
الدكتور رعد البيدر - الشارقة
سَلَامَةٌ يا وَطَن ... مَا هَزَّتَك رِيح
فِي عَامِ 1986، أَنشَدَ الفنان قَاسِم إِسمَاعِيل الَّذِي رَحَلَ إلى جوار ربه قبل أيام قلائل، أغنية "سلامة يا وطن ما هزَّتك ريح" فكانت نبضًا مُغَنًّى لإرادة الصمود في وجه التحديات الإقليمية، وقد حَمَلَتْ كلمات الأغنية ولحنها الصوت الوجداني الشعبي، ليُصبِح عهدًا بين الأرض وأبنائها على البقاء مهما كانت قسوة الظروف. لم تكن مرحلة انتشار الأغنية مجرّد فترة عابرة بل كانت تأسيسًا لقيمة الصمود بمعناه الوطني، تصف الأنشودة تلك الفترة: "على الصَعبات عُبروا، ومِثِل ما كبّرِت كُبروا ". ولم يكن أحد يعلم حينها أن تلك الكلمات ستخضع لاختبار تاريخي دموي، فما إن مرَّت سنوات قليلة حتى تحولت التحديات إلى كوارث كبرى مُتعاقِبَة، بدأت بحصار اقتصادي خانق ثم انتهت بفاجعة لا تُنسى هزَّت العراق من جذوره.
مُنذ نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة خَطَّطَ الغرب لمَجيء الاحتلال الأجنبي كالريح الهوجاء التي لم تكتفِ بهز الوطن، بل قوَّضَتْ البناء من جذوره، فكانت لحظة التفكيك الشامل لمفاصل الدولة ومؤسساتها، ومن رحم ذلك الانهيار وُلِدَت الفوضى التي امتدَّت كالسرطان الخبيث، فانتشر الفساد في كل زاوية، وبدأ نهب الثروات علنًا، وعادت البلاد إلى مربع الصفر في الجانبين التنموي والأمني. لم يكن التدمير ضربة عسكرية عابرة، بل كان عملية جرد وحرق للذاكرة الوطنية ومحاولة صريحة لاقتلاع النسيج الاجتماعي، ومن جراء تداعيات الاحتلال تولَّدَ ونَمَى الإرهاب والتطرف وانتعشت الطائفية والفساد.... وتشظي المكونات والطوائف؛ فتحول إلى آفة وجودية هددت بقاء الوطن. إن تعاقب هبوب رياح الحقد من اتجاهات متعددة على شكل ضربات متلاحقة، فَرَضَ على العراقيين مواجهة الحقيقة بمرارة قاسية.
الناظر بعمق إلى خريطة الأوجاع التي رسمها الاحتلال وما تلاه من فوضى عارمة وفساد مُتفشٍّ وإرهاب مُستمرٍّ، يكتشف أن الأثر كان أعمق بكثير من مجرد اهتزاز بسيط، فالوطن الذي تغنّت به الأنشودة لم يبقَ كما كان، بل خَسرَ جزءاً كبيراً من عافيته وهيبته. لقد أثبتت التجربة أن الريح عندما تكون ممزوجة بالخيانة الداخلية والتدخل الخارجي السافر، فإنها قادرة على اقتلاع الكثير من القيّم التي كانَ يُظَنُّ أنها ستبقى خالدة.
بالعودة إلى عنوان المقال، أن وصف المشهد العراقي الحالي لا يحتَمِل التجميل أو التلاعب بالألفاظ. سؤال الختام: هل اهتزَّ الوطن برياح ما بعد تاريخ الانشودة؟ جواب الختام: نَعَمْ، فعقود الظلم والألم الذي فَرَضَتْهُ ريح التغيير قد هزَّتِ العراقَ، هزَّة حقد وانتفاع وضياع هوية؛ وصارت الأنشودة القديمة، تُغَاير ولا تُساير حال وطن مذبوح، وشعب يأنُّ منذ سنين، لكنه عَنيد، ويأبى أن يموت.

975 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع