حين يطبخ الخوف

د.سعد العبيدي

حين يطبخ الخوف

في العاشر من عاشور، يخرج سلمان من محلتِه كمن يغامر في رحلةٍ مقدّسة تأخرت قليلا، يحمل قدرًا وكأنه درعٌ صدئ من أيامٍ لم يعد يتذكرها إلا عندما يضيق النفس. الشمس تتدلّى، والشارع يتكلم لغة الخمول بعد انفضاض مواكب الطبخ، فلم تبق سوى رائحة القيمة التي تهزأ بالمتأخرين.
يمشي سلمان في أزقة المحلة يسأل : ألم يبق لديكم ملأ قدر من القيمّة؟
وتأتي الإجابات كسياطٍ من الواقع: خلصت… خلصت… خلصت… أوصلته إلى آخر بيت، أشار صاحبه الى المحلة المجاورة، وبيت في أولها، أنيق كما لو أنه يخفي ثروةً في باطنه، أو خزائن من القدور المملوءة بالثواب. بيتٌ يشبه قلعةً صغيرة، بوابتها مغلقة كفمٍ يعرف قيمة الصمت.
يطرق سلمان الباب، فيفتح رجل يحمل ملامح مألوفة، لكنها باهتة مثل صورة قديمة نجت من الحرب بشق الأنفاس. يحييه ويقول بارتباكٍ خفيف:
ألم تكن سركيس أبو جون؟
يتردد الرجل لحظة: نعم… لكني بصراحة لم أعرفك.
يرتفع في صدر سلمان غبارُ السنين، فيهتف:
ألم تتذكر يوم كنا جنودًا في السرية الثالثة، الفوج الثالث، اللواء الخامس عشر، أيام حرب إيران؟
تومض الشرارة، فيتبادلان الضحك، ضحكًا أقرب إلى الارتجاج، كأن الذاكرة نفسها تضحك عليهما: كل تلك الحكايات القذرة، عن الخنادق والخوف والقتال والهرب… لا تستحق أن تُروى، لكنها تخرج لأن الماضي لا يعرف اللياقة الاجتماعية.
وبعد أن تهدأ فوضى الذكريات، يقول سلمان مازحًا:
لقد فرحت لما رأيتك تطبخ اليوم. قلت في نفسي: أخيرًا كسبنا مسيحي الى صفوف طقوسنا في عاشوراء.
يسكت سركيس، يلتفت يمينًا ويسارًا كأن الجدران لديها أذنين، ثم يفتح الباب أكثر ويقول:
ادخل… واغلق الباب من خلفك.
يدخل سلمان، وتتبدد ضحكة الحرب لتحل محلها حكمةُ رجلٍ تعب من التعامل مع العالم والدين والسياسة كألعاب خاسرة. يقول بصوتٍ منخفض، لكنه حاد:
شوف… أنا الذي تراني أطبخ، وألطم، وأتبرع… ليس لأن لديّ عقيدة فائضة، ولا لأنّي أحب أكون مسلم أكثر من المسلمين. إني أعمل ما أعمله حتى أحافظ على بيتي وتجارتي. الدنيا في وطننا هذا ليست آمنة، والرغبة في الأذى صارت مثل سائل في الأواني المستطرقة، يخرج من الثغرة الأولى، ونحن بقايا الأقليات الراغبين في البقاء أوهن ثغرة.
يتنهد، ثم يكمل بمرارة رجلٍ عاش أكثر مما ينبغي:، سأقول لك كأخ تربطني به هموم الحرب:
نصف أتعابي راحت في ذاك الزمان، هدايا وتبرعات حتى أحافظ على روحي. ونصفها الآن تذهب بالطريقة ذاتها حتى أبعد أولاد الحرام عن بيتي وعائلتي وتجارتي، فلا تلمني على فعل أظنه يحميني. ثم يبتسم ابتسامةً عملية، ويقول:
هات القدر… أملأه لك كما أملأه لغيرك، لا طمعًا بثواب، ولا خوفًا من حساب، فقط لأن الدنيا علّمتني أن أوزّع لقمةً كي لا أخسر نفسي أو أحد من عائلتي.
يخرج سلمان بعد قليل، والقدر بين يديه ممتلئ حتى الحافة، يزداد ثقله كلما ابتعد عن البيت، كأن الطعام يحمل وزن اعترافٍ لم يعتد سماعه.
يمشي وحده في الطريق، يتساءل بصوتٍ داخلي:
ما الطعم الحقيقي لهذه القيمة التي تُطبخ بنار الخوف؟
وهل يتساوى سركيس وغيره عند أبواب الثواب، أم أن الطقوس تفقد معناها حين تصبح وسيلة بقاء؟
يستمر في المشي بقدرٍ يثقل ذراعه، وبأسئلةٍ تثقب روحه في شارع يعود إلى صمته المتواطئ، كمن يستعدّ لاستقبال قادمٍ آخر، يحمل قدَره طمعًا ببركةٍ لا يعرف لمن ستُسجَّل، فهنا الثواب يُقاس بالوجاهة، لا باليقين، وهنا تمنح البركة لمن يحسن اللعبة، لا لمن يحسن الإيمان.
.....

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1019 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع