هيمنة الطقس حين يصبح الوطن مذهبًا: قراءة في مشروع الهيمنة الطائفية

قلم باندان

هيمنة الطقس حين يصبح الوطن مذهبًا: قراءة في مشروع الهيمنة الطائفية

يقينا انه لم تعد الهيمنة على الشعب في عالمنا المعاصر تُمارَس بالسطوة المباشرة ولا بصوط السلطة المساد؛ بل باتت تُنسج عبر المساحات التي لا تخضع للمساءلة: في العاطفة، وفي الرمز، وفي قداسة الشعائر والمشاعر. ولأن السيطرة العلنية أصبحت مكلفة ومفضوحة، فقد لجأ دهاقنة النفوذ المذهبي إلى صياغة مشروعهم بملمسٍ روحيّ وطابعٍ وجدانيّ، يختبئ خلف لغة “التبشير” و“الدعوة” و“التوجيه”، ويتقدّم بخطى هادئة عبر استثمار المناسبات الدينية وتوظيف القداسة نفسها لتعميم خطابٍ خاص وتحويله إلى إطار عامّ ملزم.

إنّ أخطر ما في هذا المسار أنّه لا يعتمد على القوة، بل على التطويع الوجداني. فكل موسم ديني يتحوّل إلى منصة للتعبئة الناعمة، وكل شعيرة تُستعاد تُصبح طريقًا لترسيخ ولاء غير مُعلن، وكل رمز مقدّس يُستحضر ببلاغةٍ مقصودة ليغدو جسرًا بين الإيمان وبين سردية سياسية تسعى إلى إعادة تشكيل الوعي العام. وهكذا تُصبح المناسبة الدينية—التي كانت شأنًا تعبديًا خاصًا—أداة لإعادة ترتيب المجال الاجتماعي على مقاس جماعة واحدة.
وتقوم هذه المنظومة على تحويل المشاعر إلى وسيلة ضبط، والرموز إلى أدوات محو للهويات المتجاورة، بحيث يبدو الانصهار في السردية المذهبية “عملاً من أعمال التقوى”، بينما يُقدَّم الاختلاف باعتباره جفاءً للمقدّس أو خروجًا عن الإجماع. ومع الزمن، يتلاشى التمييز بين التعبّد والاصطفاف، وبين الإحياء الروحي والإذعان السياسي، فيُسلَّم المجتمع—من حيث لا يدري—بأنّ ما هو خاص قد صار عامًا، وما هو طقسي صار وطنيًا، وما هو مذهبي صار هوية جامعة.
وتتجلّى هذه الهيمنة الناعمة بأوضح صورها في ظاهرة العطل الرسمية التي تحوّلت إلى مؤشر على اتساع نفوذ المذهب وإرادته في فرض طقوسه على الجميع. فالمناسبات التي تخصّ جماعة محددة من المجتمع، وتتسم بطابعٍ حزنيّ صارم أو بطقسٍ روحيّ مخصوص، أصبحت تُعلَن عطلًا عامة تُعطّل فيها الدولة كلّها—بمؤسساتها ومدارسها واقتصادها—وكأنّ البلد بأسره ينتمي إلى ذلك المذهب وحده، أو كأنّ تلك الشعائر هي الجامع الوطني الوحيد. إنّها لحظة يتحوّل فيها الطقس الخاص إلى تشريع عام، وتُختزل فيها الدولة إلى هوية واحدة لا ترى في تعدّد المجتمع إلا هامشًا يمكن تجاوزه.
وتُدعَّم هذه الممارسات بآليات “التوجيه” و“الاستنفار الروحي” التي ترافق المواسم الكبرى، حيث تُستثار العاطفة الجمعية بصورة منهجية، ويُعاد تذكير الناس—عبر الخطب والاحتفالات والمسيرات—بوجوب الانسجام مع هذا الخطاب، وبضرورة إظهار مشاعر الانتماء، وبأن الصمت أو الحياد علامة على برود الروح أو نقص الولاء. وهكذا تغدو الشعيرة—التي كان يُرجى منها الصفاء—أداةً لإحاطة الفرد بسياجٍ اجتماعي لا يسمح له بالمسافة ولا بالاختلاف.
وما إن يتكرّر هذا النمط موسمًا بعد موسم حتى تصبح الهيمنة الرمزية واقعًا مقبولًا، إذ تُرسَّخ العادات الطقسية كأنها “هوية وطنية”، وتُعاد صياغة التاريخ بحيث يبدو وكأن البلد منذ نشأته كان طائفياً في روحه، وكأنّ كل تعدّد فيه مجرد طارئ أو استثناء. وهذا—في جوهره—ليس مشروعًا دينيًا بقدر ما هو مشروع تمدد مذهبي يسعى إلى ابتلاع الفضاء السياسي والاجتماعي عبر أدوات ناعمة لا تُرى ولا تُواجه.
فالدول المتعدّدة لا تتصدّع حين تتعايش هوياتها، بل حين تُحاصر بهوية واحدة تُعلن نفسها “الأوسع والأحق”. وما إن تتحول المناسبات الخاصة إلى إلزامٍ عام، والمشاعر إلى معيار مواطنة، والشعائر إلى بوابة ولاء، حتى يفقد المجتمع حقَّه في أن يكون متعدّدًا، وتفقد الدولة قدرتها على أن تكون للجميع.
إنّ حماية المجال العام لا تعني محاربة الشعائر، بل منع توظيفها؛ ولا تعني انتقاص الهويات، بل صونها من أن تصبح أدوات ابتلاع وإخضاع. فالمقدّس حين يُستغلّ يفقد طهارته، والشعيرة حين تُفرض تفقد معناها، والمجتمع حين يُقاد بالمشاعر يفقد بوصلته.
والفكاك من هذه الهيمنة يبدأ عندما يُعلن بوضوح أنّ الدين أوسع من المذهب، والذاكرة أرحب من الطقس، والوطن أكبر من سردية واحدة… وأنّ للمناسبات حرمتها، وللمجتمع تنوعه، وللدولة حقّ أن تبقى فوق الجميع لا خادمةً لطقسٍ ولا ساردةً لروايةٍ وحيدة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1154 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع