لا يفترقان

                                      

                              مثنى عبيدة

           

كثيرٌ هي الأشياء التي من حولنا نراها ملتصقة مع بعضها البعض أو تمشي بخط مستقيم متجاور مع الأخر وسبحان الله العظيم حينما خلق الحياة والموت والذكر والأنثى وكل ما على الأرض وفي السماء آيات ظاهرات على ثنائية مستمرة إلى ما شاء الله ثنائية فيها الفرح وفيها الحزن وما بينهما من مشاعر إنسانية كريمة بل وحتى عالم الحيوان فيه مشاعر متضاربة تتحول من السعادة إلى البكاء وكل ذلك حسب الظرف والمكان والزمان .

في أيامي الماضية عشت حالة من السعادة الكبيرة والألم الكبير وكل ذلك نعمة من الله تعالى ولنا في كتابه العزيز المثل والقدوة لما أصاب القوم الآخرين وحتى يرث الله الأرض وما عليها...

    

حيث أكرمني الله تعالى بولادة طفل جديد لعائلتي الصغيرة أنه همٌام ولدي الذي رزقت به في 26 / 9 / 203 م وأني أذا أحمد الله تعالى على كرمه وفضله ومنه علي وعلى أهلي وأحبتي بإدخاله الفرح والسرور على قلوبهم جميعاً فإني أحب ُ أن أسجل لحظات مهمة في حياتي وقد تجد ُ صداها لدى كل المغتربين عن وطنهم الحبيب الغالي وأهلهم الطيبين الكرام ( وفي الليلة الظلماءُ يفتقدُ البدر ُ ) .
 
خلال الشهور الماضية كان الوضع الصحي للطفل وأمه أكثر ما يقلق ُ الأطباء ويقلقني نتيجة للمشاكل الصحية التي رافقت فترة الحمل نظراً لإصابتي زوجتي بحالة الربو مما كان يتطلب دخولها المستشفى باستمرار والحقيقة كان لتلك الأيام وقعها على نفسي حيث كنت ُ أضطرُ إلى تركها في المستشفى وحيدة وهي تنظرُ إلى أطفالها ولدي الحارث وأخته نور وعيونها تودعهم وأنا أحملهم وأعود بهم إلى البيت لكي أقوم بإعداد طعامهم وتهيئة ملبسهم لكي يذهبوا صباحاً للمدرسة وكما كان يؤلمني أن أترك زوجتي دون أخت ٍ أو أخ ٍ قربها وهذه ضريبة الغربة والاغتراب أن تكون وحيداً وفي أحلك الظروف وأقسها مما يزيدك ألماً وافتقادا للأهل والجيران الذي تعرف مواقفهم وهبتهم لنجدتك والوقوف بجانبك ، كنت أراقب ُ زوجتي وهي تبكي وحيدة على سرير المرض وكأن لسان حالها يقول ( غريبة من بعد عينج يا يمه ) وفعلاً ترجمتُ أحاسيسي ومشاعرها وهي تدير عينها يميناً وشمالا ً فكانت قصيدتي ( أدير العين ) التي هي ترجمة لتلك اللحظات وأنا أستحضر الأغنية العراقية الشهيرة (أدير العين ما عندي حبايب )
والحقيقة هي هذه كما لمستها هنا في ديار بعيدة جداً عن أغلى الأحباب والأوطان .
تستمرُ رحلة الأيام حتى نصل لليوم الموعود بإذن الله عز وجل لولادة الطفل الجديد وهنا بدأ نقاش مستمر بيني وبين زوجتي هي تقول تبقى مع الأطفال وأنا أقول لها كيف أتركك وحيدة وكأن حالي ( مثل أم ولد غركان وأبر الشرايع ) فلا أنا قادر على ترك أطفالي الصغار جداً وحدهم ولا أستطيع أترك زوجتي وحدها في المستشفى وخصوصاً يوم العملية والمشكلة أن وقت العملية الساعة السابعة والنصف صباحاً ويتطلب حضورنا في الخامسة فجراً وبدأت أطرح عدة خيارات منها اخذ الأطفال معي وهم نيام إلى المستشفى أو أتركهم عن أحد الأصدقاء ولكني اعرف أطفالي فهم يستيقظون في الليل عدة مرات وهكذا اخذ مني التفكير شطراً كبيراً وكل ذلك أقول في نفسي ( وينكم يا أهلنا؟ ) وهنا بعث الله لنا أخت عزيزة جداً وهي ذات دين وخلق كبيرين يذكرك بأهلنا وأخواتنا الكريمات هذه الأخت المسلمة من البوسنة وأسمها أزريتا تعمل معي فأصرت على مرافقة زوجتي في المستشفى وفعلاً حضرت في الساعة الخامسة فجراً إلى البيت ولكن زوجتي كانت قد ذهبت قبلها بقليل والتحقت بها هناك وبقيت معها ،
أما أنا فقد قمت بإعداد الفطور للأطفال واصطحبتهم إلى مدرستهم والروضة واتفقت مع مديرة الروضة وهي أخت من مسيحي الأردن ونرتبط بعلاقة صداقة عائلية معهم فقالت لا عليك أنا أخذ الحارث بعد انتهاء مدرسته وأضعه في الروضة حتى الساعة السابعة مساءً موعد الإغلاق وحينها تعود لكي تتسلمه مع أخته .
 
اتجهتُ إلى المستشفى حيث وصلت الساعة بعد الثامنة صباحاً وكنت وأنا أقود السيارة أستمع إلى كتاب الله العزيز وعيوني تغرقوا بالدموع وأنا أدعو الله أن يحفظ زوجتي والطفل نظراً لحراجة وضعهما الصحي وحسب ما أخبرنا به الأطباء قبلها ، وقد تذكرت ُ سيدتنا مريم العذراء وأمهات المؤمنين وسيدتنا فاطمة بنت حبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ورجوت ربي أن يستر علينا ويرحم حال زوجتي الغريبة في هذه اللحظات .
 
بقيت أنتظر وحيداً إلا من رحمة ربي فلا أخ هنا يقف بجوارك ويسندك ويشد من آزرك ، كان أهلي في العراق يتصلون ودعائهم مستمر كما اتصل بي بعض الأصدقاء طبعاً كانت زوجتي في صالة العمليات ومعها الأخت الفاضلة أزريتا وهي تحمل بيديها جهاز (الايباد ) وتضعه على آذن زوجتي لكي تسمعها آيات من القرآن الكريم لتخفف من روعها فجزاها الله خير الجزاء وبعد طول انتظاري قمتُ وسألت عن الموقف فأذهبت الموظفة وعادت ومعها الأخت أزريتا تحمل لي البشرى بولادة ولدي ( هــُمام )ونجاة أمه وسلامتهما معاً وقامت أزريتا بتصويره وبعثت الصور على ( الفيس بوك ) مباشرة ومن الطريف أنها عرضت الصور على الملأ قبل أن أرى ولدي أو أعرف انه قد شرف حياتي وهذه الدنيا بمقدمه بسبب أن أزريتا بثت الخبر لكل الأصدقاء وهي تعتقد باني أستطيع أن أرى الفيس بوك لحظتها ، دخلت لكي أحمل ولدي وأقبله وقد قمت بتنفيذ سُنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام برفع الأذان في آذنه اليمنى وإقامة الصلاة في آذنه اليسرى كما قمت ُ بتحنيكه بالتمر لكي يكون أول مذاقه حلو لتصبح حياته حلوة سعيدة بإذن الله تعالى .
 
بقيت طوال النهار بصحبة زوجتي ولم تتركنا الأخت أزريتا حتى حل المساء ورجوتها أن تذهب لبيتها ، أما في الليل فقد توجهت ُ إلى أخذ أطفالي من الروضة ثم ذهبت ُ إلى أخت فاضلة كريمة من أهلنا الكورد العراقيين والتي أصرت على المبيت في المستشفى مع الطفل وأمه وفعلاً وصلنا في الساعة التاسعة ليلاً وانأ احمل نور على كتفي والحارث بجواري لكي يشاهدوا أخيهم الجديد
هكذا استمرت الأيام القادمة نظراً لمكوث زوجتي بالمستشفى للعلاج من آثار الربو الذي أشتد عليها كثيراً
أما يوم السبت والأحد فقد جابهتني مشكلة إغلاق المدارس والروضة للعطلة وهنا تطوع أحد الأخوة الكرام من أبناء السعودية والذي يعتز ويفتخر بان أصول أجداده من جنوب العراق تطوع هذا الرجل وعائلته الكريمة لكي يعتنوا بأطفالي وفعلاً مضت الساعات وأنا أدور بين المستشفى من الصباح لكي تعود أختي الكوردية الكريمة إلى بيتها ثم أعود لها مساءً لكي ترجع للمستشفى وكل ذلك وأطفالي على كتفي ينامون من التعب والإرهاق وأحملهم إلى فراشهم وهم مجهدون يفتقدون أمهم ..
حتى أن خرجت زوجتي وهــُمام  إلى البيت وساد الفرحة والسرور حياتنا وحمدنا الله تعالى كثيرا على هذه النعمة العظيمة
وأقول الحقيقة بأني فرحت ُ جداً بولادة هذا الطفل ذلك لأن الله تعالى قد استجاب وهو الكريم لدعائي ودعاء ولدي الحارث الذي كان يتمنى أن يكون له أخ وكان يسألني عن أهلي بالعراق وعددهم وهل له أقرباء وأبناء عمومة وأقول للأحبة أن دعائي كان بدعاء وطلب ورجاء سيدنا موسى عليه السلام حين سأل الله تعالى أن يبعث معه أخاه هارون لكي يحاجج به فرعون ويشد من آزره ويكون عوناً له في الدعوة إلى الله تعالى ونصيراً بالحق في هذه الدنيا  (فقد قال الله -عز وجل- في سورة طه عن موسى -عليه السلام-:
( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى )
وقال في آية أخرى: ( سنشد عضدك بأخيك)لذا كانت سعادتي كبيرة بولادة طفل أخر لي يكون أخ للحارث كما كان أخوتي رعاهم الله حزام ظهر وسند ورحماء بينهم .
الكل هنا سألني لماذا أسم همام اخترته للمولود الجديد والجواب في حديث كريم للمصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله:عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة.
كما هناك حديث نبوي شريف (كلكم حارث وكلكم همام ) وهما صفتان للإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه أن يحرث الأرض ويعمرها بالخير والعمل الصالح وأن تكون الهمة ملازمة للمرء في انجاز عمله سواء كان في أمور الدين أو أمور الحياة العامة .
 
طبعاً أعود لكي أقول بان الفرح يلازمنا ويسعدنا كثيرا ولكن أيضاً الحزن والألم تسير بجوارها قد يتأخر التحاقها أو بروزها وقد يتقدم كلاً حسب وقته وحينه الموعود وهكذا وبعد مرور ستة أيام على ولادة ولدي هـُمام وإذا بأخته نور تقترب منه لكي تقبله أرى بوجهها انتفاخا وعندما شاهدتها رفعتُ شعرها عن أذنها لأرى حبة حمراء كبيرة تحت الأذن اليسرى لها ارتعبت أنا وزوجتي وحملناها إلى الطبيبة المختصة والتي ما أن رأتها حتى أمرت بالإسراع بحملها إلى المستشفى وهنا أقول دارت الأرض بنا وبدأت زوجتي تبكي بكاءً مراً وشعور بالذنب يعترينا لما أصاب أبنتنا الحبيبة ثم طلبت الطبيبة فحص الحارث فذهبت إلى المدرسة وأحضرته وكان يشكوا من ألم في أذنه ولكن الدكتورة أعطته دواء مسكن وعلاج مستمر ، اتصلت بعائلة عراقية كريمة من أهل بغداد الكرخ لكي يحضروا ألينا لنجدتنا في ظل هذه الظروف وفعلاً حضر الرجل وزوجته التي وضعت نور على كتفها وأسرعنا إلى المستشفى بعد أن تركتُ زوجتي في حالة نفسية صعبة للغاية ،

   


 في المستشفى بدأ الأطباء بإجراء الفحوصات الطبية المركزة على حالة البنت وبقينا إلى المساء حيث أعلموني بان الحالة أن بقيت هكذا سيتطلب الأمر أجراء عملية جراحية خلال الأسبوع القادم ،
عدنا إلى البيت والتعب والإرهاق والمعاناة النفسية كبيرة جداً وما لنا إلا الله تعالى وأنتشر خبر مرض أبنتي بين الأصدقاء وعرفت أمي وأهلي بالعراق وبدأت الاتصالات والدعوات بالشفاء والكل يدعو لي بان الله يعطيني الصحة لكي أخدم أهل بيتي والكل يعرف وضعي الصحي وخطورته أصلا ، بعد يومين من هذه المعاناة أكرمني الله تعالى بان خرج القيح والصديد من هذه الحبة الحمراء التي كانت تحت آذن أبنتي نور وحين شاهدت ذلك أطمئن قلبي وذهبنا إلى الطبيبة التي أوصت بتبديل الضماد بشكل مستمر على الجرح وإعطاءها الأدوية ولله الحمد مع مرور هذه الأيام زال الخطر وتماثلت نور للشفاء .
كنتُ خلال هذه الأيام الصعبة جداً في حياتي قد فتحتُ سجل خاص بالأدوية والعلاج بدأً مني حيث أقوم في الساعة الخامسة فجراً لكي أخذ الدواء الخاص بي ثم أضع جهاز التنفس المخصص للحالة الصحية لزوجتي ثم تبديل الضماد إلى نور وإعطاء الحارث أدويته وبعدها أذهب به للمدرسة وأعود لكي أقوم بخدمة بيتي مستذكراً حديث النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
خيركم خيركم لأهله
أني أذا أحمد الله تعالى على سلامة أهلي وأطفالي فإني أحببت ُ أن تشاركوني في المعاني الإنسانية التي صاحبت أخ لكم في عالم الاغتراب لكي نعلم جميعاً أن في مثل هذه اللحظات يستشعر المرءُ ماذا يعني وطن وماذا يعني أهل وبيت وأسرة ماذا يعني أخوة وأصدقاء وجيران
لكي يعرف الجميع عظمة وجودنا وسط أهلنا ووطننا يوم كانت الرحمة والجيرة والمحبة هي ديدان العراقيين الاصلاء الذين كانت نخوتهم تسبق خطاهم لنجدة المحتاج والمريض والمعدم .
 
سادتي سيداتي لقد ابتعدتُ عن الكتابة وانقطعت ُ عن وسائل الاتصال خلال أيام طوال وكنت استرقوا الوقت لكي اطلع أحياناً على الرسائل الخاصة وكم كانت سعادتي تبدوا أكبر لو وجدت من يسأل عنا ويطمئن علينا لكي نشعر بأننا نفتقدُ حين نغيب ونعدُ حين نحضر وأن لنا أهل وأخوة عبر القارات جمعتنا وإياهم الحروف والكلمات والانتماء لوطن الكبرياء ، لست ُ معاتباً ولكني أقول بان وجودكم في حياتي مهم جداً وأثرُ كلماتكم عزيزٌ علي يدفعني نحو الأمام بكل جد واجتهاد ذلك لأنكم أخوتي وأخواتي .
 
كما أقول بان الغربة ومواقفها تعلمنا بان هناك أناس كنت تعتقد بأنهم سيكونون أول الناس الواقفين بجوارك ولكن للأسف كانوا أخر الناس.
درس أخر مهم أن في إيجاد رابطة أو جمعية اجتماعية إنسانية تجمع أهل العراق في الغربة وكل حسب بلد الاغتراب الذي هو فيه أمر مهم جداً لكي نقف على تطورات وأحوال بعضنا البعض
كم كنت أتمنى أن نعمل على تأسيس تجمع يجمع  الكتاب ومحبيهم من الناحية الاجتماعية للتقارب وتبادل الأفكار والآراء والاطلاع على الأحوال .
 أخوتي أني اعذر الجميع وأعتذر منهم وأرجو الله أن يحفظكم ويرعاكم بعين رعايته وأرجوكم أن تذكرونا بدعائكم وصلاتكم كما نذكركم بهما ونرجو لكم كل الخير
 هكذا هما الخير والشر هكذا الحياة والموت هكذا الفرح والحزن هكذا كل ثنائيات الحياة البشرية تسير مع بعضها البعض، الصبر والأيمان هما من تشحذ بهما همتك وأنت تواجه مصاعب الحياة
وختامها مسك
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا

                                

الگاردينيا: الأخ / مثنى..الف مبروك على أنضمام (همٌام) الى أسرتكم الكريمة.. جعله الله من أبناء السلامة والسعادة لوالديه متنميين له دوام الصحة والعافية .. والف الحمدلله على سلامة الحلوة نور وأمها..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1004 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع