
د.سعد العبيدي
كَبْشُ فداء
الليل في القاطع الأوسط إبان حرب القادسية ليس عتمةً، بل أكفانًا معلّقة لرجالٍ لم يغمض لهم جفن. المقدّم الركن برهان خليل يقف أمام خارطةٍ مؤشرة بإمعان، ينحني عليها كمن يقرأ وصيّةً أخيرة، ثم يثبت إصبعه على الراقم ٩٩٤؛ تلك البقعة التي تُمسك بعنق الأرض وما حولها.
عند الفجر، وقبل أن تنفكّ الخيوط الأخيرة من الليل، يلتفت إلى جنوده ويقول بصوتٍ لا يرتجف: سنأخذه الليلة… وإلا فلن يقوم أحدٌ منّا غدًا.
وحين تحين الساعة المثبتة للشروع، يتقدم والرجال خلفه، يعاودون الهجوم في الظلام للمرة الثالثة، لكنهم هذه المرّة لا يعودون خائبين؛ فمع أول خيط ضوء، يعود الراقم إلى الخرائط العراقية…مبلّلًا بالدم، لا يحتاج إلى نشرة أخبار كي يُصدَّق. في الصباح، تهبط مروحيةٌ؛ ينزل منها وزير الدفاع مسرعًا، يربّت على كتف برهان، يقلّده رتبتين، فيصفّق الجنود، ويصبح اسمه مثالًا للشجاعة في نشرات الجيش المعنوية، وفي الحكايات التي يتداولها الجنود بين معركةٍ وأخرى. لكن هذه الحرب، وقياداتها، لا تحفظ الفضل لأصحابه؛ يرون الشجاعة قابلة للاستدعاء حسب المزاج، ويظنون أن الرجال قادرون على فعل المعجزات حتى لو خالفت مبادئ القتال. فما إن تسقط عارضة مهران بيد الإيرانيين، وتفشل محاولات استعادتها، حتى يتذكّروا برهان ولواءه الثامن والثلاثين، فيلحقوه بالفرقة الثانية ليفك اللغز العصِيّ على ألوية انتهت من قبله عند حافات أرضٍ وعرة، ودفاعات إيرانية قوية. لا يمهلوه وقتًا لالتقاط الأنفاس؛ فأمر الهجوم جاهز حال الوصول. يصطدم في المحاولة الأولى بجدارٍ محصّن، فيفقد نصف رجاله. يطلب تعويض الخسائر، وإسنادًا جويًّا قريبًا كأبسط مقومات الاستمرار، فيردّون بلامبالاةٍ: اهجم بالموجود، والطيران مقيّد لرداءة الجو. يكرّر الهجوم قبل الفجر، فيعود إلى الجدار ذاته، فاقدًا نصف ما تبقّى من الموجود. وتأتي الأوامر كذلك جافة: هجوم ثالث، حسب توجيهات القائد العام.
يرجو التأجيل ليومٍ واحد لضمان الإسناد الجوي، فيأتي الرد نفسه، وبلهجةٍ تحمل تهديدًا مبطّنًا.
وقبل الشروع بالمحاولة الرابعة، بقوةٍ تبقت من لوائه لا تتجاوز السرية، يصل الأمر الأخير: العودة إلى فرقته السابعة مغفورًا… تحت بند التخاذل.
وقف برهان أمام قائد فرقته، بوجهٍ أنهكه السهر ورائحة البارود. أدار أجهزة التسجيل، وعرض بصوتٍ هادئٍ كل ما حدث، وحين انتهى، قال كمن يسلّم نفسه لقضاءٍ محسوم: يريدون كبش فداء يعلّقون عليه الفشل.
تقدّم القائد نحوه، وضع يده على كتفه، ووعده إرسال ضابط إلى القيادة العامة على الفور، مع التسجيلات وكل التفاصيل، ووعد بأن الأمر سيتغيّر.
أومأ برهان بصمت، ثم رجى بصوتٍ خافت: أريد رؤية طفليّ… ساعة واحدة فقط.
كان كمن قرأ نهايته في وجه الحرب قبل أن تُكتب. جاء الطفلان في سيارةٍ عسكرية، لا يعرفان لماذا استدعيا، ولماذا احتضنهما الأب بتلك القسوة الحنونة. جلسوا في حديقة المقرّ. أخرج الأكبر كرةً مطاطية وراح يركض خلفها، بينما اقترب الآخر منه كمن يخشى الفقد. جلس بينهما، يضحك، ثم يميل على الأكبر ويقول بصوتٍ يحاول أن يكون أبويًّا لا عسكريًا: الوطن يا ولدي… هو الناس الذين تخاف أن يفقدوك.
يسأله الصغير بعفوية: هل تخاف؟
يشيح بوجهه كي لا يرى الطفل ارتعاشة عينيه، ويجيب: أخاف عليكم… لذلك أقاتل.
يخرج القائد من المبنى القريب، يتقدّم بخطواتٍ هادئة كمن لا يريد إفساد المشهد، ينحني على الطفلين، يقبلهما ثم يواصل حديثه مع برهان، مذكّرًا بشجاعته، وبأن ما حدث أزمة وستمر.
يبتسم برهان ابتسامةً قصيرة، يعرف أن المديح يأتي بعد فوات الأوان.
تقترب الشمس من المغيب، حين يدخل ضابط الركن الأقدم، يحمل ظرفًا أصفر مختومًا. يسلّمه دون كلام.
يفتحه القائد، يقرأ بصمت: ينفّذ حكم الإعدام بالساعة السادسة صباحًا. يتغيّر وجهه، كأنه يبتلع مرارةً لا يريد لأحد أن يراها. يعيد الورقة إلى الظرف، ثم يعود إلى مكتبه بخطواتٍ بطيئة، لا يعرف كيف يمضي نحو تنفيذ حكمٍ يدرك صدوره تغطيةً لعارٍ أكبر.
يطرق ضابط الانضباط الباب بخفّةٍ متردّدة، يدخل غرفة النوم الضيّقة، يرفع يده بالتحية ثم يهمس بصوتٍ مكسور: سيدي المقدّم… لقد صدر الحكم، وأُبلغنا بتنفيذه عند السادسة.
يهزّ برهان رأسه كمن كان ينتظر النتيجة المحتومة، يجلس على حافة السرير لحظة، ثم ينهض بلا أسئلة.
يتوضّأ، يصلّي ركعتين قصيرتين، يخرج بدلته العسكرية، يلبسها بعنايةٍ مدهشة، يتلمّس كتفيه حيث كانت الرتبتان الإضافيتان يوم هبط الوزير بالمروحية، ويبتسم بسخريةٍ حزينة: رتبتان تصعدان بالمروحية… وطلقةٌ واحدة تعيدك تحت التراب.
عند الخامسة والنصف، يمشي في ممرّ المقرّ محاطًا بعددٍ من الضباط، بعضهم خدم تحت إمرته؛ يعرفون شجاعته. لا أحد يتجرأ على النظر في عينيه طويلًا، فكلُّ منهم يرى فيها السؤال الذي يخشاه: من التالي؟
في ساحة العرضات، يتجمّع أفراد الحظيرة المكلّفة، يحملون توجيهًا خاصًا من القائد، أن تكون الطلقة الأولى في القلب كي لا يتعذّب، وتجنّب الرأس كي يحتفظ بهيبته.
يقفون في صفٍّ مضطرب، يتقدّم أحد الجنود بعِصابةٍ سوداء وحبلٍ لتقييد اليدين، فيرفع يده رافضًا، يقول بهدوءٍ قاطع: لا تعصبوا عينيّ… لن أختبئ عن رصاص بلادي. ثم يضيف وهو ينظر في وجوههم واحدًا واحدًا: لم أدر ظهري للعدوّ، ولن أديرها لكم. والخوف ليست هي التهمة التي أُعدم بها.
تهتزّ شفرة الصمت في الساحة؛ ضابط يطأطئ رأسه كي لا يُرى الدمع في عينيه، وآخر يعضّ على شفتيه حتى يكتم شتيمةً حبيسةً للقيادة التي طلبت "مثالًا" يُعلّق على مشجب الفشل.وعند الشاخص يقف برهان منتصبًا، يطلق أنفاسه الأخيرة في صدر البلاد التي أحبّها، بينما يصرخ آمر الحظيرة بالأمر الأخير، يتردّد الصدى بين التلال، يسقط جسده إلى الأمام بهدوءٍ غريب، فيما يسقط شيءٌ أثقل في صدور الواقفين؛ يعرفون جميعًا أن الرصاص لم يصب برهان وحده، بل أصاب ما تبقّى لهم من وهمِ عدالةٍ في حربٍ باتت تبحث عن كبشِ فداء.
....
842 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع