حظ أمحيسـن ! .. الحلقة الخامسة عشر

                                        

      

 حظ أمحيسـن ! مـسلـسل تلفزيوني بين الحقيقة والخيال من الحياة الأجتماعية في العراق منذ منتصف الأربعينيات ولغاية أحتلال بغداد  في 9 نيسان/  2003
                            

                          الحلقة / الخامسة عشر

     

في الفاتح من شباط (فبراير) سنة 1963، اتيحت" لمحيسن" فرصة لزيارة أهله في العراق، فتوجه في عطلة نصف السنة على متن طائرة الخطوط الجوية الروسية "ايروفلوت"، فوصل بغداد ، ورحب به بن عمه والأصدقاء، وبعد أيام سافر لقريته وأستقبلته والدته وكافة افراد عائلته بالزغاريد والدموع بسبب المصائب التي تعرض لها, وبعد أن هدأت الشجون نصبوا (منقلة) القهوة والشاي وأعدت أخته مختلف المشويات,والمكسرات والتمر والراشي(طحينيه)!

          
  
               منقلة الفحم لتخدير الشاي بالطريقة العراقية

ساد الجلسة سـرد لذكريات أيام طفولة أمحيسن وحبيبته جميلة, أستمرت الى ما بعد منتصف الليل , وطلبت الأم أن لا  يمكث أمحيسن في بيت العائلة طويلاً, فقد كان الجو ملبداً بالغيوم السياسية ، وعلم أن شرطة "الأمن" قامت بتفتيش العديد من بيوت أبناء القرية المتهمين بتأييد ثورة 14 تموز 1958  واعتبر أي شخص مؤيد لتلك الثورة معاديا للنظام الجديد ،... وبما أن "أمحيسن" طالب بعثة قد أرسلته الحكومة للحصول على شهادة (الدكتوراه) من جامعة موسكو عاصمة الأتحاد السوفيتي ,.. لهذا اعتبر شخص معادي ، و بات من المحتمل تعرض  دار عائلته  للتفتيش , ولهذا سـارع احد أقاربه المتنفذ في قضاء الشطرة بأرسل خبراً إلى والدته يعلمها بنية شرطة (أمنْ) القضاء  بتفتيش الدار, .. فخافت الأم,.. وحرقت جميع مافي مكتبته من  وثائق وكتب في التنور!  
لم يتأسف أمحيسن على مافعلت أمه البته,..لعدم أهمية ما أحترق ,.. الا أنه تأسف على تصاوير وضعها بين طيات أحد الكتب  التقطها مع الملك فيصل الثاني أثناء تسلمه لشهادة التخرج من جامعة بغداد في صيف   1956  ,وصورة أخرى مع (الزعيم عبد الكريم قاسم) في صيف 1958,..  و لم تعثر شرطة الأمن على اي دليل يثبت أية علاقة لمحيسن بالسياسة!,..
ألا أن تلك العملية جلبت الشُبهة  على انتماء " أمحيسن " إلى تيار سياسي معين ، في حين أنه لم ينتمي  لأي حزب من الأحزاب ،.. ولكن الإشاعة سـرت بين الناس بسبب علائقه الشخصية مع بعض أصدقاء الطفوله من ذوي الميول السياسية !
تدهور الوضع السياسي في العراق بسرعة وصارت الجماهير في الشوارع الرئيسية تسمع بعضها البعض شعارات يمجها الخلق,.. واضافة الى ذلك, أعلان طلبة جامعة بغداد الإضراب, ويوماً بعد يوم أزداد عنفوان تلك المظاهرات في كافة شوارع العاصمة والمدن الكبرى مطالبة بتغيير مسار الثورة والإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم !
بعد عدة أيام, تحولت الشعارات الى أعمال العنف, و صارت كل المؤشرات الظاهرة والخفية تستوجب عودة " أمحيسن" إلى مقر دراسته في جامعة موسكو بأسرع وقت!
ولذا ففي 7 شباط (فبراير), عرج  أمحيسن الى شارع السعدون في بغداد , حيث تكثر هناك شركات النقل الجوي ليبتاع منها تذكرة سفر, فقاده حظه المنحوس الى شركة الخطوط الجوية الأمريكية الموسومة بـ (بان أمريكان) ,..ليسأل عن امكانية شراء تذكرة سفرعلى اقرب طائرة متوجهة الى موسكو!, فرحب به  مدير الشركة وقال له:

نعم توجد ولكن هناك احتمال عدم وصولها غداً الى مطار بغداد,..وأن لم تصل  لغاية الساعة التاسعة صباحاً! , فمعنى ذلك سـنضطر لنقلكم على متن طائرة أخرى!,... لم يًعرَّ " أمحيسن" كلام ذلك المديرأهمية, وهو أمر اعتيادي ، إلا أن الواقع بين فيما بعد سـيناريو مختلفاً تماماً !

         

ففي يوم الجمعة, الموافق الثامن من شباط 1963،... توجه " أمحيسن" نحو المطار، ليستقل طائرة الـ "بان أمريكان"، القادمة من طهران والمتوجهة إلى ميونيخ في ألمانيا,..الا أن الطائرة الأمريكية لم تصل الى مطار بغداد الدولي !,.. ولغاية الساعة التاسعة لم يُعلن حتى عن مغادرتها طهران ، وبدأت أجراءات غلق  المطار والأعلان بمكبرات الصوت عن مقتل الزعيم عبدالكريم قاسم!
دبَّت الفوضى داخل المطار، وأودَّعَ " أمحيسن" حقائبه في مخزن في المطار, وعاد مع بن عمه إلى داره مسرعين، ولاحظا وهما في السيارة كيف كانت أحدى الطائرات في سماء بغداد تقصف وزارة الدفاع الواقعة في باب المعظم, والتي تعتبر  المقر الرسمي لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وسكنه الخاص !, وما أن وصل" أمحيسن "  لدارعمه , حتى علم من المذياع بأن ثورة قد اندلعت لإسقاط نظام قاسـم هذا اليوم الجمعة الموافق للرابع عشر من رمضان  الموافق لـ (8شباط 1963)!
وبعد ثلاثة أسابيع من اختفاء " أمحيسن " في دار عمه,.. سمع بياناً بالراديو يجيز السّـفر لخارج العراق بشرط أن يمر الشخص بدائرة أَمنْ بغداد ليثبت خِلوهِ من أية سـوابق .
 وبعد أسابيع،... توجه " أمحيسن" إلى مقرعمل عمه, وطلب منه المساعدة للحصول على موافقة الأمن على مغادرة العراق فنادى عمه على احد عماله, وطلب منه اخذ جواز سفر
" أمحيسن " الى مديرية الجوازات  للترخيص له بالسفر خارج العراق !
وبعد أقل من ساعتين جاء ذلك الرجل والبشرى تعلو وجهه وجواز السفر بيده وسلمه لمحيسن  وقد اكمل الموافقة على سفره !

                 

وفي ليلة السفر أقام بن عمه دعوة عشاء على شرفه في مقهى بشارع الرشيد الموسوم بـ (شريف وحداد)  يقع في بداية جسر الأحرار من جهة الرصافة، وكان ملتقى الطبقة المثقفة, ورجال الدولة، وكانت سهرة ممتعة. ولكن اين المفر من المنحوس او قل "حظ أمحيسـن"!

        

   وعلى اية حال ,..فبعد ما يقارب الساعة, وما أن طابت الجلسة بالأحاديث عن العالم المتمدن ,..وطريقة سهراتهم ومقارنة ذلك بالخيرات التي وضعت على الطاولة من مختلف المشروبات و "المزات ", حتى  لاحظ "أمحيسن" بالقرب منه بن عم جميلة مع لفيف من أهالي الشطرة ، المعادين لثورة 14 تموز 1958.
شعر "أمحيسن" بقلق  شديد لأنه يعرف معدن ذلك الشاب ومن المستحيل ان يفوت هذه الفرصة من دون أن يعمل أي شيء لينتقم من أمحيسن , الذي بسببه فقد أخاه وتشردت عائلته  وعندئذ سيتعرقل سفره في صباح الغد !
 طلب" أمحيسن" من بن عمه أن يدفع الحساب بسرعة ويغادروا المكان فوراً، ولم يفصح لأبن عمه ولا للمدعوين عن السبب، وفي اللحظة التي نهضوا فيها، لاحظ " أمحيسن " وقوف ذلك االشاب  وجماعته والخروج خلفهم، فأسرع " أمحيسن " وبن عمه  نحو سيارته,  ومن حُسن الحظ كانت في تلك الليلة مفارز عديدة من الجيش تطلب من السيارات التوقف وتفتشها بدقة بسبب اندلاع اضطرابات في معسكر الرشيد قام بها لفيف من نواب الضباط ، وما أن وصلت السيارة المقلة  لمحيسن  الى ساحة التحرير في الباب الشرقي ,حتى طلب منهام التوقف وجاءهم جندي ومدَّ رأسه مطالباً بالأوراق الثبوتية، ثم تمعن بمحيسن وبن عمه  وقال : مًن؟ ,..مَنْ؟ ..أولاد الحاج , وكان ذلك لقب عائلة أمحيسن  الشائع ، وسرعان ما تعرف "أمحيسن",على ذلك الجندي, فقد كان معه في مدرسة القرية الابتدائية ، .. وطلب الجندي من "أمحيسن" و من بن عمه  بالتوجه فوراً لدارهم لأسباب أمنية ، وهكذا زاد من سرعة  السياره ، والتفت " أمحيسن " إلى الخلف ووجد سيارة العصبة توقفت قرب تلك المفرزة!
اخبر أمحيسن بن عمه بحقيقة الموضوع, ... وبعد لحظات تمكن من التمويه على العصبة التي تبعتهما عن طريق أزقة غير معروفة إلا لسكنة بغداد، ووصلا بعد نصف ساعة لدارهم ، وقد انهكهما التعب والخوف، لا من شيء إلا من التأخير الذي قد يسببه ذلك المفتري في سفر  "أمحيسن " في الصباح الباكر،... وحمداُ لله  سارت الأمور بشكل طبيعي وتم سفر" أمحيسن "
جواً عن طريق  لبنان- ميونيخ (من المدن الألمانية المهمة)،... ومكث  ليلتين في ألمانيا ثم توجّه إلى موسكو، واستقبله الزملاء هناك استقبالاً باهراً.

       

عاد " أمحيسن " لصديقته الأولى "آليـسا" بعد غياب دام أكثر من شهر، وقد رحبت به، إلا أنه لمس بعض الفتور في علاقتها العاطفية، متذرعة من إلحاح والدتها بوضع حدّ لعلاقتها " أمحيسن " إن لم يعلن زواجه منها فقد طالت فترة الخطوبة، وهي تخاف من أن يفوتها القطار وتصبح (عانس), ويخفت جمالها، أو أن " أمحيسن " سيتركها... ويسافر لوطنه من دون عودة بعد إكمال دراسته!.. لقد برزت هذه المخاوف وبدأت تؤثر في علائقهما بشكل واضح، بالرغم من تأكيد "أمحيسن " لزميلته واقع حياته معها، وقد قبلت بذلك واستمرت وهي راضية، فما الذي حدث بعد تغيبه شهراً واحداً؟,..فلا بُـدَ وأن أضمحلَ إخلاصها,..فالمثل يقول في روسيا:
"أن المرأة كالحساء الساخن طيباً في حينه ، وإّْن تركته,.. فسوف يتفسخ ولا يكون له طعم!"
بدأ " أمحيسن " بالحذر في علاقته مع تلك الشابة , وبدأت بذرة الشَّك القاتلة للحب تنمو رويداً وتكرر الكذب وإلغاء المواعيد والبرود في اللقاء،... إلى أن اتصل بها في أحد الأيام طالباً اللقاء معها كالعادة في نهاية الأسبوع ,.. فاعتذرت لمرضها،,.. ولكن حاسة الحدس لدى أمحيسن لا تخيب!,..فخرج مُسرعاً ليراقبها  قرب دارها,..فعادت  بالتكسي في ساعة متأخرة من الليل ما أن هبطت من السيارة حتى أخذ الأذن من السائق بتوصيله الى جامعة الـ MJY! ,..فوافق السائق ,..وبسرعة صعد وأغلق باب السيارة ,..ثم نادى حيا صديقته وألتفتت نحوه ,..الا أنه طلب من السائق الأسراع ,..وهي تصرخ " بجالسته أجدي منيا",..اي من فضلك أنتظرني !,..  ولكن فات الأوان او كما يقال بالأمثال " حبل الكذب قصير" ,..وهكذا عاد أمحيسن إلى سكنه ونام ليلته وهوفي أشد الغضب !,.. ولام نفسه لأستمراره معها ,..والآن بان المستخبي والمستور  فقد وجد المبرر لتركها ، وكما في الأمثال:  طِلعَتْ مِنَكْ يا جامع!  
ثم فتح أمحيسن مسجله فأستمع الى المطربة الخالدة أم كلثوم وهي تغرد أبياتاً من قصيدة الأطلال,  كلمات زوجها الدكتور ابراهيم ناجي وألحان رياض السنباطي :

اين من عيني حبيب سـاحر   فيه عـز وجلال وحيـاء
عابق السحر كأنفاس الربا    ساهم الطرف كأحلام المساء
هل رأى الحب سكارى مثلنا   كم بنينا من خيال حولنا
ومشينا في طريق مُقمر     تنشد الفَـرحة فيه حولنا
ياحبيبي كل شيئ بقضاء    ما بأيدينا خُلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا        ذات يوم بعد ما عـزَ اللقاء
فأذا أنكر خل خلهُ          وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل الى غايته    لا تقل شئنا فأن الحظ شاء


يتبع في الحلقة/16  / مع محبتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة الرابعة عشر:

http://www.algardenia.com/maqalat/9288-2014-03-08-18-24-39.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع