في ذكرى كارثة تفجير شارع المتنبي 5 آذار 2007

                                           

                           د.أكرم المشهداني

في ذكرى كارثة تفجير شارع المتنبي 5 آذار 2007

  

سبعة أعوام مرت على كارثة تفجير شارع المتنبي الذي يعد الرمز الأبهى للثقافة العراقية، بحياته وحيويته الأدبية، وحضوره في حياة مثقفي العراق، وتاريخه العريق أيضاً.

 

ومازال المشهد المروع لم يفارق مخيلة السماء ففي 6/3/2007 وفي الساعة الحادية عشرة صباحا حيث تنشط الحركة في هذا الشارع الحيوي ، والذي بعد رئة العراق التي يتحسس فيها وجوده في محافل العالم قام الغادرون بارتكاب جريمتهم عبر سيارة مفخخة ادخلت الشارع غفلة وحصدت ما حصدت من الانسان والكتاب.
في الخامس من آذار 2007 سقطت كتب بغداد مرة أخرى ضحية للحرب عندما انفجرت سيارة مفخخة في شارع المتنبي التاريخي – موطن بيع الكتب و المطابع و المقاهي كمقهى الشابندر الشهيرة ، حيث يتجمع أدباء ومفكرو العراق منذ قرون، مما أدى إلى مقتل وإصابة أكثر من100 شخص وتدمير أشهر مكتباته التي التهمتها النيران.
في يوم 5/3/2007  احترقت أقدم مكتبة (العصرية)، وتهدم أقدم مقهى ثقافي(الشابندر)، وقتل أشهر بائع كتب (محمد يحياوي). منذ تلك اللحظة، ارتفع شارع المتنبي من مجرد شارع، رغم عراقته وجلال ما يحمل، إلى رمز تجاوز محليته إلى مدن العالم الكبرى من لندن إلى سان فرانسيسكو، يتم تذكره سنويا ، كما نتذكر تلك الأيام المظلمة في تاريخ البشرية، حين تعاد القصة نفسها قبل هولاكو وبعده، قبل محاكم التفتيش وبعدها، تغمد الله أرواح الشهداء بالرحمة والهم ذويهم الصبر والسلوان.
وبقيت حينها ولأكثر من يومين سحب دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية تغطي سماء شارع المتنبي بعد أن تحول إلى ركام وأنقاض، وأعيد افتتاحه من جديد رسميا عام 2008. مكتبة القيروان والمكتبة القانونية ومكتبة عدنان ومكتبة النهضة والمكتبة العصرية دمرت واحترقت كاملة. ثم مقهى الشابندر، ملتقى المثقفين، هو الآخر دمر. وقتل في هذا الهجوم 5 من أبناء صاحب مقهى الشابندر محمد الخشالي، وعثر عليهم بين الركام وتحت الأنقاض، وأدى هذا إلى فقدان والدتهم بصرها إثر الصدمة ثم فارقت الحياة بعد عدة أشهر.
وإذا كنا، عراقيين وعربا، قد نسينا هذا القصة بعد حين لكثرة قصصنا المفجعة، فإن أكثر من 150 شاعرا وكاتبا وفنانا غربيا لم ينسوا ذلك، بل شكلوا ما يشبه التحالف الثقافي، ليس فقط لإحياء ذكرى مأساة شارع المتنبي تحت شعار «حتى لا ننسى»، وإنما العمل أيضا، بقوة الكلمات نفسها، على منع تكرار ذلك في أي مكان من العالم، وفي أي زمان من الأزمنة.

     

لقد كان المتنبي شارعا ومازال صوت التحدي لكل دكتاتور ولكل ظالم وكل جاهل ، إذ نشا هذا الشارع التاريخي بهمة المثقفين الذين افترشوا الرصيف بما لديهم من كتب متنوعة ليعرضوها للبيع في سنوات الحصار العجاف، فقد أبت تلك النفوس العامرة بالكرامة أن تبيع ما لديها من كرامة، بيعت مكتبات راقية لأن أصحابها كانوا يعانون شظف العيش، ولديهم كرامة لا تسمح لهم بانتهاج اساليب الفساد،  وقد تحول السوق إلى اكبر مكان لاستنساخ آخر ما يصدر من كتب ومطبوعات خارج الوطن مما لايسمح الحصار باستيراده، فكان الاستنساخ هو الحل العراقي الأمثل. لذلك تعرض كثير من باعته إلى الاستدعاء من رجال الأمن ، لكن حب الكتاب وضيق العيش جعل المخاوف تتلاشى لدى بعض الشجعان الذين مارسوا طريقة التخفي والتضليل في بيع الكتب المحظورة، بل والأدهى أن منع النظام لبعض المؤلفين والعناوين بعينها، أسهم في ترويج بيع الكتاب المستنسخ.
في هذه المناسبة نود أن نلفت انتباه المسؤولين على الاهتمام بمتابعة حقوق الضحايا ممن فقدوا حياتهم ومكاتبهم ومخازنهم وان كانت لا ترتقي إلى مستوى الخسائر التي لحقت بالأنفس والممتلكات ولكننا نأمل في إنصاف المغبونين ، وننوه إلى إن اغلب المساعدات لم تصل إلى مستحقيها لان هناك من تعامل معها بطريقة لا أخلاقية وأنانية من اجل الحصول على مكاسب آنية على حساب المستحقين ،
إذا كان أحد المؤرخين الذين كتبوا تاريخ بغداد ذهب الى أنها لم تعش يوماً أسوأ من يوم سقوطها على يد المغول فإن مؤرخاً معاصراً وجد أن هذا «اليوم الأسوأ» تكرر مرتين في غضون أقلّ من أربع سنوات من القرن الحادي والعشرين. فيوم سقطت بغداد ثانية على أيدي المحتلين الأميركيين مغول العصر الجديد، جرى في يوم «الاحتلال» هذا تدمير الكثير من مظاهر الحضارة والثقافة فيها، كان أبرزها إحراق المكتبات ونهب الآثار ومتاحف الفنون، وتدمير المؤسسات الثقافية، بما فيها الجامعات وبيوت العلم. وأكمل المحتلون، من بعد، أعمال التدمير الممنهج هذه بتفجير شارع المتنبي، الرمز الحي للتاريخ الثقافي في العراق. هذا الشارع ليس مجـــرد مكــان أو درب يسلكه المارة، إنما هو فضاء مشبــع بالدلالات الثقافية ذات الأبعاد التاريخية.. فضلاً عن أنه وجود، له حضوره في ذاكرة أجيال من المثقفين.

      

جاء تفجير شارع المتنبي استهدافاً لدلالتين أساسيتين من دلالاته. فأولاً: هو شارع الثقافة والمثقفين، بل إن ثقافة المثقف العراقي التي يشكلها الكتاب والمطبوعات الأخرى تكاد ترتبط كلياً بهذا الشارع ومكتباته والكتبية فيه، منذ أن بدأ وجود حقيقي لثقافة العراق في العصر الحديث. وثانياً: إن لهذا «الرمز الثقافي» تاريخه العريق المرتبط، زماناً ومكاناً، بأزمنة تاريخية شهدت تحولات كبيرة، وكثيرة، في الحياة الاجتماعية والسياسية، بينما ظل هو شارعاً له تقاليده، التي هي تقاليد المثقفين الحقيقيين. ووفرت مكتباته لهذا المثقف ما لم توفره سواها من مكتبات العواصم الأخرى لمثقفيها. فبين أصحاب هذه المكتبات مثقفون، وبينهم «عشاق حقيقيون» للكتاب. لذلك كانت تعنيهم نوعية الكتاب اكثر مما تعنيهم تجارته
وكما كان لهذا الشارع حضوره الثقافي، وحضور المثقفين فيه، منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة، فإن له تاريخه الخاص. فبعض المؤرخين يعيد تأسيس هذا الشارع الى العصر العباسي. أما تسميته شارع المتنبي، تكريماً لمكانته الأدبية والثقافية، فكانت العام 1932، في عهد الملك فيصل الأول، بعد أن أصبح يعجّ بالمكتبات وهي تنتقل إليه من سوق السراي، حيث أصبح أحدهما يشكل امتداداً للآخر. وسوف السراي، هو الآخر، له تاريخه الذي يرتبط بهذا الشارع ترابط تلازم في الأهمية والاهتمام. فهذا السوق أنشئ في آخر العهد العثماني في العراق، مكتسباً من «سراي الحكومة» المجاور له طابعه، وكانت أول مكتبة أقيمت فيه هي «المكتبة العربية» التي أسسها نعمان الأعظمي العام 1904، ثم تلتها «المكتبة العصرية» لمؤسسها محمود حلمي العام 1914، وهي كانت أولى المكتبات التي انتقلت الى شارع المتنبي لتأخذ ومكتبات أخرى مواقع متميزة فيه، أبرزها: «مكتبة المثنى» التي أسسها قاسم محمد الرجب والتي سرعان ما أصبحت من اكبر أو أهم مكتبات بغداد، وكذلك «مكتبة المعارف» و «المكتبة الأهلية» و «مكتبة النهضة» و «مكتبة التربية» و «مكتبة دار البيان» التي أسسها الباحث والناشر علي الخاقاني. وأصبحت معظم هذه المكتبات ملتقى أدباء العراق ومثقفيه، وأصبح يوم الجمعة من كل أسبوع أشبه بندوة ثقافية تتم في هذه المكتبات التي كان لكل منها زبائنها وروّادها.
وفي حقبة التسعينات من القرن الماضي، والسنوات الأولى من القرن الجديد، أصبح شارع المتنبي ملتقى المثقفين، خصوصاً في أيام الجمعة. وأصبح روّاده وقاصدوه في ثلاث مراتب:
·هناك المثقفون والأدباء والقراء العراقيون الذين إذا أردت أن تلتقي منهم الكثيرين، على غير موعد، فيمكن أن تلتقيهم في ساعات الصباح حتى الظهيرة.
·ثم هناك الزائرون من العرب والأجانب، الذين تعرفوا الى الشارع وصاروا يقصدونه للحصول على النادر من الكتب، بأسعار لا تمثل، مهما بلغت، رقماً ذا بال بالنسبة الى سعر صرف عملاتهم في السوق العراقية. وهم صنفان: صنف كان يقتني الكتاب لمكتبته الشخصية، وصنف آخر للتجارة.
·أما من كانوا في المرتبة الثالثة من زائري شارع المتنبي فهم الصحافيون، عرباً وأجانب، منهم العاملون في الصحافة، أو في الشبكات الفضائية. وخرج كثيرون منهم بتحقيقات، وموضوعات، جسدت حقبة أليمة في تاريخ أو حياة، الثقافة والمثقف في العراق
مكتبة النهضة ،وهي أكبر مكتبة في الشارع ،دمرت واحترقت بالكامل... وهي الأخرى تضم آلاف الكتب التاريخية والدينية والقانونية التي تحاكي تاريخ العراق القديم والحديث" وأحدث الإنفجار حفرة عميقة وسط الشارع ،و إن مايقارب الـ (70) محلا تضررت... (40) منها دمر بالكامل ،إضافة إلى تدمير نحو (15) من المطابع الصناعية الموجودة في الشارع... فضلا عن سبع عمارات سكنية دمرت بالكامل، كما إن مقهى (الشابندر) الذي يعتبر أحد المعالم المهمة في هذا الشارع ، دمر هو الآخر بالكامل. ويمثل (مقهى الشاهبندر ) ملتقى الأدباء والمثقفين والكتاب والفنانيين ،وأغلبهم من كبار السن... إعتادوا الحضور إلى هذا المكان رغم كل مايعاني منه البلد من تدهور أمني كبير.
ستبقى كارثة تفجير شارع الثقافة في بغداد (شارع المتنبي) في الخامس من آذار 2007 ماثلة للعيان ونتذكر شهدائها الأبرار ... ونترحم عليهم، ونطالب الحكومة بالايفاء بتعداتها لتعويض أسر الشهداء والجرحى، وتعويض أصحاب المكتبات والمصالح عما لحق بهم من أذى وخراب لممتلكاتهم التي كانوا يعتاشون منها..ونعزي أسر الشهداء، ونعزي أخينا أحمد زيدان باستشهاد صهره  منذر عبدالواحد العياش، في هذا الحادث الإجرامي... وإنا لله وإنا إليه راجعون

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع