هل الدين ضد التقدم؟ أم نحن ضد السؤال؟

قاسم محمد داود

هل الدين ضد التقدم؟ أم نحن ضد السؤال؟

يُثار كثيراً السؤال القديم المتجدد:هل يقف الدين والمعتقدات الدينية حائلاً دون تقدّم الشعوب؟
سؤال يبدو بسيطاً في ظاهره، لكنه في العمق يختبر علاقة الإنسان بعقله وبإيمانه في آنٍ واحد. الدين في جوهره… قوة لا عائق: الدين في أصله ليس عدواً للتقدم، بل كان دائماً منظومة قيمية وروحية تمنح الإنسان معنىً ومسؤولية. الدين ليس مجرد طقوس أو معتقدات غيبية، بل هو منظومة قيمية عميقة تمنح الإنسان معنى لوجوده، وتربطه بمصدر للحق والعدل والخير. إنه يوقظ في الإنسان حسّ المسؤولية تجاه ذاته والآخرين والعالم من حوله، فيجعل من السلوك الأخلاقي والتزام الواجب أفعالاً نابعة من الإيمان لا من الإكراه، ويحوّل الحياة من عبثٍ إلى غاية، ومن أنانيةٍ إلى رسالة.
في لحظات الازدهار الحضاري الكبرى، لم يكن الإيمان عائقاً أمام العقل، بل كان محرّكاً له. فالإيمان الذي يُلهم الإنسان السعي نحو العدالة والصدق والعلم، يلهم الدين الإنسان السعي نحو العدالة والصدق والعلم لأنه يربط هذه القيم بإرادة الخالق ومعنى الوجود. فالإيمان يجعل العدالة واجبًا لا مصلحة، والصدق فضيلة لا وسيلة، والعلم عبادة لا ترفًا. ومن خلال هذا الارتباط، يتحول السعي نحو الحقيقة والمعرفة إلى طريق للتقرب إلى الله وخدمة الإنسان، لا إلى مجرّد طموح دنيوي.
لا يمكن أن يكون ضد النهضة، بل هو وقودها الأخلاقي والمعنوي. لكن المشكلة تبدأ حين يتحول الدين من تجربة روحية إلى سلطة بشرية تحتكر التفسير وتُقصي المختلف حين يُختزل في مؤسسات تحتكر حقّ النطق باسمه، وتفرض تفسيرًا واحدًا للحقيقة. عندها يُستبدل جوهر الإيمان بالولاء للجماعة أو المذهب، وتُقمع حرية الضمير باسم "الحماية من الضلال". وهكذا يصبح الدين أداة للسيطرة لا وسيلة للتحرر، وتغيب روحه التي جاءت لتوقظ الإنسان لا لتقيّده. حينها يغدو النص ذريعة للجم التفكير، والإيمان مطيّة للهيمنة. فبدلاً من أن يكون الدين طريقاً إلى الحرية، يتحوّل إلى قيدٍ على السؤال.
بين الدين والتدين: من الخطأ الخلط بين الدين كقيمة إنسانية، والتدين كنمط اجتماعي قد يخضع للجهل أو التعصب أو السياسة. الدين هو المبادئ الإلهية الثابتة التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبالناس، أما التديّن فهو الطريقة التي يعيش بها الإنسان تلك المبادئ ويفهمها ويمارسها. فالدين واحد في جوهره، بينما التديّن متنوع بتنوع العقول والثقافات والتجارب، وقد يكون التديّن صادقًا يعبّر عن روح الدين، أو شكليًا يُفرّغ الدين من معناه.
التدين المنفتح يُنتج الإبداع والرحمة، بينما التدين المنغلق يُنتج الخوف والكراهية.
وحين يصبح التدين مقياساً للولاء لا للأخلاق، تبدأ المجتمعات بالتراجع نحو الانغلاق والتكرار.
أوروبا: من وصاية الكنيسة إلى نهضة العقل
في القرون الوسطى، كانت أوروبا أسيرة لسلطة الكنيسة الكاثوليكية التي احتكرت الحقيقة، وحاربت العلماء والمفكرين باسم الإيمان. لكن مع عصر التنوير، تمرد العقل الأوروبي على هذه الوصاية، فلم يرفض الدين ذاته، بل رفض أن يُستخدم الدين كأداة قمع للعقل.
قال فولتير: “اسحقوا العار” — وكان يعني الجهل والتعصب لا الإيمان.
وهكذا، تحرر الدين من سلطة الكهنوت، وتحرر العقل من الخوف، فبدأت النهضة العلمية، والثورة الصناعية، ثم ولدت قيم الحرية والعدالة الحديثة.
العالم الإسلامي: من إشراق العقل إلى غروب الاجتهاد
في العصر الذهبي الإسلامي، كانت بغداد وقرطبة وسمرقند منارات للعقل والعلم. ابن سينا، ابن الهيثم، الفارابي، والرازي جسّدوا التفاعل الخلّاق بين النص والعقل. كان الدين عندهم دعوة للتفكر، لا سيفاً على رقبة السؤال. لكن حين أغلق باب الاجتهاد، وتحوّل الفكر إلى تكرارٍ للنصوص دون مقاصدها، تراجع العقل أمام النقل، وساد الخوف من الجديد. فأظلمت المراكز التي كانت يوماً مشاعل للمعرفة.
شرق آسيا: توازن الروح والعقل
اليابان والصين وكوريا قدّمت نموذجاً مختلفاً. هناك لم يُطرح السؤال: “هل الدين ضد التقدم؟” بل: “كيف يجعلنا الإيمان أكثر انضباطاً وعطاءً؟”. فالبوذية والشنتوية ظلّتا روحاً للأمة، لكن القرار السياسي والعلمي بقي مستقلاً عن سلطة المعبد. فكانت النتيجة نهضة صناعية وأخلاقية مذهلة خلال عقود قليلة.
الخلاصة: ليس الدين هو المشكلة
حين نفصل بين المقدّس كقيمة والمؤسسة كسلطة، يتفتح طريق التقدم. وحين يُعاد الدين إلى مجاله الأخلاقي والروحي، يستعيد العقل حريته، والمجتمع توازنه.
- حين يفهم الدين كسلطة: يُقيد العقل والفكر، يبرر القمع، يُعيد أنتاج الجهل، تسعى الدولة للسيطرة.
- حين يفهم الدين كقيمة: يُحرر العقل والفكر، يبني العدالة والأخلاق، يُشجع العلم والنهضة في المجتمع، ويرفع قيمة الأنسان والدولة.
في الختام:
ليست الأديان هي التي أغلقت نوافذ العقل، بل الذين جعلوا من الإيمان قيداً لا بوابة.
فالعقل لا يهدد العقيدة، بل يطهّرها من الوهم، والمعرفة لا تقتل الإيمان، بل تمنحه لغة أعمق. حين يكون الدين نبعاً للأخلاق والمعنى، فإنه يحمل الشعوب نحو النور، وحين يتحول إلى أداة تخويف وتكفير، فإنه يجرّها إلى الظلام. التحدي إذن ليس في النصوص، بل في القرّاء؛ ليس في الإيمان، بل في من يحتكر تأويله. فالدين لا يقف ضد التقدم... نحن فقط نكفّ عن التقدم حين نخاف أن نسأل.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

721 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع