مذكرات الاستاذ امين المميز- الحلقة الثامنة‏

                                               

                                د.رعد العنبكي

  

جولة نطوف بها بعض اسواق الدنكجية وباب الاغا لادلة على معالمها التراثية التي كانت قائمة في اوائل العشرينات من القرن الماضي والتي اندرس معظمها
في الوقت الحاضر..

         

سنبدا جولتنا من الموله خانه وهو السوق المركزي لمحلة الدنكجية وفيها الكثير من المعالم ذات التراث البغدادي الاصيل...

فألى يمين الداخل الى سوق الموله خانه يقع دكان (حسون ابو الجبن)المختص ببيع اجود انواع الجبن الكردي والجبن الاوشاري والجبن المثوم وكذلك العسل والشهدة وما شاكلهما..
ان حسونا هذا شاب نابه قدم من عانه صغير السن وعمل في الموله خانه بائعا للجبن سنين طويلة وكان من الرعيل الاول من الذين تكلموا بالاشتراكية ولذلك سمي دكانه (حانوت الاشتراك)..

وقد انضم الى جماعةالاهالي في الثلاثينات  كنت اقضي ساعات طويلة في دكان حسون نتناقش ونتجادل حول المعتقدات السياسية الحديثة وكان اسلوب حسون في الجدل والمناقشة مقنعا وممتعا جدا
واذا كان حسون ابو الجبن قد اشتهر في الموله خانه باشتراكيته فان( الاعضب) المجاور له قد عرف (بمغلوانيته) فكنا نعزف عن التسوق من دكانه لسببين : اولهما جفاء معاملته وثانيهما ارتفاع اسعاره بالنسبه للاخرين ان ( الاعضب ) لا يختص ببيع مادة واحدة وانما يبيع مختلف انواع الماكولات كجبن العرب ( الحلو ) وجبن ( الديلمة ) وجبن السواجن واللبن المنشف والعسل المصفى والعسل الخام ( الشهدة ) وتمر الخصاف والاشرسي
وما الى ذلك....

  

تجلس الى جانب دكان الاعضب فطومة المعيدية ام الكيمر والمعروفة بكيمرها النظيف فهي لاتلمس الكيمر باصابعها ولا تستعمل السكين لتقطيع ( شيف الكيمر ) وانما تستعمل ( ابرة ) اللحاف الطويلة لهذا الغرض اذ ان الابرة لاتنقل الجراثيم مثل الاصابع ولا تنقل الزنجار مثل السكين...

  

                      


مقابل دكان ( الاعضب ) دكان الباجه جي وهو ( فويلي ) من محلة الصدرية معروف بطول القامه وبشواربه الطويلة والغليظة ان هذا الدكان كان من معالم الموله خانه المشهورة  ففي ساعات الصباح الباكر تباع فيه الهريسة وهي الاكلة المحببة للبغداديين ابان فصل الشتاء وتكاد تنقرض الان وتؤكل الهريسة عادة في صحن من الفخار يشبه الصحن الذي يستعمل في سورية ولبنان للحمص بطحينة والفول..
ومن متممات الهريسة دهن الحر والشكر والدارسين ( القرفة ) ...

               

وبعد ان يفرغ الباجه جي من خدمة زبائنه صباحا يستعد لخدمتهم ظهرا بتقديم الباجه وهي الاكلة الشعبية الاخرى التي تكاد تنقرض والبغداديون يفضلون باجة الموله خانه على باجة ( ابن طوبان ) في الكرخ والتي تكثر فيها عادة ( الكروش ) وعلى باجة الحاتي في الشيخ عمر والى جانب دكان الباجه جي الذي ما زال قائما وهو اليوم دكان لبيع الحقائب ( الجنط ) ...

      

يقع دكان ( الكببجي ) وكباب الموله خانه اشتهر في بغداد قبل ان يشتهر كباب الصابونجية وكباب الفلوجة وكباب اربيل وكباب السليمانية وكباب الكاظم وكباب سوق الغزل وهذا الدكان من ابرز معالم الموله خانه وهو ودكان الباجه جي كل ما تبقى منها بعد استملاك الدكاكين الاخرى لمشروع نفق سوكك السراي وتوسيع واجهة جامع الاصفية ودار القران والمستنصرية وهو الان دكان لبيع المرطبات..
يحد محلة _ الدنكجية _ غربا محلة جديد حسن باشا ويفصلها شارع الاكمكخانة ( المتنبي حاليا ) وشمالا محلات العاقولية وامام طه والدشتي ويفصل الدنكجية عن شارع باب الاغا الشارع الجديد (خليل باشا جاده سي ) ( شارع الرشيد حاليا ) وشرقا محلة راس القرية ويفصلها طريق المصبغة او طريق القيصرية (شارع السموال سابقا شارع اسامة بن زيد حاليا ) وجنوبا دجلة العظمى  وقبل المضي في السرد اود ان اقف قليلا على شاطئ هذا النهر العزيز على قلوب البغداديين والعراقيين جميعا
ان كافة الحجج والاعلامات الشرعية وسجلات الطابو التي اطلعت عليها تصف نهر دجلة ( بدجلة العظمى ) ولكن بعد الاحتلال البريطاني سلخت ( العظمى ) عن دجلة وبقيت لبريطانية وحدها وياليتنا اعدنا لهذا النهر الحبيب صفة ( العظمى ) التي يستحقها عن جدارة والتي لازمنته طيلة عدة قرون ولو ان هذه
الصفة ليست قديمة قدم العهد العباسي غير اني لا اجد ضيرا من ذكرها مشفوعة بدجلة كلما ورد اسمها في الاطالس والخرائط والسجلات والوثائق الرسمية اعترافا منا بعظمة هذا النهر الخالد

الدنكجية
ان تسمية محلة الدنكجية بهذا الاسم يرجع كما كنت اسمع من ( الشياب والعجائز ) الى وجود جهاز يعرف بالدنكك في عقد الصخر( قريب من سوق الصفافير حاليا) ويستعمل لتهبيش التمن وهو عبارة عن صخرة كبيرة مشدودة الى ذراع طويل من الخشب يشبه العتلة فيرفع الصخرة عدد من العمال ثم يهوون بها على التمن فتهبشه(اي تفصل السحالة عن حبات التمن الصحيحة ) وكان اصحاب العلاوي يقصدونه لتهبيش التمن بكميات كبيرة اذ كان التمن يهبش يومئذ في البيوت بواسطة الجاون والميجنة لقد كان لهذا الدنكك دوي شديد يصل صداه الى الدور المجاورة ولمسافات بعيدة فينغص على ساكنيها راحتهم ويقض مضاجعهم وخاصة في اوقات الفجر وساعات الصباح الباكر
وكانت المرحومة جدتي ( هاجر ) تقول انها بعد انتقالها من بيت والديها في محلة الصدرية الى بيت الزوجية في الدنكجية في السبعينات من القرن (قبل الماضي) لم تستطع النوم في ( الغبشة) لعدة اشهر بسبب دوي هذا الدنكك
لم يبقى للدنكجية من اثر هذا اليوم فقد اختفى اسمها ومعظم ابنيتها ومعالمها ولم يبق منها سوى ثلاث نخلات كانت قائمة في حديقة جامع عادلة خاتون الصغير الذي درست فيه ايام طفولتي وتشاهد الان امام العمارة التي تشيد في شارع المامون مقابل المتحف البغدادي وقد اهبت بامين العاصمة السيد سمير عبد الوهاب برسالة مؤرخة في ( 10-5-1980) بالابقاء عليها ان لم يكن في ابقائها محذور فني  فاصدر الامر بتاريخ (12-5-1980)
(بعدم رفع النخلات الجميلات) فجزاه الله خير الجزاء
اما ام الدنكجية وهي محلة باب الاغا فقد دانت اخبارها افاق بغداد وصارت مضرب الامثال ومصدر القصص والاقوال...

فما هي باب الاغا ومن هو الاغا الذي سميت الباب باسمه؟
المعروف ان لبغداد اربعة ابواب كانت مشيدة على السور المحيط بها هي باب السلطان( باب المعظم) وباب الظفرية ( باب الوسطاني ) وباب الحلبة ( باب الطلسم ) وباب كلواذي ( الباب الشرقي حاليا ) ويذكر تاريخ بغداد في العهود المظلمة ان بابا خامسة كانت مقامة على مدخل الجسر تعرف ( باب الشط ).. ( صوقابي ) لا اثر لها الا على الخرائط القديمة فاين تقع ( باب الاغا ) ولماذا شيدها الاغا ؟ علم ذلك عند الله وعند الاغا...
يروى ان احد الاغوات الانكشارية العثمانيين يدعى الحاج احمد اغا حكم بغداد في العهود المظلمة حكما (قرقوشيا) اي كيفيا واستبداديا فكان الحاكم بامره يسجن من يشاء ويعفو عمن يشاء يغضب على من يشاء ويصفح عمن يشاء ولا اعتراض على حكمه وربما كان هو الاغا الذي سميت الباب باسمه
ومن القصص التي يتبادلها البغداديون عن اسلوب ذلك الاغا  القصة التي نهايتها تقول ( روح فهم الاغا) وذهب مثلا على الحكم الاستبدادي التعسفي القره قوشي ( حكم  الكوتره )

                  

تشتهر باب الاغا بالجمع بين المحاسن والاضداد وبين الجيد والردئ فان خبز باب الاغا مضرب الامثال في الجودة والرخص والافضلية على غيره من الخبز فيقال ( خبز باب الاغا حار ومكسب ورخيص ) وان فواكه باب الاغا هي خير الفواكه التي تعرض في اسواق بغداد فيقال : اشتري الفواكه من ولد كنو في باب الاغا، وان ( شغل باب الاغا) هو مضرب الامثال في الرداءة وعدم الدقة وان اصحاب الحرف في باب الاغا من النجارين والجراخين والحدادين والتنكجية وامثالهم هم مضرب الامثال في الاهمال والمماطلة وسوء المعاملة وعدم الدقة في العمل
وبهذا اكتفي على امل اللقاء بكم في الحلقة القادمة انشاء الله لنتعرف على اصحاب المحلات ومعرفة اين نجد حاجاتنا المنزلية لشرائها ولكم مني اطيب المنى
اخوكم المخلص
الدكتور
رعد العنبكي

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

882 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع