المخاطر، وتركزت معظم مهامها بالعمل كخادمة أو مدبرة منزلية أو تسهيل الإيواء للسواح والطلاب وكراء البيوت والتنصت على ساكنيها، كما تم الربط بشبكات الدعارة الخاصة لاصطياد الزبائن المطلوبين للرصد والمراقبة وتنفيذ التصفية الجسدية.
بعد العمل في المنازل انطلقت ليفني للعمل الميداني، حيث تلقت تدريبات حول كيفية تجنيد الجواسيس، وجمع المعلومات في وقت كانت إسرائيل تواجه خصومها ألكُثر في الساحة الفرنسية، خاصة بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وانتقال معظم كوادرها إلى تونس، والاقتراب من الساحة الفرنسية. وهكذا أضحت باريس المركز الامني المتقدم للموساد.
ولا بد من التذكير أيضا هنا انه من المعروف، منذ حرب جوان/حزيران 1967 وإسرائيل تتخذ من باريس محوراً لعملياتها في أوروبا، بسبب العلاقات الطيبة والتنسيق الواسع بين جهاز الموساد مع الأجهزة الإستخباراتية الفرنسية ، لاستهداف عدد من القيادات الفلسطينية التي اختارت باريس للعيش والإقامة فيها.
إضافة إلى ذلك كان عدد من عملاء الموساد، من خارج حلقة باريس، يقومون بعمليات اغتيال واختراق لعدد من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، منهم: كارلوس و أبي نضال... وغيرهم من خلال القيام بعمليات قتل واعتيالات غالباً ما كانت تنسب لهذين الرجلين.
عملاء الموساد، ومن ضمنهم ليفني، عملوا على إحباط مخططات الرئيس الراحل صدام حسين لبناء مفاعل نووي عراقي بمساعدة فرنسية، ففي حزيران من عام 1980 وجد عالم نووي عراقي مُغتالاُ وهو " الدكتور المشد وهو من اصل مصري"، كان يعمل بالبرنامج النووي العراقي، وجد مقتولاً في غرفته بالفندق.
اتجهت أصابع الاتهام نحو الموساد، ولكن الفاعلين وجهوا الانظار بفبركة الجريمة وتوجيهها من خلال اعترافات واحدة من فتيات الليل التابعات لشبكة ليفني، التي ادعت بأنها اكتشفت أمر الجريمة بعد سماعها أصواتاً تنبعث من غرفة العالم النووي العراقي المجاورة لغرفتها. لقد تم قتل تلك المومس بعد شهر من ذلك الحادث في ظروف غامضة لإخفاء سير التحقيق الذي بدأت به المصالح الفرنسية آنذاك.
في عديد من كتابات الاسرائيليين حول نشاط الموساد في أوربا يتم التمويه والتغطية على اسم حسين الشهرستاني، وعند القراءات المتأنية لتلك الكتابات، لا يمكن استبعاد دور ليفني في الساحة الباريسية من قضية تجنيده، وهناك من الكتابات المموهة لاسرائيليين في نصوص مذكراتهم لا تخفي أن شبكتها كانت وراء تجنيد وإسقاط[عالم ذرة عراقي]. كل الدلائل تشير الى أن "عالم الذرة العراقي" المقصود بتلك الكتابات هو حسين الشهرستاني الذي تم ربطه في شبكة تجسس كانت تعمل مع الموساد الاسرائيلي بباريس.
تم الارتباط في مراحله الاولى تم عن طريق إستدراجه، بشكل غير مباشر، حتى تم توريطه من دون علمه في البداية، ومن ثم تمت مصارحته بالأمر الواقع، وابتزازه بفضح علاقته وما قدمه من خدمات تجسسية حول مشاريع كان مكلفا بها، حتى قبل في نهاية الامر التعاون معهم بشكل تام وبطاعة تامة.
ظل التكتم عليه حتى بعد اعتقاله في العراق بتهمة أخرى[ هو الانتساب لحزب الدعوة المحضور]، ومن ثم تمت مساعدته على الهرب بعد "حرب الكويت"، وتمت مساعدته للهروب الى الخارج عن طريق كردستان العراق، ومن ثم الى أوربا وبقي هناك حتى عاد بعد غزو العراق من قبل القوات الامريكية.
وصل الشهرستاني الى السلطة كوزير للكهرباء والطاقة ومن ثم للنفط العراقي ضمن تشكيلات الائتلاف الشيعي الذي يقوده عبد العزيز الحكيم في العراق. هذا هو الحاضر للشهرستاني، اما الماضي فلا زال قيد التحقيق الموضوعي لكشف دوره وانخراطه في تدمير مشروع العراق النووي. لذا لا بد من الاحاطة ببعض الامور المتعلقة بدوره بالعودة الى محطات سابقة، هي ممهدات سقوط الشهرستناني في فخ الجوسسة والتعاون ضد طموحاتى العراق النووية.
مناحيم بيغين، وبيريز، كانا يتابعان أولا بأول المشروع النووي العراقي، حذرا فرنسا مسبقا في ذلك الوقت، وتمنى مناحيم بيغن، الذي كان رئيسا لحكومة العدو على فرنسا: أن تكون قد تعلمت درساً قاسياً، كي تتوقف عن مساندة البرنامج النووي العراقي.
وبعد ذلك بنحو عام تم قصف المفاعل النووي العراقي، بتدبير وتنسيق مع الفرنسيين أنفسهم حيث تشير المعلومات إن أحد الخبراء الفرنسيين من عملاء الموساد، قد وضع المتفجرات في قلب المفاعل النووي، أثناء الغارة الاسرائيلية، وقتل العميل الفرنسي، داخل المفاعل، قبل أن يتمكن من الخروج من المفاعل للالتحاق ببقية زملائه الذين نظموا سفرة جماعية الى خارج منطقة التويثة. طبعا هذا خلاف ما تم ترويجه إعلاميا: بأن المفاعل النووي العراقي تم تدميره بواسطة غارة جوية اسرائيلية.
هناك تقرير فرنسي قد كشف سابقا أن تسيبي ليفني كانت ضمن الوحدة الخاصة التي دست السم أيضا لعالم نووي عراقي آخر قتل في باريس عام 1983، كان الضحية العراقيةن من المهمدسين المدنيين الاكفاء الأكراد، وكان مسؤولاً عن اعداد المنشئات المدنية لبنايات المركز النووي العراقي، تمت تصفيته بصمت خلال زيارته لباريس.
علينا ان نعيد عقارب الساعة الى الوراء والتوقف سريعا عند بعض المحطات من تاريخ المؤآمرة ا لقذرة لتصفية المشروع النووي العراقي، منذ بداية تطلعات القيادة العراقية ليصبح العراق دولة نووية.
يمكن العودة الى تشرين ثاني/اكتوبر 1974، عندما وصلت لجنة عراقية الى باريس لتدرس وتطلب امكانيات الحصول على المساعدة التقنية الفرنسية لبناء مفاعل نووي عراقي ثان، يضاف الى المفاعل النووي السوفيتي الصنع المستخدم للاغراض التدريبية والتجريبية المحدودة. وبعد شهر من اقامة اللجنة العراقية في باريس، إلتقت اللجنة برئيس الوزراء الفرنسي آنذاك "جاك شيراك". بعدها تمت زيارة "جاك شيراك" الى العراق، وطرحت خلال زيارته لبغداد في محادثاته مع نائب رئيس الجمهورية آنذاك صدام حسين اولى الترتيبات للاتفاق النووي العراقي الفرنسي. وعد الفرنسيون بمساعدة العراق لبناء مفاعل نووي ثان بعد المفاعل السوفيتي الاول المُعد للأغراض السلمية.
كلف وزير الصناعات الفرنسي "ميشيل أورنانو" بمتابعة ملف المفاوضات مع العراق. وفي اكتوبر/تشرين ثاني 1976 اعطى الوزير الاول الفرنسي "ريمون بار" إشارة الضوء الأخضر لتنفيذ الاتفاق. وتتواجد تفاصيل الإتفاق في بعض الوثائق التي تسربت أخيرا من وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية الى النشر على الانترنيت والكتابات الخاصة بالعراق.
جاء في تلك الوثائق، وفي وثائق أخرى، منها ما كانت رسمية ومنها غير الرسمية ذات صلة بالموضوع، تفاصيل عن تاريخ ومواقع العمل والتنفيذ لحلقات المشروع، كما عُرفت تفاصيل المفاوضات التي جرت بين باريس وبغداد لتنتهي العاصمتان الى تبادل العديد من الرسائل السرية للغاية.
الاتفاقية تم امضائها بتاريخ 10/9/1975 ما بين وزير الصناعة الفرنسي ووزير التخطيط العراقي آنذاك عدنان الحمداني،عضو القيادة القطرية لحزب البعث. كان الحمداني من أقرب المقربين للرئيس العراقي صدام حسين، وتم تكليفه بوضع برنامج وصيغ للاتفاقيات التي تنتهي باتفاق حكومي شامل للتنفيذ.
وتم الاتفاق على بناء مفاعل نووي بطاقة 40 ميجا واط، يشابه المفاعل النووي الفرنسي الموجود في موقع "ساكلي"، جنوب باريس، سُمي "اوزيريس Osiris" والذي يصاحبه مفاعل صغير يدعى "إيزيز Isis" بطاقة 800 كيلو واط. المفاعل كان يطلق عليه بين الخبراء أحيانا "المفاعل الصفري"، وهو من نفس نوعية مفاعل "ديمونا" الموجود في جنوب اسرائيل بصحراء النقب، وهو المفاعل الذي سبق استخدام "اوزيريس" في ساكلي، والأخير كان حديث نسبيا.
وضع البرنامج النووي بالتعاون مع فرنسا لكي يتم تنفيذه على مراحل:
ـ وصول تقنيين عراقيين للتدريب في فرنسا في المحطة الكهرونووية المركزية في "ساكلي".
ـ ارسال بعثة من الاخصائيين الفرنسيين الى مركز الأبحاث النووية ببغداد لغرض الإعداد لبناء مفاعل نووي للأبحاث مطابق لنموذج "اوزيريس الفرنسي Osiris"، وبضمانات فرنسية لمدة 15 سنة.
اطلق الفرنسيون على اسم المفاعل "أوزيراك"؛ في حين أسمته لجنة الطاقة الذرية العراقية إسم " مفاعل 17 تموز "؛ ليكون المفاعل الثاني للعراق، بعد المفاعل السوفيتي الأول المنجز في نهاية الستينيات المسمى آنذاك "مفاعل 14 تموز" في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم.
ـ بناء وحدة تشغيل كهربائية بطاقة (600-900) ميجا واط، من قبل مؤسسة "فرام أتوم"، يبدأ العمل فيها عام 1983.
وإضافة الى التجهيز والتشييد للمفاعل "اوزيراك"، ومفاعل " إيزيز" تضمن العقد مع فرنسا:
اولا : تجهيز منظومات لستة تجارب هندسية وفيزيائية مختلفة لدراسة مواصفات الوقود النووي، ودورات تبريده، وخصائص المواد. وتشغيل منظومات هذه التجارب يتم بعد وضعها داخل حوض المفاعل. وكذلك يتم بناء وتجهيز الورشات والمختبرات والخلايا الحارة " أي المتعاملة مع المواد المشعة "، إضافة الى محطة لمعالجة النفايات المشعة.
ثانيا : تدريب الكوادر العراقية على تشغيل وإدامة وصيانة المفاعل الجديد، إضافة الى اكتساب الخبرات الأخرى في الفحوصات والقياسات والتجارب وتشغيل المختبرات الحارة وتشغيل وصيانة محطة معالجة النفايات.
رشحت العديد من الكوادر العراقية للتدريب في مراكز المفوضية العليا للطاقة الذرية الفرنسية ووصلوا الخبراء الى فرنسا تباعا، بدءاً من منتصف عام 1979. وقد سبقهم الى باريس منذ عام 1978 الدكتور حسين الشهرستاني وغيره من الكوادر العراقية، ذات الصلة بالتنسيق مع الجانب الفرنسي.
يقدم د. حسين الشهرستانى (65 عاما) بأنه هو عالم عراقى، حاصل على شهادة الدكتوراه فى الكيمياء الذرية من جامعة تورنتو الكندية، وهو الآن يتولى منصب نائب رئيس الوزراء، نورى المالكى، لشئون الطاقة، وهو الذى يشرف من خلال رئاسته لمجلس الطاقة، على عمل وزارات النفط والكهرباء والعلوم والتكنولوجيا والموارد المائية والبيئة... الخ.
وقبل ذلك كان المعروف في العراق، ومن خلال العديد من الكتابات المنشورة حول الموضوع، ان د. حسين الشهرستاني كان يحمل شهادة الدكتوراه في الكيمياء الذرية من جامعة تورنتو الكندية، وقد تم اختياره ضمن الكوادر العراقية التي كلف ببناء مفاعل تموز الذي حددت مهامه كونه مفاعلا عراقيا للأغراض السلمية. وحول قضية اعتقاله خلال العام 1979 جرى التداول في عديد الاوساط العراقية الرسمية وغير الرسمية انه [ تم اعتقال الشهرستاني بتهمة " ثبوت علاقتهِ بإيران من خلال انتمائهِ لحزب الدعوة"، حينما كان يدرس ويتدرب في فرنسا].
ولكن يبدو ان تلك التهمة، رغم استغلالها من قبل بعض أوساط المعارضة العراقية وايران في وقتها، كانت تخفي حقائق أخرى لازالت غير واضحة الى اليوم تتعلق بمهمة الشهرستاني بالايفاد ضمن كوادر الطاقة الذرية التي سافرت الى باريس للتدريب. وقد تم تسريب جزء من من تلك المعطيات، بهذا القدر أو ذاك، من خلال عديد الأوساط الاعلامية الغربية، خصوصاً بعد الغارة الصهيونية على مفاعل " تموز" في بغداد عام 1981. وبعد التحقيقات عن سرية المعلومات التي تم تسريبها الى الكيان الصهيوني والتي جعلته ومكنته من إستهداف مواقع عراقية، ليس للشركات الفرنسية او غيرها علم بها، وكانت تلك المواقع المقصوفة معروفة فقط من قبل عدد محدود من الباحثين العراقيين.. لذا قاد الظن بالسلطات العراقية أن الشهرستاني، ربما يكون قد نقل المعلومات لأيران، وهي بدورها تكون نقلتها الى اسرائيل، وعلى ضوء تلك الظنون حامت حوله الشكوك وجرى التحقيق معه.
ولهذا السبب أُدين الشهرستاني بـتهمة " الخيانة العظمى "، وكان يفترض ان ينفذ فيه حكم الاعدام. ولكن مثل تلك التهمة الخطيرة وإثباتها كانت قابلة للإحتمال والتأكيد أو النفي. ونقلا عن مقابلات صحفية وتلفزيونية، قد يكون حسين الشهرستاني قد نساها، وهي ان زوجته سبق لها أن صرحت في مقابلة لهيئة الاذاعة البريطانية بعد احتلال بغداد 2003 ضمن حديث تلفزي حاولت وصف " معاناتها مع النظام السابق " قد أشارت بوضوح ان زوجها سبق ان : [... استعطف حسين الشهرستاني الرئيس صدام حسين برسالة، ووساطة زملائه، وابدى استعداده لخدمة العراق، وتأكيد العكس الذي ذهب اليه الاتهام الموجه إليه... وبسبب تقدير صدام حسين لدوره، وشهادة عدد من زملائه في ادارة هيئة الطاقة الذرية العراقية عنه، واستعداده في العمل البحثي لخدمة المشروع النووي العراقي، استبدلت عقوبة الإعدام له بالسجن، ومن ثم تم تخفيف ظروف إعتقاله تدريجيا، ليعاد الى بيته؛ على ان يكون تحت الاقامة الجبرية.
تلك شهادة معروفة لزوجته، قدمتها يوماً، الى احدى الجهات الاعلامية، وهي موجودة لمن يريد التأكد منها، وتؤكد شهادتها، اضافة الى شهادات أخرى، ما اشرنا اليه أعلاه، وتلك الشهادة مسجلة ومنشورة تنفي تماماً، إدعاءات حسين الشهرستاني، وبطولاته الكاذبة في عملية الهروب من سجن ابي غريب، في نقطتين أساسيتين هما:
ـ انه لم يرفض ما طلبته منه القيادة العراقية في التعاون لتنفيذ المشروع النووي، حتى وان كان في الاقامة الجبرية.
ـ انه لم يكن سجينا عادياً، وانه هرب من السجن الانفرادي من زنزانة بسجن ابي غريب، بفضل بطولة خارقة تمكن حينها من الهرب من السجن بمساعدة وتنظيم من خارج السجن وهو يلبس بدلة ضابط برتبة كبيرة، وانه تمكن من الهرب الى كردستان أثناء عمليات القصف الجوي الامريكي على بغداد في شتاء 1991 خلال " حرب الكويت".
المهم هنا وكما هو معروف: ان الشهرستاني إستغل حالة الظروف الاستثنائية التي عاشها العراق يومها، فاستطاع مغادرة العراق الى ايران في شباط/ 1991 ليلعب بعدها دورا معلوما مع جماعة أحمد الجلبــي وحزب الدعوة وإيران لتشجيع إدارة كلنتون ومن ثم بوش وإعطائهما المبررات لضرب العراق وإحتلاله ومن ثم يكافأ بعدد من المغانم السياسية والوزارية، وزيرا للكهرباء، ومن ثم وزيرا للنفط، ونائيا لرئيس الوزراء لشؤون الطاقة، ويصبح الشهرستاني مكلفا بتوزيع المغانم النفطية وتوقيع الاتفاقيات مع الشركات الغربية والصهيونية التي تتقاسم نهب نفط العراق.
وبعيدا عن العمل في الطاقة النووية او الاقتراب من الجامعات أشغل حسين الشهرستاني نفسه في تخريب منظومة الطاقة الكهربائية وشلها ليبقى العراق تحت جنح الظلام واحتلال الاعداء ويتكفل برد جميل من حموا سيرته المشبوهة التي خدم بها اسرائيل ودمر المشروع النووي العراقي.
لنعود الى قصة جاسوس خانته الشجاعة أن يعترف، أو ان يذكر دوره القذر ليصبح عميلا دائماً، الى ذلك اليوم الذي قاد خطى الشهرستاني الى ذلك الحي اليهودي في الضواحي الجنوبية من باريس في آب/ من عام 1978، ليسكن في منزل غير بعيد عن ذلك الحي اليهودي، بالقرب من محطة "سان لازار" للمترو، حيث يستقل كل يوم، في البدء باصاً، يوصله الى محطة القطار المتوجه الى منطقة "سارسيل"، بشمال باريس، حيث كان يعمل ويتدرب لما هو مطلوب متابعته لبناء المفاعل النووي العراقي "اوزيراك".
وبطبيعة الحال مر الشهرستاني، مثله مثل بقية اعضاء البعثة العراقية، الى دورة تدريبية خاصة في المخابرات العراقية، من أجل اليقظة وتعلم أساليب التخفي وإخفاء المهمة التي جاء من أجلها، وعند الانتقال من والى المسكن والعمل، ضمن طرق دائرية الى العمل للتمويه عن تلك الاماكن. كما توجب عليه ان يخفي مهمته، ويتجنب الحديث الى أي إنسان، ويتفادى الإختلاط مع الآخرين.
رافق الشهرستاني زوجته الى باريس، ولكنها كانت غير قادرة على تحمل حياة باريس بسبب العزلة والتحفظ والمراقبة المستمرة والخوف من الرصد المعادي، وخاصة الإسرائيلي للكوادر العراقية المتدربة في فرنسا في المجال النووي.
ويبدو ان الاعداء تمكنوا من تشخيص الرجل، فوضعوا امامه يوماً فتاة شقراء، مُثيرة للإنتباه، تقصدت في البدء، اظهار مفاتنها له، من سروال ضيق، وصدر مفتوح، والإثارة الممكنة لرجل شرقي، مع سلوك منها بالتجاهل لهذا الشرقي الذي تراه في طريقها. ولكن الرجل كان يعرف ضرورة الإبتعاد من فرص السقوط في فخ النساء، المحتمل تعاونهن مع دوائر التجسس الاجنبية، هكذا علمته دروس المخابرات العراقية في دروس التكوين الخاصة بمديرية الامن العامة قبل توجهه الى الخارج. ابتعد الرجل، قدر الإمكان خشية ان يسقط في فخاخها. وتكرر المشهد مراراً في نفس محطة الباص التي يركب منها الشهرستاني، لكنه سقط هذه المرة، في هفوة الحديث مع رجل أوربي آخر، كان يأتي كل يوم الى نفس موقف الباص ليرافق صديقته الشقراء بسيارته ويذهبان. هو مشهد مكرر في نفس المكان والوقت الصباحي يشاهده الشهرستاني ويراقبه بفضول عن رجل أوربي يأتي ليقابل ويحمل صديقته في سيارته الخاصة ويذهبا معاً. وفي أحد الايام تم ضبط اللعبة غادرت الشقراء المكان دون ان تنتظر صديقها الذي افتعل التأخر، وعندما جاء صديقها اليها لم يجدها، فتبرع الرجل الشرقي الى الحديث معه وأخبره تقصد الحديث معه بالانجليزية التي يعفها، بدلا من الفرنسية، ليقول له ان تلك السيدة قد ذهبت دون ان تنتظره، مهترفا للرجل الاوربي انه يلاحظ لقاءه كل يوم مع تلك السيدة بمحظ الصدفة في موقف الباص. هي الفرصة التي جاءت للاوربي ليشكر حسين الشهرستاني ويطلب منه التعارف، ثم يجري الحديث جانبيا عن تلك الفتاة وانتظارها اليومي لذلك الرجل. طلب الرجل نقل الشهرستاني الى محطة القطار بدلا من انتظاره الباص فكان له ما أراد، وصار التعارف، ومن ثم عرض الصداقة والتعارف وتحديد موعد لاحق لهذا المتحدث بالانجليزية مع الشهرستاني.
وهكذا تم استدراج الشهرستاني، للتعرف مع ذلك الرجل المجهول، وحصل ذلك الرجل الموسادي وصاحبته الشقراء على ضربة حظ سعيدة، بالصداقة مع رجل عراقي مقيم بباريبس لم يفصح بالبداية عن مهمته، بعدها تدريجيا توصلت مصالح الموساد الى معرفة سكنه ووجود زوجته معه وهما يسكنان في شقة من دون اولاد. ومن ثم الوصول الى سكن قريب من موقع سكنه ومراقبته عن قرب وزرع ما يمكن زرعه من أجهزة الترصد والإنصات في شقته سواء في الجدران او في جهاز الهاتف.. وغيرها. وهكذا كان لهم ما أرادوا من تسجيل محادثاته وتسجيلها والتعرف على تفاصيل لهجته ومراقبته الكترونيا من باريس وتل ابيب.
ومن موقع شقة التجسس القريبة، والمقابلة لشقته، تمت مراقبته عن قرب، وتم ارسال جاسوسة، طالبة تعمل بصفة بائعة عطور متجولة، لتصل الى، شقته والتعرف على زوجته عن قرب، وتراقب مع أعوانها وضع الشقة، وتصبح الطالبة صديقة تتردد عليهما لبيع العطور الفاخرة، بأسعار أرخص من السوق والمخازن الباريسية، وتأتي مسرعة إليهما، كلما احتاجت زوجة الشهرستاني الى شراء العطور الفاخرة بأثمان رخيصة الثمن نسبيا، وتكون قريبة منها بساعا ت الفراغ، خاصة خلال غياب الزوج في العمل في المفاعل الفرنسي.
وهكذا رصدت الجاسوسة من داخل البيت مدى اهتمامات زوجة الشهرستاني وضجرها من الحياة الباريسية، بسب ظروف زوجها الأمنية، حتى شكت لها الزوجة وبينت لها، في احد المرات، انها ترغب في السفر الى بغداد، خلال فترة قصيرة لمتابعة اوضاع عائلية لها ببغداد؛ مما يعني بقاء د. حسين الشهرستاني وحيدا لفترة من الوقت من دون زوجته.
وبسبب تطور العلاقة الحميمية لتلك الجاسوسة "الطالبة بائعة العطور الباريسية"، تم اختراق الشقة من قبل عملاء الموساد، وتم زرع اجهزة التنصت، في غياب الزوجة التي سعدت بعلاقتها مع تلك الطالبة الطيبة التي طالما رافقتها لساعات طوال، خلال خرجات زوجة الشهرستاني للأسواق والمشتريات، حتى تمكنت من نسخ مفتاح شقة الشهرستاني. ومن ثم دخول العملاء اليها بغياب الرجل في العمل، وتمكنوا من زرع أجهزة الانصات والتصوير في الشقة.
عن طريق جهاز الإنصات عرف الموساد، ما يجري داخل الشقة، أولاً بأول، ومنها علمهم بقرار زوجة الشهرستاني بالعودة الى بغداد بالضبط، وعرفوا من خلال ذلك ان الرجل العراقي يخضع للتعليمات الأمنية التي توجهه من موظفي السفارة المشددة على المبعوثين العراقيين لحمايتهم من أخطار العدو.
ابعد الموساد مهمة إسقاط الشهرستاني عن طريق صديقة زوجته، بائعة العطور ورتبوا له فخاً آخر مع الشخص الذي تعرف عليه صدفة مع تلك الشقراء، بان استدرجه صاحبه الى شخص آخر إدعى انه يتعاطى التجارة الدولية في الالكترونيات وغيرها، حتى تمكن من استدرجه لإشراكه في قضايا تجارية، عادية كشراء خردة من الحديد أو شراء عدد من حاويات الشحن، ونجح الشخص في أخذ نصيحة من صديقه الشهرستاني لشراء تلك الحاويات ونجاحه في تسويقها والحصول على أرباح في تلك الصفقة فيصر على مكافئة حسين الشهرستاني باكرامية قدرها 1000 دولار، وتكررت حالات ذلك التاجر السعيد بأرباحه بفضل نصيحة صديقه العراقي حسين الشهرستاني.
وهكذا يصر ذلك الفرنسي على مرافقته عند الشراء والبيع ويكرمه بمبالغ بسيطة. وفي احد المرات طلب منه ملاحظة عينات من تلك الصفقات، حتى توثقت تلك العلاقة الحميمية حتى استدرجه الى شقته تاركا له البقاء فيها، ويذهب الجاسوس تاركا لصديقه، له مهمة فتح باب الشقة متى شاء، من ثم يتم استدراجه الى تركه مع صديقته الشقراء وممارسة الجنس معها ويتم تصوير المشهد سريا كمادة قد تنفع الجواسيس يوما للابتزاز بواسطتها لحسين الشهرستاني عند الحاجة.
وبذكاء تم ترتيبه جر ذلك الجاسوس صديقه حسين الشهرستاني بعيدا عن ذلك العمل التجاري العادي، الى مفاتحته بخصوص إبداء رأيه عن بيع صفقة لأنابيب خاصة تعمل بالهواء المضغوط وتستعمل لشحن مواد مشعة لأغراض طبية، ويريد التاجر بيعها الى احد وكلاء الدول الافريقية وحاجة التاجر الى استشارة تقنية طلبها من صديقه حسين الشهرستاني الذي لازال يقدم نفسه الى صاحبه الفرنسي انه طالب في الكيمياء الاشعاعية يدرس في احد معاهد فرنسا لفترة قصيرة. كانت تلك الاستشارة بالموضوع تورطه في إظهار معرفته بطبيعة تركيب وخصائص الانابيب، والتاجر يستمر في اكرام صديقه الطالب العراقي مقابل تلك الاستشارات التي تتالت واصبح حسين الشهرستاني يقبض مقابلها على مبلغ كبيرة ويتعامل مع التاجر وكأنه مستشار ويتعرف تدريجيا على عالم انجليزي آخر، يدعي انه يسكن في لندن، ويطلب من حسين المساعدة في تشخيص وشراء بعض المواد مقابل مبالغ كبيرة لإبداء رأيه في مثل تلك الصفقات.
وهكذا ابدى الشهرستاني رغبته بمساعدة صديقه التاجر الحائر في الشراء والطالب للاستشارة التقنية. وبدأت عملية الاطاحة بحسين الشهرستاني عندما قال له صديقه التاجر ولكنك كطالب في الكيمياء لا يمكنك معرفة طبيعة استخدامات المواد، وقد تكون استشارتك غير مفيدة لانك لازلت طالباً قاصرا على توفير الاجابة الصحيحة وقد تعرض الصفقات التي نشتريها الى خسارة كبيرة، سقط حسين الشهرستاني في فخ الاعتراف وافتخر بقدراته وقال لصاحبه انه عالم يحمل دكتوراه في التخصص الكيمياوي، وانه يعمل ضمن بعثة عراقية جاءت الى فرنسا بمشروع خاص.
وامام الوعد بإغراءات الحصول على مكافئات جيدة من صفقة التاجر، تم استجلاب حسين الشهرستاني بطائرة خاصة ارسلت للتاجر من اسرائيل ونقلته مع حسين الشهرستاني الى امستردام من دون ان يستخدم جواز سفره العراقي، وقد نقل التاجر مستشاره العراقي الى مكتب هناك، استقبله اثنان من العلماء الاسرائيليين، اللذان اخبراه انهم مجرد تجار في مجال تصدير مثل هذه المعدات وغيرها، وهي قد تكون من المواد النووية التي يجهلونها سيقومون بتصديرها الى عدد من اقطار العالم الثالث، وبحكم خبرته واختصاصه فهم سيحتاجون الى مشورته من دون الاتصال بصاحبه التاجر الذي جلبه الى امستردام، وان العمل مغري وجيد سيوفر لحسين الشهرستاني مكافئات مجزية من قبل هؤلاء التجار الذين تعرف عليهم عن طريق صاحبه.
بدون تردد قبل الشهرستاني التعاون معهم من وراء ظهر صديقه التاجر السابق، الذي كان يراقب اللعب عن بعد، بالتنسيق مع فريق الجواسيس الآخرين، وهم في الحقيقة مجموعة من العلماء الاسرائيليين، الذين عرفوا واستكشفوا إهتمامات ومدى فهم حسين الشهرستاني، ومعرفته للمواد التي قالوا انهم يريدون بيعها لمحطات طاقة نووية افتراضية ببلدان من العالم الثالث.
عاد الشهرستاني من امستردام الى باريس في نفس اليوم بالطائرة الاسرائيلية الخاصة دون أن يسأل نفسه لماذا غابت عن السفرة اجراءات الحدود والفيزة وجواز السفر الذي تركه في شقته. عاد حسين الشهرستاني هذه المرة وفي جيبه ثمن 8000 دولار مكافئة للاستشارة العلمية الأولى لصديقه التاجر، عاد الى باريس واتفق مع أؤلئك التجار الغرباء بالعمل دون إخبار صديقه الذي عرفه بهم. ورغم خيانته لصديقه سمح لنفسه أن احتفل مع صديقه بشقته ومعهما فتاة لعوب.
إدعى الصديق التاجر سفرا الى بلاده الى لندن، تاركا لحسين تلفونا وعنوانا قد يحتاجهما عند رغبته الاتصال بصديقه التاجر. ولكنه اطمأن الى العمل مع الخبيرين التاجرين الذين إلتقاهما بامستردام، وسمح لنفسه مقابلتهما هذه المرة بباريس عندما طلبا منه هذه المرة مواصفات عن محطة كهرونووية وبمواصفات معينة يريدان توفيرها لدولة من العالم الثالث، فلم يجد الشهرستاني الا نسخاً من مواصفات المحطة النووية العراقية التي يجري بناء مفاعلها في باريس. ولم يتردد عن تقديم معلوماتها لزبائنه عندما تزايد إلحاح التاجرين الخبيرين على بعض التفاصيل، مع وعد بزيادة المكافئات المالية له.
وهكذا كان حسين الشهرستاني يقدم المزيد من تفاصيل مخطط وموقع وبرنامج المحطة النووية العراقية من دون ان يكشف عن نفسه لأصحابه انه يعمل فعليا على تحضيرها في فرنسا، وهو يتدرب مع بقية اعضاء البعثة العراقية على بنائها وتشغيلها في العراق مستقبلا.
وعندما بدأ العملاء يطلبون منه نسخا ومخططات تفصيلية عن إستشاراتهم له بدأ الخوف يتسرب الى قلبه من انه: ربما تورط مع جواسيس إسرائيليين، وانه يلعب في المنطقة المحظورة، وقد يكون قد تورط، وانه الآن ليس مع تجار عاديين المان يتاجرون باللمواد النووية، فاستنجد بصاحبه الاول من لندن طالبا منه المجئ بسرعة لمساعدته للخروج من تلك الورطة. وفعلا جاء صاحبه، فاعترف له حسين الشهرستاني بورطته، وانه ذهب من وراء صاحبه في التعاون مع أناس بدأ يشك فيهم، ويخاف ابتزازهم له، واعترف لصاحبه: انه ربما خدع واعترف له بكل تفاصيل الصفقة السرية.
ولكن صاحبه الخبيث، وبعد ان سامحه على غدره والتعاون من خلف ظهره مع غرباء، طمأنه، ولمح له متقصدا تخوفه من ان يكون هؤلاء التجار: هم من عملاء المخابرات المركزية الامريكية، ونصحه أن يستمر معهم، خيرا، وتفادياً من احتمال انتقامهم منه، وأعاد له دعوته الى شقته، وبانتظاره عاهرة اخرى، جاسوسة أخرى، لإسقاطه أكثر ومزيداُ في الفخ الصهيوني.
وفي تلك الليلة صارح التاجر اليهودي الجاسوس صاحبه حسين الشهرستاني، انهما وقعا معاً فعلاً، في ورطة التعاون مع عناصر المخابرات الامريكية، وتم استدراجهم فعلا، من حيث لا يعلمون.
بكى حسين الشهرستاني ليلته صارخا، بان العراق سيعدمه او يشنقه، إن عرفوا بورطته هذه. ورد عليه صاحبه : لا تخف، أكمل تعاونك، ونحن نحميك، واخبره بضرورة تزويدهم بأهداف العراق ومخططات المشروع، والقائمين عليه. فقدم الشهرستاني له كل ما طلبوه. ومنها باع سر وصول الشهيد العالم النووي المصري د. يحيى المشد، باعتباره مدير المشروع الذي سيصل الى باريس سرا لتفقد تنفيذ حلقات المشروع النووي. وسرب تفاصيل مقابلة د. يحيى المشد لافراد البعثة العراقية. وهم بدورهم حاولوا عن طريق الشهرستاني الوصول الى د. يحيى المشد نفسه، ولو لأجل التعرف عليه ومقابلته في مطعم، واقترحوا أن يتم اللقاء المطلوب مع د. يحيى المشد كما لو كان صدفة في مطعم ما. لكن تصرف د. يحيى المشد وتحركه بحذر شديد أسقطت من يد ومحاولة حسين الشهرستاني الفرصة الى جره الى الموضوع وذلك الكمين الموسادي بحضور اؤلئك الأغراب.
حصل الموساد تدريجيا على كل ما يريده من حسين الشهرستاني وحصل على البرنامج العراقي، ومراحيل التوريد للمعدات. نفذ حسين الشهرستاني كل تلك العمليات التجسسية وهو لازال يظن انه يعمل مع المخابرات المركزية الامريكية.
وعندما عادت زوجته، بعد غياب، لاحظت تغيره في جميع الجوانب، مالا وتصرفات غير معهودة عليه، وعندما سألته عن ذلك المال إدعى امامها أولا انه حصل على ترقية ومكرمة من العراق على عمله، ثم تراجع واخبرها بقصته مع التجار الذين اوصلوه الى ورطة التعامل المباشر مع المخابرات الأمريكية، لكن المرأة كانت من الذكاء ما يكفي فذهبت بعيدً، وأدركت ان الورطة قد لا تكون مع الأمريكيين فعلاً، كما يظن زوجها؛ بل تكون مع الإسرائيليين مباشرة، وليست مع الأمريكيين، وتلك هي الطامة الكبرى عليها وعلى زوجها، لو اكتشف العراقيون أمره.
بفضل المعلومات الدقيقة ومواعيد الارسال المقررة للمعدات تمكن الاسرائيليون من الوصول الى حيث المستودع الذي تم خزن المفاعلين العراقيين المعدين للتصدير الى بغداد وهما في طريق شحنهما الى العراق. استعانوا بخبرة خمسة مخربين وعالم نووي إسرائيلي، ودخلوا ضمن رتل الشاحنات الفرنسية التي حملت المعدات والمفاعلين الى المستودع. وقد كانت وفرة المعلومات والمخططات التي حصلوا عليها كافية لكي يقوم العالم النووي الاسرائيلي المرافق للمخربين بتحديد موضع شحنة التفجير الكافية لتدمير المفاعلين اللذين تم بناؤهما خلال ثلاث سنوات كاملة من العمل، قبل شحنهما ببضعة ايام الى العراق.
تم للموساد، بمساعدة معلومات حسين الشهرستاني تفجير المفاعلين بوضع 5 شحنات بلاستيكية متفجرة في مواضع مدروسة من قلبي المفاعلين في أحد مستودعات مدينة "سين سور مير Seyen-sur-Mer الفرنسية الواقعة على ساحل البحر الابيض المتوسط. تم نسفهما بتفجيره بخمسة شحن ناسفة مدروسة بدقة لانجاز التخريب المطلوب، فدمروا أكثر من ستين بالمئة من مكونات المفاعلين، وبخسارة 23 مليون دولار، وتأخير لعدة شهور اخرى.
وللتغطية على العملية، اعلنت مجموعات مجهولة سمت نفسها" مجموعة انصار البيئة الفرنسيين" أو " اليسار المتطرف " او نسب الامر الى " فلسطينيين موالين الى ليبيا"... الخ. وإعلان مسؤولياتها عن الحادث؛ رغم نفي الشرطة الفرنسية لتلك الادعاءات. وعندما قال البعض بمسؤولية الموساد صرخ انصار إسرائيل : "هذه اتهامات من جهات لا سامية ".
هرب المخربون، وتكفلت فرقة تجسس اخرى، في متابعة حسين الشهرستاني، الذي كان يسمع ويقرأ خبر تفجير مكونات المفاعل النووي العراقي داخل الاراضي الفرنسية، كان يتابع الاخبار وهو يتناول عشاء فاخراً مع زوجته في احد المطاعم الفرنسية.
وعندها كانت أغلب الجهات تشير بالأصابع المتوجهة، منذ اللحظة الاولى الى المخابرات الامريكية والإسرائيلية "الموساد" تحديدا، صابه ذعر شديد، وظل يصرخ بهستيرية، وصاح بوجه زوجته : " لقد نسفوا المفاعل، والآن جاء دوري، سوف ينسفوني". واتصل بصاحبه طالبا المشورة، وما ينبغي عمله، فرد الجاسوس اليهودي الخبيث : اطمئن ونم بهدوء انك خارج الشبهات، ولا أحد يستطيع ربط علاقة بينك وبين الحادث. واختتم قوله : "غدا سنلتقي".
اعاد حسين الشهرستاني على صاحبه بان توقعات زوجته، ربما تكون صحيحة في ان اسرائيل وراء تفجير المفاعل العراقي على الأراضي الفرنسية، وانه قرر ان يعود وزوجته الى العراق؛ طالما ان زوجته تلح على العودة من باريس حالا. ورد عليه صاحبه: ليس ذلك حلا وحذره : انهم سيبتزونك، حتى وأنت في العراق، عليك إستمرار التعاون مع الإسرائيليين مباشرة من دون خوف.
لكن حسين الشهرستاني قد بلغ به الخوف حدا بعيدا، فقرر العودة الى العراق مع زوجته مهما كان الثمن، وبناء على قرار ورأي زوجته التي ظنت ان العراق هو البلد الأسلم لزوجها.
وعندما حكم على حسين الشهرستاني لمدة 10 سنوات، من خلال حكم محكمة الثورة في 18/9/1979 بعد تحقيق في القسم الخامس في المخابرات العراقية. سجن الشهرستاني وهو يحمل لقب "مستشار علمي سابق" للرئيس الراحل صدام حسين، بعدان شكت به المخابرات في العملية المشبوهة في فرنسا، ولكن لم تتوفر أدلة مباشرة عليه.
وفي 21/12/1980 اعتقل 5 من العراقيين من تنظيمات حزب الدعوة كانوا يعملون في المركز النووي العراقي في التويثة. أشرف على التحقيق برزان ابراهيم التكريتي نفسه، لكن التحقيق توصل الى حقائق اخرى، للتغطية على ورطة التجسس مع الموساد لتصبح القضية، قضية جديدة، في اطار محاولة إختراق ايرانية لكوادر المفاعل النووي العراقي.
ومن خلال الاعترافات عن تنظيم لحزب الدعوة ومحاولاته إغتيال وتصفية المهندسين الفرنسيين العاملين في المركز النووي العراقي ببغداد، تخلص حسين الشهرستاني من ورطة التحقيق معه في قضية تجسس لإسرائيل، وباعترافاته حول انضمامه ونشاطه في حزب الدعوة وضع حسين الشهرستاني حبل المشنقة برقاب رفاقه في التنظيم، ومن ثم يعود فيطلب التوبة من النظام، ويعاهد الرئيس صدام حسين، على اكمال عمله بتحقيق نتائج مرجوة في المشروع النووي العراقي، ولكنه كان يوصل للفرنسيين رسالة إخلاصه لهم، وحمايته لأرواحهم من خلال كشفه لشبكة حزب الدعوة الرامية الى تصفية الخبراء الفرنسيين وتسليمها للسلطات العراقية ليذهبوا الى احكام الاعدام فيتخلص من جرمه التجسسي بتعاونه مع سجانيه بالبراءة من تنظيمه ورفاقه.
لقد حكم عليه بالاعدام _على الشهرستاني عام 1980 وفقا للمادة 156 من القانون العراقي، وهي مادة تستخدم ضد من يرتكب فعل الخيانة العظمى، فماذا فعل كي تطبق عليه هذه المادة؟. لقد ثبت اثناء التحقيق انه كان على اتصال بجهات اجنبية، متعددة وهي ايران واسرائيل وبريطانيا وامريكا، وكان يزود كل هذه الجهات بالمعلومات عن العراق وبرامجه العلمية، اي انه كان عميلا مزدوجا، وقد اعترف بكل تلك العلاقات بعد ان قدمت له الادلة القاطعة.
كان الشهرستاني يعمل انذاك بصفة خبير في وكالة الطاقة الذرية العراقية، وليس رئيسا لها كما ادعى في مناسبات عدة بعد عودته العراق وصار وزيرا في حكومة الاحتلال الثالثة والرابعة، كانت معلومات الاجهزة الامنية العراقية حوله تقول انه مستقل، ولخشيته من انكشاف أمره في فرنسا حاول أثناء التحقيق خلط جميع الاوراق الممكنة، وادعى انه له صلة مع جماعة من حزب الدعوة في العراق وانه مكلف بالمساعدة في إعداد عملية ارهابية داخل العراق تستهدف الخبراء الفرنسيين، واعترف المتهمون بان حسين الشهرستاني انه متورط في تلك العملية، لم يصدق المحققون بذلك، واعتقدوا انها مجرد محاولة ايرانية للإيقاع به، لتعاونه مع العراق في مجال حيوي يهتم به العراق، ولأنه من اصول ايرانية، ويفترض به، من وجهة نظر ايرانية، ان يكون ولائه لإيران، كما أن التحقيق توصل أيضاً الى ادلة حاسمة تثبت انه كان متورطاً في ذلك العمل التخريبي المعد من قبل حزب الدعوة، ومن وراءه ايران في محاولة تخريب المشروع النووي العراقي، الذي ظلت تتابعه اسرائيل عن قرب وعن بعد بعد عودة حسيت الشهرستاني الى العراق من دون ترك وسيلة للإرتباط به مستقبلا.
حكم على حسين الشهرستاني بالاعدام، وحينما ادرك ان الموت سيكون مصيره عرض على الحكومة ان يقدم معلومات خطيرة، لقاء تخفيض الحكم عليه، فوافقت السلطات العراقية على ذلك الطلب، وحينها قدم الشهرستاني معلومات قيل عنها انها كانت غاية في الخطورة حول شبكات تجسس إسرائيلية وإيرانية وأمريكية وبريطانية، وقد تكون شبكات وهمية لان الجاسوس قد تم تدريبه على مثل تلك الحالات، وادعى الشهرستاني انه تعامل مع بعضها بعد أن اوهمها جميعا انه عميلها فقط.
لا احد يعرف إن كانت تلك الاعترافات قد خدم الامن العراقي، حسب كتابات البعض انها كشفت عديد الاسماء التي كانت تتعاون مع تنظيمات حزب الدعوة أو إيران، ومن بين تلك المعلومات المستقاة اعترافاته اعتقال وتجنيد أشخاص عديدين،
من بينهم كريم شاهبوري، الملقب بـ (موفق الربيعي) ومعلومات عن ليث كبة، ومقابل اعترافاته التي استفاد من بعضها الامن العراقي تم خفض الحكم عليه من الاعدام الى المؤبد، بناء على امر رئاسي صادر من صدام حسين. ولكنه كان يعامل معاملة خاصة، ويزور بيته وأثناء فترة الحرب على العراق في شتاء عام 1991، وحصول تفكك أمني لفترة قصيرة، هرب حسين الشهرستاني من سجن ابو غريب بعد قضاء 10 سنوات، وذهب الى ايران، ثم من هناك ذهب الى امريكا واستقر هناك.
ومن اهم اعماله بعدها كانت مشاركة احمد الجلبي في تلفيق قصة امتلاك العراق اسلحة دمار شامل، حيث ادلى بشهادة امام الكونغرس الأمريكي، بعد ان ادعى انه كان رئيسا للبرنامج النووي العراقي، وإدعى فيها : ان العراق لديه اسلحة دمار شامل، فصدر القانون المسمى (قانون تحرير العراق) مستندا على تلك الاكاذيب لكي يمهد الجو لغزو العراق واحتلاله وتنصيب العملاء لحكمه.
وفي فترة نيابة رئيس منظمة الطاقة الذرية العراقية من قبل الدكتورعبد الرزاق الهاشمي تواصل وصول المتدربين العراقيين تباعا منذ منتصف 1979 الى مدينة ساكليSaclay التي تبعد حوالي 30 كم عن باريس جنوبا ليتعلموا اللغة الفرنسية بدورات مكثفة في مدينة فيشي وبعدها الانتقال الى مواقع التدريب.
يكشف كتاب الدكتور باسل الساعاتي [ملفات هامة من البرنامج النووي والتصنيع العسكري]، الصادر عن الدار العربية للعلوم 2006 باختصار عن بعض أسماء ومهام الكوادر العراقية في المشروع النووي، وعن ظروف تدريبهم، ووصف الأجواء المشحونة بينهم، بسبب طموحات البعض لتبوء المواقع الإدارية الأعلى، ويصف الكتاب غرور البعض منهم، بادعاء البعض من انه الأكثر علما ومعرفة دون سواه من رفاقه، وقلة ثقة البعض بأنفسهم والخوف من الفشل عندما حامت حول البعض منهم شبهات النقص في قابلياتهم العلمية.
زادت الاجواء ريبة وشكوكاً بين أفراد البعثة بعد توارد اخبار تداولت إعدام حسين الشهرستاني، وهو الحي يرزق في بغداد، أو الاشارة الى ظروف إعتقاله، وإعادة محاكمته مما ساد جو غير طبيعي للعلاقات بين افراد البعثة، وخصوصا مع الكوادر التي شعرت ببعض الخوف عندما تصاعدت أخبار تسفير العراقيين من التبعية الايرانية أو إعتقال المنتمين الى حزب الدعوة من اقاربهم، مما دفع الى تسرب عدد من المتدربين والهرب تاركين العمل والإختفاء عن الانظار.
كان أول المختفين من مركز ساكلي المهندس محمد العطار، الذي يشهد له زملائه، انه واحد من افضل المهندسين العراقيين في مجموعة التجارب، واختفائه جاء بعد طلب رئاسة منظمة الطاقة الذرية العراقية إنهاء تدريبه وإعادته الى بغداد، وقد سبق ذلك علمه بخبر تسفير أهله الى إيران.
بعدها اختفى المهندس كاظم البكري مع عائلته، بعد ان شاعت تهمته انه يحمل ميولا شيوعية هرب قبل ايام من تاريخ عودة الموفدين الى باريس، في ذات الفترة اختفى المهندس عادل علي رضا، واختفى علي كاظم العضاض، الذي كان يعمل ضمن شعبة الحاسبات بعد ان احس بمراقبته من قبل السلطات العراقية التي تسعى للقبض عليه بتهمة علاقته بحزب الدعوة.
كتاب مهم آخر بعنوان (الاعتراف الأخير/حقيقة البرنامج النووي العراقي) وهو لمؤلفيه د. جعفر ضياء جعفر و د. نعمان النعيمي، وقد صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت للعام 2005. يروي المؤلفان الخبيران قصة البرنامج النووي العراقي من ألفه إلى يائه (من وجهتي نظريهما)، بوصفهما المعنيين العلميين المباشرين بهذا البرنامج ولفترة طويلة، وشهدا بأم اعينهما ما جرى من وقائع وأحداث للمشروع.
يقول المؤلفان في بداية الكتاب؛ "رأينا من واجبنا تسجيل الحقيقة كما نعرفها، ولا سيما في مجال التسلح النووي، فقد كنا على مدى تسعة أعوام نطوي الليل بالنهار مع مجموعة طيبة من العلماء والمهندسين والفنيين العراقيين، نسعى لإنجاح برنامج نووي عراقي، بجهد وطني خالص، ثم قضينا أربعة عشر عاماً أخرى نتصارع مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية..".
في الفصل الثاني من الكتاب، وتحت عنوان " خلف القضبان " يروي الدكتور جعفر ضياء جعفر عملية اعتقال زميلهما د. حسين الشهرستاني، الذي كان بمرتبة مستشار، بدرجة مدير عام في مشروع الطاقة الذرية: " خلال عام 1979 .
كان مقر (د. همام عبد الخالق، وزير التعليم العالي الاسبق) في بناية صغيرة ضمن موقع التويثة، وكنت أشاركه المبنى، إضافة إلى مكتبه ومكتب حسين الشهرستاني، وكنت أتولى الشؤون الفنية لمشروع 17 تموز مع الجانب الفرنسي، بينما كان الشهرستاني يتولى مشروع 30 تموز مع الجانب الإيطالي.
وفي 4 كانون الأول/ديسمبر 1979، كنت جالساً في غرفة مع همام نناقش شؤون العمل كعادتنا كل يوم، ورن جرس الهاتف، فرد همام على المتكلم، وفهمت من محتوى الحديث والوجوم الذي أصابه، إن أمراً غير حميد ينتظرنا، وحال إغلاقه الهاتف، طلب مني ان أذهب وأجلس في غرفة الشهرستاني، وخرج مُسرعاً، ثم عاد بعد فترة قصيرة مصطحباً معه خالد إبراهيم سعيد وشاركانا الجلوس في الغرفة، وفجأة دخل النقيب جار الله حاجم، وهو ضابط الأمن العام المقيم في التويثة، ومسؤول أمني عن شؤون الطاقة الذرية. وبعد ان أدى التحية العسكرية طلب متجهماً من حسين الشهرستاني أن يرافقه إلى خارج المبنى؛ مما يعني انه معتقل، وكان وقع كلامه علينا كالصاعقة، ولكن بدا لي ان همام وخالد كانا على علم بالأمر، فلم تكن مفاجأتهما بالحدث كمفاجأتي والشهرستاني، ونظرت من شباك الغرفة لأرى زميلي جالساً بين عنصري امن في المقعد الخلفي من سيارة تحمل رقماً مدنياً وانطلقت بهم بسرعة خارج موقع التويثة. وكانت تلك آخر مرة أرى فيها الشهرستاني لغاية كتابة هذه السطور ".
ويعزو د. جعفر سبب اعتقال الشهرستاني: إلى انه " كان متمسكاً بشعائر الطائفة الشيعية ومتديناً، فلا بد ان يكون ذلك قد جعله تحت الشبهة في انتمائه لحزب الدعوة أو في أقل تقدير دعمه لذلك الحزب، مع إنني استبعد ذلك تماماً، ولم اسمع منه أبداً ما يثير الشك في ذلك ". ويضيف جعفر: " غير إنني لمست ان (همام عبد الخالق)، انه كان يساوره ظن بأن حسين الشهرستاني ينتمي إلى ذلك الحزب، وقد يكون احد أقطاب قيادته؛ لما يتمتع به من امكانات علمية، ولما يحمله من شهادة عليا، ولكونه متزوجاً من كندية مسلمة متزمتة.
ويبين لنا د. جعفر: انه " وبعد أربعة أيام فقط من إختفاء زميلي الشهرستاني في أقبية الأمن العامة، تجرأت فبعثت برسالة إلى صدام ذاته راجياً الإفراج عن حسين الشهرستاني موضحاً ان اختفاءه سيؤثر سلباً على برامج الطاقة الذرية العراقية ".
ويتطرق د. جعفر إلى تخبط القيادة السياسية بشأن قيادة لجنة الطاقة الذرية، فنراه يقول : " واستناداً إلى قرار اتخذه صدام حسين عام 1974، عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، بأن يكون رئيس اللجنة هو ذاته نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. أصبح رئيس اللجنة، حُكماً، هو عزت إبراهيم الدوري، الذي أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة منذ تموز 1979، عندما اعتلى صدام حسين جميع المناصب الأولى الرسمية و الحزبية.
غير ان عزت إبراهيم الدوري، لم يكن يهتم ببرامج الطاقة الذرية، سواء الاعتيادية منها أو تلك المتفرعة من البرنامج النووي الوطني. وكان نائب رئيس اللجنة يُعلمه بتطورات البرنامج أولاً بأول؛ غير أن المتابعة الحثيثة والقرارات الأساسية كانت تصدر من صدام حسين، ومن خلال سكرتيره الشخصي حامد يوسف حمادي.
ويروي د. نعمان النعيمي في الصفحة 74، كيف أن صدام قال للدكتور جعفر في قصر الرضوانية: " لو أنتجت القنبلة النووية سأصنع لك تمثالاً شخصياً من ذهب ".
وفي ص 162، يتكلم الدكتور جعفر عن بعض الأساليب التي اتبعوها لإخفاء الوثائق الخاصة بالبرنامج النووي، فيقول انه في أثناء شهر أيار 1991، تم حرق الوثائق التالفة المتروكة في مبنى موقع التويثة، وفي الفترة (3 - 6) حزيران من العام ذاته قررنا وضع جميع وثائق البرنامج داخل عربة قطار في المحطة العالمية للسكك الحديد في جانب الكرخ، وتم غلق باب العربة لحاماً وتركت في المحطة لترتبط بقطارات العراق المغادرة إلى البصرة أو الموصل، واستمرت العربة تنتقل ذهاباً وإياباً بين هذه المواقع. احتوت العربة على نحو 10 آلاف وثيقة ومخطط وخارطة تصميم وتصنيع، كما تضمنت سبعة صناديق مقفلة، تحتوي المزيد من الوثائق والمخططات، نقلت من مخبئها في ثانوية الصناعة في الطارمية لإخفائها عن الأنظار مع موجودات هذه الغرفة، وأوصينا إدارة السكك بعدم إعطائها العربة إحتراماً أو اهتماماً غير اعتيادي، لكي لا تجلب الإنتباه إلى محتوياتها ".
وبعد عودة الشهرستاني واعتقاله ببغداد، فكر الموساد باصطياد يحيى المشد وتجنيده مهما كان الثمن وبالابتزاز لكونه كان احد اهم العلماء العرب القليلين الذين حازوا على احترام العراقيين والسلطات العراقية العليا، ويبدو انهم فشلوا فقرروا تصفيته.
كان المرحوم الدكتور يحيى المشد والدكتور صباح صادق جعفر قد اوفدا من قبل المنظمة لمهمة ذات علاقة بالمفاعل والوقود. فقد كانت هناك قضية هامة كان على الطرفين العراقي والفرنسي حلها بالتفاوض لان مفاعل "اوزيريس" الفرنسي في ساكلي عند توقيع العقد مع العراق كان يعمل باستخدام اليورانيوم 235 بتخصيب %93.وفي نهاية السبعينيات تم تحويره ليعمل بوقود واطئ التخصيب يدعى بـ "كَراميل Caramel" واستجابة للضغوط التي تعرضت لها فرنسا من الداخل والخارج طلبت فرنسا من العراق الموافقة على تجهيز مفاعل "اوزيراك" بالصيغة المعدلة والمحورة للوقود، أي العمل بوقود الكراميل. لم يوافق العراق على هذا الطلب حينها فكان الرد الاسرائيلي لتأخير الصفقة هو تفجير لب المفاعلين "اوزيراك" و"ايزيس"، وهما في طريق شحنهما الى العراق.
حينها كان الشهرستاني لم يزل بفرنسا قبل عودته مع زوجته مرعوبا من ورطته التي قادت الى تسريب هذه المعلومات الى خلية الموساد في باريس، في ذات الوقت ظل إصرار العراق على ابقاء التشغيل للمفاعل باليورانيوم المخصب بصيغته القديمة ومن دون الكراميل.
وبعد ان وصل المشد في السابع من يونيو/حزيران 1980 لكي يتخذ قرارات نهائية بشأن مصير الصفقة النووية مع فرنسا، وخاصة قضية تبديل الوقود، وما يترتب عليها من تحويرات وتعديلات. تم رصد يحيى المشد، وعرفوا تفاصيل برنامجه وإقامته، وفي الغرفة رقم 9041 في فندق الميريديان من تلك الليلة 13/6/1980 تسلل الى غرفته بمفتاح خاص شخصان، من عملاء الموساد، فذبحاه. وفي اليوم التالي وجدته منظفة غرفة الفندق جثة غارقة بالدماء. ثم اختلقت شهادة احدى المومسات، لتوسيخ سمعة الدكتور يحيى المشد وتلطيخ سمعته وابعاد التركيز عن دور الجاسوس الحقيقي، حتى تلك المومس طالها الاغتيال هي الاخرى لكي تطمس كل معالم الجريمة وتبعد الشبهات عن حسين الشهرستاني.
جاءت في مذكرات بعض عملاء الموساد: ان يحيى المشد تم اعدامه بقرار موقع من قبل رئيس وزراء الاسرائيلي "مناحيم بيغن" نفسه. ان مسارعة الموساد لتصفية الدكتور يحيى المشد هو توصله الى استحالة تجنيد د. يحيى المشد لصالحهم، ولمعرفته الجيدة بموضوع وقود المفاعل "اوزيراك"، وحرصه وإصراره على التجهيز، حسب العقد الموقع مع الطرف الفرنسي.
بعدها وفي ديسمبر/كانون اول 1980 تعرض رئيس وفد مهندسي الطاقة الذرية القادم الى باريس لمتابعة الامور المتعلقة بتشييد وتنفيذ المفاعل والورش المصاحبة له. تعرض المهندس المدني عبد الرحمن رسول الى حالة تسمم وتدهور صحته بسرعة، مات وهو متورم الرأس بعد أن عانى من تغيير لون إدراره الى لون داكن، حتى فارق الحياة بعد بضعة ايام.
وقد تبين لاحقا انه تناول وجبة الغداء مع بعض الفرنسيين في مطعم لفندق يقع بالقرب من ساكلي، ويعتقد انه قد تم دس السم له في ذلك المطعم. وقد حاول رئيس مكتب مخابرات السفارة العراقية بباريس آنذاك السيد عبد الجبار مظلوم آنذاك بالتعاون مع د. باسل الساعاتي، بصفته المسؤول عن إدارة مجاميع متدربي منظمة الطاقة الذرية العراقية، الى اجراء تحقيق بالتعاون مع الفندق، إلا ان جهودهما باءت بالفشل للوصول الى الحقيقة.
وبخسارة المهندس المدني عبد الرحمن رسول خسرت الطاقة الذرية واحداً من اكثر الخبرات العراقية الهندسية في معرفة مفردات وتفاصيل بناء المنشئآت النووية، التي كان العراق يشيدها في التويثة، وبالذات بناية المفاعل،وتصاميمها الهندسية. ولما عرف عنه من أخلاق وإرادة وطنية لانجاز ما كلف به لوطنه العراق.
لقد عاشت البعثة العراقية حالات من القلق وهي تقترب من مواعيد انتهاء البرامج التدريبية المسطرة بنهاية حزيران 1981 بعد ورود معلومات امنية تشير الى احتمال تعرض المتدربين الى عمليات اختطاف أو إغتيال، فتقرر عودة البعض منهم قبل الوقت المقرر، وتم إعادة البعض منهم الى العراق، كإجراء احتياطي وقائي لحماية حياتهم، في الوقت الذي جاءت الأخبار عن إغتيال الدكتور سلمان رشيد اللامي، الذي تعرض الى وعكة صحية وهو في جنيف. ومن المؤكد ان الاخير قد تعرض هو الآخر الى حالة تسمم.
وتم اخفاء الخبر عن المتدربين في فرنسا خوفا من التأثير على معنوياتهم وحالاتهم النفسية. وقد فارق الشهيد د. سلمان رشيد اللامي، وهو احد كوادر العراق في الهندسة الكهربائية وعلوم الفيزياء. كان قد وصل الى جنيف برفقة زميله د. خلوق رؤوف حمدي لحضور دورة أو ورشة عمل ذات صلة بموضوع فصل النظائر. وبذلك خسر العراق عقلا وذكاء، قلما يمكن التعويض عنهما.
استمر العراق على متابعة حقوقه المترتبة في تنفيذ العقد المبرم مع فرنسا وأعاد كوادره المدربة بسرعة من فرنسا، وفق خطة امنية وسرية تامة. التحق المتدربون كل في قسمه، وقبل ايام من المباشرة بعمليات التهيئة لتحميل الوقود في مفاعل 17 تموز "اوزيراك"،
وبعد الظهر على تمام الساعة الرابعة من بعد ظهر الاحد السابع من حزيران 1981 انطلقت 24 طائرة أمريكية من طرازي F15 و F13 لسلاح الجو الإسرائيلي، من بئر السبع، متجاوزة الرادار الأردني في رحلة غادرة، مدتها تسعون دقيقة، ومسافتها 6505 ميلا، عبرت فيها اجواء عربية في الاردن والسعودية، التي كانت أجوائها تحرسها طائرات الأواكس الامريكية لتصل الى منطقة التويثة وتقصفها بصب صواريخها على المفاعل وبوابل من القذائف والصواريخ الموجهة بدقة. وعادت الطائرات، وهي تتزود بالوقود من طائرة بوينغ 707 في سماء الدول العربية المجاورة للعراق. لتزف الى بيغن وطاقمه الوزاري المنتظر بشرى انجاز ونجاح المرحلة النهائية للعملية التجسسية والعسكرية المسماة "بابل" باسم المدينة العراقية العريقة التي أذلت يهود اورشليم وهدمت هيكلهم الى الابد.
لم تسلم بنايات الورش والمختبرات الحارة ومحطة معالجة النفايات المشعة من القصف. كانت الاضرار بالغة في المفاعل، لدرجة لا يمكن إصلاحها، وكذلك الأضرار الاخرى. وتشير مصادر ومعلومات تسربت حول هذه العملية الى اهمية المعلومات والخرائط التي زودها العميل الذي رمزوا لاسمه في بعض الاصدارات باسم "حليم"، الأقرب لفظا الى "حايم"،وهو المقصود "حسين الشهرستاني". كان الطيارون الإسرائيليون يعرفون بالضبط، اين يتوجب عليهم القصف كي يوقعوا اكبر الاضرار الممكنة في المركز النووي، لقد سبق لهم أن تدربوا على نماذج أرضية مجسمة، وكان مفتاح نجاحهم، هو كيفية إنزال قبة المفاعل الى قلب المحطة النووية؛ فقوة القصف والتفجير الارضي الذي رافقها تدمير القبة التي تغطي المفاعل، وقد أُزيلت من أساساتها.
كما ان الجدران المسلحة تسليحا قويا تناثرت، اما المبنيان الرئيسيان الآخران، الحيويان للمحطة، فقد اتلفا كثيرا. وبطبيعة الحال فان دراسة آثار القصف على الموقع لا تقنع احدا ان هذا التدمير الكبير يكون ناتجا عن القصف الجوي الاسرائيلي وحده من دون تفجيرات إضافية كانت متزامنة معه من داخل الموقع ومن تحت الارض.
بطبيعة الحال نشير الى المساعدة الاساسية في تدمير قلب المفاعل بتورط احد التقنيين الفرنسيين الذين كان في قلب المفاعل لحظة القصف ويبدو انه كان يضع كميات من الديناميت في قلب المفاعل لتتفجر عبر إشارة لا سلكية معينة ترسلها الطائرات القاصفة عند شروعها في دخول بغداد لقصف المفاعل.
لقد سبق لهم ان جندوا الفرنسي" دميان شازبيه "، وهو تقني فرنسي كان الموساد قد جنده وحددت له مهمته بوضع حقيبة مليئة بالمتفجرات وجهاز إرسال يرسل إشاراته من داخل الموقع النووي.
لا احد يعرف لماذا ظل هذا الجاسوس المقبور متسكعا في أروقة المفاعل، فكان الضحية البشرية الوحيدة في سجل هذا الهجوم الاسرائيلي الغادر. في ذات الوقت كانت مجموعة الخبراء الفرنسيين الآخرين وعوائلهم يتمتعون في سفرة سياحية بُرمجت لهم في يوم عطلة الأحد الى منطقة بعيدة خارج منطقة الخطر والقصف ما عدا ذلك العميل المكلف لوضع الرتوش الاخيرة لتفجير المفاعل من داخله، وليس كما يظن العالم بفعل القصف الجوي من الخارج.
ويبدو من معطيات أخرى ان للفرنسيين ضلع في التخطيط والتنفيذ والتوقيت. وبهذا التواطؤ والمساهمة فيه تم تحطيم المفاعل في مركز التويثة، كما ارادوا ان يتخلصوا من المشروع كليا بفعل الضغط الصهيوني واختراق الموساد له وبفضل ورطة سقوط حسين الشهرستاني في التجنيد فيه.
ومن المحتمل أيضاً أن المعدات النووية الفرنسية قد تكون اصلا قد وصلت العراق وهي خربة، ولم يتم تصليحها، كما إدعى الفرنسيون، بالشكل الكامل والمطلوب، بعد تفجيرها الاول في مستودعات مدينة " سين سور مير" Seyen-sur-Mer الفرنسية يوم 5/4/1979.
ان اختيار تاريخ الضربة وتوقيته، تم تحديده على ضوء المعلومات الواردة من ان العراق يستعد لاستلام المفاعل رسميا من الطرف الفرنسي، وسيتم تشغيله في الأول من تموز 1981، لهذا تقرر تدميره بأقل من شهر على موعد التسليم النهائي للمفاعل، وتدميره وهو في حالة اشتغال.
مع نهايات 1981 تم اطلق سراح الدكتور جعفر ضياء جعفر بعد ان كان معتقلا منذ بدايات 1980 لكونه قد دافع عن الدكتور حسين ابراهيم صالح الشهرستاني بعد إعتقاله نهاية 1979 بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة الاسلامية المحظور في حينه. وكلاهما عملا بموقع مستشار في مركز البحوث النووية.
المصدر:
712 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع