أحمد أبو سبع صنايع

                                            


                             علي السوداني

متأخراً عرفتُ اسمه.رجلٌ من أهل مصر بدا قائماً عند نهاية الثلاثينات .

هو أحمد لكنني أداعبه وأواسيه وأُسمّيه حمادة ، وحيث يصعد في روحي بخار السعد والمزاج الرائق ، أزيده دلعاً فوق دلعٍ ، حتى صرتُ مناديه بالمعلم حمادة . حمادة حطّ مثل طيرٍ غريبٍ فوق حارتنا منذ نحو أربع سنوات . في البدء لم يكن متخصصاً بعمل ما ، لكنه كان معاوناً حاضراً لملّاك الدكاكين الكثيرة التي تسوّر شارعنا الطويل . للشارع اسمٌ تأريخيّ مجيد ، لكنّ الناس مستأنسة بتسميته الشعبية ، شارع خطّ تسعة ، ناسبةً إياه إلى سطر طويل من سيارات السرفيس البيض التي تدوس اسفلته ذهاباً ، وتنزل صوب الشارع التحتانيّ في رحلة الإياب . لم تكن الليرات التي تنام بجيب أحمد أخير النهار كثيرة ، لذا انتقل بسرعة صوب حرفة جديدة ، لا تستدعي رأس مالٍ مهم ، بل لياقة بدنية جيدة ، وسطلة ماء وكمشة ممسحات ، وزجاجة شامبو من الصنف الرخيص ، وهمّة عالية تجعله يغسل أكبر عدد متاح من سيارات الساكنين على جانبي الشارع . واصل حمادة كدّهُ وكدحهُ الحلال ، حتى جاءه حظّه الطيب ، بمالك بناية جديدة انزرعتْ بخاصرة الحارة ، وعرض عليه وظيفة حارس ، فوافق الولد فوراً . سكنَ حمادة غرفة نظيفة أسفل العمارة ، بمواجهة مصفّ السيارات ، وصارت علامات العافية تنرسم فوق وجهه الباسم . كان الولد في سباق خفيّ مع الأيام ، ولم تأخذه الحراسة من الفعاليات المدرّة التي كان يمارسها على طول الشارع ، فهو حارس الليل ، وغاسل السيارات ، وجالب مسواق العائلات ، وأعمال صغيرة أخرى تقع في باب المصادفة ، من مثل صبغ غرفة مرطوبة ، أو تشذيب حديقة صغيرة ، وقد رأيته مرة مساهماً قوياً ، وباكياً متحمّساً ، ليلةَ رفع تابوت الحاجة أم فهمي من الأرض ، ودحسهِ ببطن سيارة الموتى . منذ عام يكاد يبيد ، طفر حمادة الفرعونيّ طفرة تأريخية مدهشة ، وقام باستئجار دكان صغير مساحته بقدْر زنزانة رجلٍ خطير ، ورصع جبهة الدكان بجملة قهوة ودخان . كنتُ سعيداً جداً بمنظر أحمد الراسخ بباب دكان القهوة ، وحيث أخرج بعض رأسي من باب الدار ، يقوم حمادة بصنع تلويحة رحيمة ، فأطير صوبه طائعاً مرتاحاً ، وعند عتبة الدكان يكون الفتى قد حطّ دلّة القهوة ، فوق شعلة نارٍ زرقاء صافية ، وزاد عامداً متعمداً ، صوت المسجل الصادح أبداً ، بواحدة من نعمات أُم كلثوم البديعة على الناس . كانت بعبّ أحمد رغبة قوية لتنويمي في دفتر الزبون المؤبّد ، وكانت بي نفس الرغبة لأتجارر معه حديث مصر البهية ، أُم طرحة وجلّابية ، والغيط والترعة والعمدة والشيشة وعبد الحليم وشادية ووالله يا زمن وعلى بلد المحبوب ودّيني ، زاد وجدي والبعد كاويني . حدثته كثيراً عن بغداد وسنوات سعد المصريين في أكنافها وأطيانها ، ومحلة المربعة بشارع الرشيد ، التي صارت حارة مصرية صرف ، بصياح المعلم والمعلمة ، وطقطقة صحون الفول والحمص والطعمية والجرجير ، الذي مازال حمادة مؤمناً ومعتقداً بحتمية زرعه تحت السرير . صرتُ مدمناً عليه ودكانه الزنزانة وقهوته الطيبة ، وطريقته المفرحة في نفخ دخان سيكارته ، ليصنع في ما تيسر من فراغ الدكان ، دائرة مغلقة ، أو أفعى تتفعّى . ألبارحة فقط ، علمت من حمادة أنه في طور لملمة دنانير السنوات ، والعودة إلى مصر . حاولتُ ثنيه بما أوتيت من حيل القصِّ واللغة ففشلت . قال أنّ له حبيبة تنطر ، وأمّاً تكاد تهجر

الدنيا ، وأخوة وأخوات نصف خبزهم برقبته . سألته عن الكائن الذي سيحلّ محلهُ ، ولو في دكان القهوة ، فابتسم مثل طبيب يواسي مريضه اليائس ، وقال إن ابن عمّي سيّد هو من سيعرّش من بعدي على كرسي القهوة . تبادلتُ معه رقم هاتفي والعنوان ووعد زيارته بمصر الحبيبة . على عتبة باب الدار ، كان بوسعي أن انصت إلى صوت السيدة ، وهي تسيّل من حنجرتها التحفة :

يامسافر على بحر النيلْ

أنا ليَّ فى مصر خليلْ

من حبُّه مابنام الليلْ

على بلد المحبوب ودّيني ...

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عمّان حتى الآن

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

928 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع