تاريخ سود أميركا في شهر

                                            

                         د. منار الشوربجي

في هذا الشهر، يحتفل الأميركيون بتاريخ "السود" في أميركا، وهو احتفال يتأمل فيه الأميركيون ذلك التاريخ وأحداثه الجسام ودروسها، ويتوقفون أمام الشخصيات الأميركية السوداء المنسية. فقليلة هي الشخصيات الأميركية السوداء، التي يتذكرها الأميركيون والعالم معهم.

والحقيقة أن تاريخ السود في أميركا هو تاريخ أميركا نفسها، حيث بدأ مع بداية التجربة الأميركية. وتعبير "السود" الذي تستخدمه كاتبة السطور، هو بالمناسبة واحد من تعبيرين اثنين مقبولين لدى أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية. أما التعبير الثاني فهو الأميركيون من أصل إفريقي. والحقيقة أنني أفضل تعبير "السود" لأنه الأكثر دقة، لأن الكثيرين من أصحاب البشرة السوداء في أميركا ليسوا من أصول إفريقية، وإنما من أصول كاريبية وغيرها.

وتاريخ السود في أميركا بدأ مع وصول 20 إفريقيا عام 1619 إلى أميركا للعمل بأجر هناك، فولد أبناؤهم أحرارا. لكن مع حلول عام 1660، كانت المستعمرات البريطانية قد أصدرت قوانينها باعتبار كل من تم استجلابهم من إفريقيا فيما بعد عبيدا. وقد ظل السود يعانون محنة حتى نهاية الحرب الأهلية، التي بدأت بعدها مرحلة جديدة في أميركا أطلق عليها مرحلة "إعادة البناء".

وفي بداية تلك المرحلة، كان السود مفعمين بالأمل، حيث كانوا قد تحرروا لتوهم من العبودية، وبدأوا بالفعل يمارسون حقوقهم الإنسانية والاجتماعية، بل والسياسية مثل تولي المناصب المنتخبة والتصويت في الانتخابات العامة. لكن سرعان ما بدأت ولايات الجنوب الأميركي تحديدا في اختراع حيل فرغت حقوق السود السياسية من محتواها، وفرضت الفصل العنصري فرضا، وهو الفصل الذي أيدته المحكمة العليا، من خلال سلسلة من الأحكام المتتالية، وكرسه الكونغرس من خلال مجموعة من القوانين، فبدأت مرحلة الكفاح ضد العنصرية والقهر، وكان لتلك الفترة رموزها وأبطالها الذين لا يتذكرهم الأميركيون كثيرا.

وكان من بين هؤلاء زعيم أسود يدعى بووكر تي واشنطن، الذي كان من أنصار التكيف مع الأوضاع السائدة. فبعد أن تحرر من العبودية وعمل في مناجم الفحم، ذهب واشنطن إلى المدرسة الابتدائية، وواصل عمله إلى أن تولى رئاسة إحدى مدارس السود.

وكان منهج واشنطن في التعامل مع نظرية البيض عن "دونية السود وتفوق البيض"، هو التكيف معها إلى أن يقتنع البيض بأن السود يستحقون المساواة، ودعا السود لتجنب تهديد مقدرات البيض، واللجوء بدلا من ذلك للطريق الاقتصادي للوصول لأهدافهم، عبر التركيز على الوظائف اليدوية حتى يحتاجهم المجتمع الأبيض، ومع الوقت وإتقانهم لعملهم سيعترف البيض بأحقية السود في المساواة. وقد أدى منهج بووكر واشنطن إلى محبة البيض له، حتى أنه صار مستشارا للرئيس تيودور روزفلت، الذي حكم أميركا في العقد الأول من القرن العشرين.

لكن تزامن مع بووكر واشنطن في حياته، وإن عاش لفترة أطول، زعيم آخر يدعى وليام دو بويس، كان أول أميركي أسود يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد. وكانت رؤية دو بويس لمحنة السود تختلف تماما عن رؤية واشنطن، ليس فقط في الاعتماد على العمل اليدوي، وإنما في ما يتعلق بقبول أسطورة "التفوق الأبيض". فعلى عكس واشنطن، كان دو بويس يرفض فكرة التفوق الأبيض ودونية السود.

بل وكان يعتقد أيضا أن في الجماعة السوداء مثل أي جماعة، هناك حوالي "واحد على عشرة من الموهوبين"، وكان يؤمن بأن هذا "العشر الموهوب" قادر على انتشال التسعة أعشار الأخرى.

ولعل الإنجاز الأهم الذي حققه دو بويس ولا تزال له بصمته حتى الآن، هو أنه استطاع في عام 1905 أن يعقد قرب شلالات نياغرا ما عرف وقتها باسم "حركة نياغرا"، وهي الحركة التي حولت نفسها في عام 1909 إلى "الاتحاد العام للنهوض بالشعوب الملونة"، وهي واحدة من أكبر وأقدم منظمات السود وأكثرها احتراما حتى كتابة هذه السطور.

وقد تبنت هذه المنظمة منذ عهد دو بويس وطوال مرحلة كفاح حركة الحقوق المدنية، المسار القانوني للقضاء على الفصل العنصري، عبر منهج تدريجي تراكمي حققت من خلاله نجاحات كبرى.

ثم جاءت عشرينات القرن العشرين لتحمل روحا مختلفة لحركة مختلفة دعت "للعودة"! وكان زعيم تلك الحركة يدعى ماركوس جارفي. والحقيقة أن تلك لم تكن أول دعوة بعد نهاية العبودية، لعودة المحررين من العبودية إلى إفريقيا. فالكثيرون من البيض كانوا مع إلغاء العبودية، ولكن هذا لم يكن معناه عندهم القبول بالمساواة مع السود.

ويقال إن الزعيمين توماس جيفرسون وجيمس ماديسون، كانا من بين من شجعا الفكرة. أما ماركوس جارفي، الأسود، فقد ولد في جامايكا من أب كان في ذلك الوقت عبدا استجلب من إفريقيا. ورغم أن فكرة "العودة لإفريقيا" كان لها أتباعها، إلا أنها لم تجد لها شعبية في أميركا.

كل تلك الرموز نادرا ما يذكرها أحد خارج الجماعة السوداء في أميركا، بل لعل من الأمور الجديرة بالتأمل أن فكرة العصيان المدني السلمي التي قامت عليها حركة الحقوق المدنية، لم تطرح لأول مرة في نهاية الخمسينات حين تبناها مارتن لوثر كنغ ورفاقه. فقد كان أول من طرحها هو الزعيم العمالي العظيم فيليب راندولف، الذي قاد أول مسيرة سلمية إلى واشنطن في عام 1941، أجبرت الرئيس فرانكلين روزفلت على إصدار قرار بمنع التمييز في مجال الصناعة العسكرية، ثم مسيرة مماثلة أجبرت ترومان في 1948 على وقف الفصل العنصري داخل الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية.

ذلك بعض من الأحداث المهمة التي يحفل بها تاريخ السود، وأولئك بعض من الشخصيات المهمة التي يعج بها تاريخ الجماعة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية. فهو تاريخ بالغ الثراء والتعددية، يذهب إلى ما هو أبعد من مارتن لوثر كنغ رغم عظمته وقيمته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

893 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع