كيف قتل الوصي عبد الإله ونوري السعيد يوم 14 تموز ؟

                                          

كيف قتل الوصي عبد الإله ونوري السعيد يوم 14 تموز ؟
ملاحظة من الگاردينيا :هذه الفقرة ( 48 ) من كتاب سماء الارجوان، قصة كركوك في نصف قرن 1925-1975من تأليف وجدي أنور مردان الذي سيصدر قريبا إن شاء الله

وجدي أنور مردان
بثت إذاعة بغداد نشيد الله أكبر، دون البدء بصوت البلبل الذي كان يؤذن بقرب بث برامج الاذاعة. ثم توالت البيانات الحماسية. البيان رقم (1) قيام الضباط الاحرار بالثورة والقضاء على الحكم الملكي. ثم البيان رقم (2) يفيد بان "المجرم الوصي عبد الاله قد قتل وان جثته سحلت في شوارع بغداد ثم علقت على عمود كهرباء قرب مدخل وزارة الدفاع" . كان الحدث ايذانا لأنتشار ثقافة السحل والتمثيل في العراق. عتمت قادة الثورة على مصير الملك فيصل الثاني (7). بدأ التركيز على البحث عن نوري السعيد الهارب. هذا باختصار ماحدث. ولكنني عرفت التفاصيل الدقيقة في العام 1988، عندما كنت أعمل في السفارة العراقية في لندن . تعرفت على المرحومة عصمت السعيد، زوجة المرحوم صباح نوري السعيد، عن طريق الاستاذ الفاضل والدبلوماسي العراقي من الارومة التركمانية نجدت فتحي صفوت قيردار والسيدة عقيلته نرمين قيردار.كانت الدكتورة عصمت السعيد سيدة فاضلة، مصرية المولد، عراقية الهوى. قوية الشخصية وقورة. هادئة كهدوء الرضيع وقد شبع. ملامحها توحي بالثقة. قليلة الكلام.
عندما تتحدث تنظرالى الافق بعيدا بعيدا كأنها تسبح في الفضاء اللانهائي، تبحث عن المجهول. نادرة الابتسام ندرة العسجد. وان ابتسمت تشرق وجهها كأشراقة الصباح. دافئة كشمس الربيع.ما هو الدافع الذي حملني لكي أتعرف عليها؟!! كنت اسأل نفسي هذا السؤال. أنني لم أحمل كثيرا من الود للعهد الملكي. لم أتعرف بعمق على مداخيل سياسات نوري السعيد في حينها. ربما الفضول للوقوف على الحقيقة كان أحد تلك الدوافع . لكن الاحترام لهذه السيدة كان الدافع الابرز.
عاشت المرحومة عصمت السعيد في لندن مع نجليها المرحومين فلاح وعصام صباح نوري السعيد منذ عام 1958  ثلاثة عقود كاملة. لم تتخل عن جنسيتها العراقية. لم تقدم طلبا للحصول على الجواز البريطاني ولا المصري .كان باستطاعتها الحصول عليهما برمشة عين. أصرت على ان تحتفظ بجنسيتها وجوازها العراقيين. كانت ترسل جوازها للسفارة لتجديده أو إصدار جواز جديد لها كلما نفذت الفترة القانونية للتمديد او التجديد.. عصمت السعيد عانت ما فيه الكفاية من الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في العراق ولم تنصفها. لكنها رغما عن ذلك ظلت مخلصة لتربة العراق وهوائه ومياهه وشعبه. ففي نهاية العام 1987 استضافت بصفتها رئيسة جمعية النساء العربيات في لندن ، مجموعة من أطفال أسرى العراقيين في الحرب العراقية الإيرانية. أكـــــــرمتهم. عرفت المجتمــــــع الانكليزي بمعاناتهم، نظمت لهم جولات سياحية في أرجاء لندن، جمعت مجموعة من الأطباء لمعالجة المرضى منهم، في الوقت الذي كان فيه نفر من الذين باعوا أنفسهم لأيران  يذبحون أباءهم الأسرى في أقفاص الأسر في إيران. أكاد أبكي دما.
كان الوقت ظهرا. وكانت شمس لندن الباهت ترسل أشعتها الباردة من بين الغيوم المكفهرة. هيبة المرحومة جذبتني ودبت الدفء بين أوصالي. الشال الأزرق كسماء بغداد زاد من وقارها وحشمتها. قسمات وجهها تحكي حكاية الزمن الغادر وبريق عينيها تشع إصرارا وألقا بحب العراق. تخيلت إنني أمام جبل وليس أمام  إمرأة حفرت السنين على جسدها أخاديد الألم. أعدت صياغة السؤال الذي كنت أنوي طرحه. ثم حورت في  تركيبه لكي لا أوقظ المواجع بعد ثلاثة عقود من الزمن وأنكأ الجراح. رحبت بي كأحسن ما يكون الترحيب. زدت احتراما لها. المجاملات الاجتماعية أخذت دورها. اطمأنت. سألت عن أحوال العراق؟
قلت: أحوال العراق ذات شجون.
قالت: العراق أعز من بؤبؤة العين.
قلت: العين تدمع أحيانا!!.
قالت: من فرط الحب.
قلت: ومن الحب ما قتل.
قالت: إن شاء الله خير.
قلت: إن بقي من العمر بقية!!
قلت ياسيدتي، لاأريد أن أثير المواجع. ولا انثر على الجرح ملحا. ربما الجيل الجديد لم يطلع على الحقيقة بعد. إن الحقائق كثيراً ما تشوه. جئت أبحث عن حقيقة ما حصل. كيف ألقي القبض على المرحوم نوري السعيد؟ وكيف مات ومن قتله. وعن ظروف هروبه من داره واختفائه؟!!
تنهدت السيدة الوقورة، انحدرت دمعة من عينيها. خيل لي أنها ستحرق الصالة من فرط سخونتها. نظرت الى سقف الصالة المزدانة بثريات الكريستال الثمينة.كأنها تريد أن تقطف كرة من كراتها المتدلية لتنظر من خلالها الى شريط الماضي، بآلامه وأتراحه ومآسيه. ثم تنهدت وقالت بصوتها الناعم المليء بالثقة والاطمئنان.
يابني، أنني عاكف منذ فترة على تأليف كتاب عن المرحوم نوري السعيد، قد اسميه رجل الدولة والإنسان، وقد رويت فيه بالتفصيل ما سالت عنه (8).
قلت ولكن الكتاب لم يطبع الى الآن؟ وأريد أن اسمع منك ما حدث؟!!
تنهدت وقالت: في ليلة 14 تموز وهو اليوم الذي تقرر فيه سفر جلالة الملك فيصل الى لندن تآمر بعض ضباط الفرقة (الثانية) هكذا، ( والصحيح هو الفرقة الثالثة) ضد غازي الداغستاني، قائدهم، فسجنوه في مكتبه في المعسكر وأخذ القيادة عبد الكريم قاسم (9). فاختاروا ليلة سفر الملك الى لندن لدخول الفرقة الى العاصمة بغداد لتنفيذ الخطة الموضوعة من قبل الضباط الأحرار. اختار قاسم العقيد عبد السلام محمد عارف.. فأرسله على رأس فرقة مسلحة الى بغداد، على أن يتجه قسم من الجنود الى مقر العائلة المالكة في قصر الرحاب لمحاصرتهم ويذهب القسم الآخر الى دار نوري السعيد للقضاء عليه. كان المرحوم في داره وحيدا مـــــــع السائــق ( عبود) ليقله في الصباح الباكر الى المطار. قاطعتها، وقلت أنه حسب معلوماتي أن السائق  الذي كان في البيت تلك الليلة كان يدعى ( مردان على) وهو من كركوك خدم الباشا أكثر من عشرين عاما. حسب ما رواه لي شخصيا.
قالت: لقد نقل إلينا بان السائق كان عبود، على أية حال، جاء ( وصفي طاهر) في فجر ذلك اليوم الى منزل المرحوم، طالبا من السائق ابلاغ الباشا عن حضوره لإبلاغه بأمر هام. وصفي طاهر شغل مركز المرافق الخاص لنوري السعيد في رئاسة الوزراء مدة طويلة. استقبله الباشا، ويبدو أن وصفي قام بهذه الحركة المسرحية ليثبت إخلاصه للباشا إذا فشلت المؤامرة. علم الباشا من وصفي أن عبد الكريم قاسم ينفذ الانقلاب الذي نظمه الضباط الأحرار. لم يكن أمام نوري من الوقت ما يسمح له تنظيم خطة للهروب. وضع الباشا على كتفيه معطف وهو بملابس النوم. ووضع في جيبه مسدسين. هرع مسرعا الى الحديقة. لمح نوري قرب الشاطئ قارب يجدفه صياد مسن كان يجوب النهر فناداه وأمره أن يحمله الى الجانب المقابل من النهر. في هذه الأثناء هجم الجنود على الدار ولم يجدوا نوري في الدار. طلب الباشا من الصياد أن يرجعه الى ضفة الكرادة على ساحل منزل الدكتور صالح البصام. لم يكن البصام وعائلته في البيت. التقى الباشا بشقيق الدكتور صالح السيد مرتضى وابن عمه صادق، ادخلاه الدار وأكرماه. رجع الدكتور صالح وزوجته الى الدار ففكرا أخلائه الى مكان آمن. نقلا الباشا الى الكاظمية ولم يعلم من في البيت بهوية الضيف القادم. قبل غروب الشمس طرق باب منزل الدكتور صالح فدخل عدد من الشرطة ومعهم الصياد وولده ثم بدأ استجواب الحاضرين. تجمع فــــــــي الصالة الدكتور صالح وشقيقه مرتضى. سأل المحقق الصياد هل تعرف هؤلاء يا بوي؟ هز الصياد المسن رأسه بالنفي قائلا: لم أراهما في حياتي، وأضاف الصياد قائلا لقد سبق وان سألتني ياسيدي ونحن في الخارج عن نوري السعيد فأجبتك بأنني أسمع عنه ولكنني لم أره، أما هؤلاء فإنني لم اسمع عنهم ولم أرهم من قبل.
قال المحقق. يابوي أنك صياد في نهر دجلة فلابد انك رأيت شيئا  جديدا صباح هذا اليوم. ثم أخرج صكا من جيبه ولوح به قائلا: أمامك صك بعشرة آلاف دينار ( هذا المبلغ كان يساوي أكثر من خمس وثلاثين ألف دولار وتعادل بسعر هذه الأيام ستون ألف دولار أي أكثر من ستين مليون دينار). فأعترف واقبض هذا المبلغ. اطرق الصياد برأسه الى الأرض وهو يمسك بلحيته البيضاء، وقال: أنظر ياسيدي، أترى لحيتي وشيب رأسي؟ إن إحدى قدمي في القبر ياولدي، كيف يمكنني أن أواجه ربي إذا افتريت في سبيل قبض مال حرام؟ بالله عليك، أعفني عن هذا الجواب ياسيدي، لقد سبق وأن قلت لك بأنني لااعلم شيئاً قط ، ولم أر أحداً ممن ذكرتهم قبل الآن في حياتي، وكفى ياسيدي، كفى ..
قلت: كما يقول المثل "لو خليت قلبت". ولايمكن أن يتحول حليب الأصيل ماء!!
تنهدت السيدة الفاضلة. استجمعت شجاعتها. فهي شجاعة صلبة. هل تستذكر مواجع الآلام، أم تسبح في ذاكرتها لتلتقط الدرر من بحر الأحزان؟؟.
كادت تنهيداتها تحرقني. رشفت رشفة من الماء. لتطفئ لهيب الجمرة التي تتوقد في
أعماقها. استجمعت قواها. نظرت الى عينيها الناعستين كأني أغوص في بحر متلاطم الأمواج. اطمح أن اسمع المزيد. استأنفت حديثها لتروي ظمئي، ربما أحست بأنني كلما استرسلت زدت عطشا وولعا.
واستمرت في الحديث كأنها تلملم الحبات المتناثرة من عقد انقطع خيطه تواً.
بعد حادثة التحقيق، ترك نوري دار البصام فجر 15 تموز، ملتفا بعباءة سوداء وكوفية  بين سيدتين، اتجه وباقي أفراد من عائلة السيد بصام الى الطريق المؤدية الى حضرة الكاظمين. ودخلوا دار محمود الاستربادي. أكرموا وفادة الباشا والضيوف و بعد استراحة قصيرة اقترحت السيدة أم عبد الأمير ( زوجة محمود الاستربادي) أن تصحبه الى مكان آمن في البتاوين،  هو بيت السيد هاشم جعفر زوج ابنة محمود الاستربادي. رحب الباشا بالاقتراح و عند وصولهم الى البتاوين طرقت السيدة أم عبد الأمير الباب ثم أسرت لابنة زوجها ( من زوجة أخرى) بان نوري السعيد معهم ويستأذن بالدخول.. رحبت ودخلوا صالة الاستقبال. أمتعض السيد هاشم وعائلته من وجود نوري السعيد ورفضوا السلام عليه. سالت أم عبد الأمير عن دار الشيخ محمد العريبي ليتسنى الانتقال إليها. وبعد مدة وجيزة أحس نوري بأن باب الدار قد فتحت ثم أغلقت بسرعة فانتابته الهواجس فسال صاحب الدار من الداخل و من الذي خرج من الدار؟ فقالت صاحبة الدار ابني عمر أراد شراء شيء من السوق. فهرع نوري السعيد مسرعا الى الخارج ولحقت به أم عبد الامير وخادمتها، مرددة بلهفة الى أين ياباشا ؟ فأجاب وهو يلهث. أين بيت العريبي أين؟ لم يكن أحد يعرف عنوان البيت. يبدو أن عمر بن هاشم وأخته قد طمعوا بالجائزة واخبروا الجهات المعنية بوجود نوري السعيد في البتاوين. وانتشر الخبر. طوقت الشرطة المنطقة. أرسل عبد الكريم قاسم على جناح السرعة وصفي طاهر المرافق السابق لنوري السعيد على رأس مفرزة من الشرطة حتى لايلتبس على الآخرين هوية الباشا. لمح نوري السعيد سيارة الشرطة، ينزل منها وصفي طاهر شخصيا للبحث عنه اتضح له بأنه جاء للقبض عليه. ألح نوري على النساء بتركه فهربت الخادمة وبقيت أم عبد الامير بجانبه على أمل أن وصفي طاهر ربما سيحمي الباشا فأخرج نوري السعيد مسدسه من جيبه وافرغ ما فيه بجسمه. ولما وصل وصفي طاهر الى مكان الحادث .كان نوري على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فصاحت أم عبد الامير مستنجدة بوصفي فقضى عليها وصفي وماتت في الحال شهيدة الوفاء. لما أحس وصفي بأن أنفاس نوري لم تتوقف تماما أخرج رشاشه ودك جسم نوري في رمقه الأخير. أما أولاد هاشم الذين اخبروا السلطات تليفونيا بان نوري في منزلهم قبض كل واحد منهم خمسة ألاف دينار واختفوا عن الأنظار.
قلت ياسيدتي إن الأضداد في صراع مستمر. وفاء الصياد وخيانة أولاد هاشم. وفاء السيدة أم عبد الامير وخسة ونذالة وصفي طاهر الذي خدم نوري السعيد لأكثر من خمسة عشر عاما مرافقا وخادما مطيعا.
واستمرت أم عصام في سرد ما حصل.
بعد أن أجهز وصفي طاهر على نوري  ، أخذ الجثة الى وزارة الدفاع وأمر عبد الكريم قاسم بدفنه ولكن بعض  العناصر المأجورة نبشت القبر في اليوم التالي ، وأخذت تسحل الجثة في شوارع بغداد الى أن أوصلتها الى منطقة الوزيرية بجوار السفارة المصرية. ولما وصلت الجثة الى ساحة الميدان أراد قائد الشرطة أن تسحق الجثة قبل إشعالها فأمر سائق الدبابة بسحقها.. ولما تردد الرجل في التنفيذ هدده بالمسدس فرضخ للأمر وحرك الدبابة، ولكن عندما ضغطت العجلات على القسم الأسفل من الجثة انتصب القسم الأعلى فجأةً بشكل مرعب ففزع سائق الدبابة ووقع مغشيا عليه . وعلى اثر ذلك نقل الرجل الى المستشفى ثم الى مستشفى الأمراض العصبية وبقي هناك الى أن توفي. أما الجثة فقد  تم حرقها فيما بعد، وعندما تفتت وخمدت النار جمع أحد المارة ما تبقى من الأشلاء في كيس وحملها الى الكاظمية حيث دفنها الى جانب مقبرة السيد حسين يونس.
سالتها ياسيدتي من نقل اليك هذه المعلومات. قالت عبد الهادي الجلبي.
وهكذا انطوت صفحة من تاريخ العراق. ودخل العراق في نفق مظلم وشعبه اكتظ في قطار جسدا فوق جسد. فقد الربان دفة القيادة. والأدهى من ذلك، أن الربابنة قد أغمضوا أعينهم، وصبوا الرصاص في أذانهم. بات الدم يفجر انهارا من الدماء. غريب أمر العراق. رمح الله في الأرض. أودع الله سبحانه فيه خزائن علمه . جمجمة العرب بدون منازع. يسبح في بحر من ذهب. ولكن كل من يغادر حدوده، حتى وان كان في طائرة، يطلق زفيرا ويستنشق الهواء بملء رئتيه وكأن كابوسا ثقيلا قد أزيح عن صدره.وحال وصوله الى بلد من بلدان العالم يتذكر الدولمة والكليجة واليابسة والباجة ويحن حنين الطفل لمرضعته. لقد أودع الله في هذا البلد مغناطيس الحب وعدم الرضا والقناعة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

860 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع