بقلم نوري جاسم
بغداد .. أنشودة الوجع الجميل
في حضرة بغداد، لا تسعنا الكلمات ولا تكفي الأوصاف، ففيها تختلط الحروف بالدموع، ويتعانق الحنين مع التاريخ، وتصبح الروح على حافة البكاء كلما نطقت باسمها. بغداد ليست مدينة، بل كائنٌ حيّ يتنفس من بين أنقاضه، يسير رغم الكسور، ويبتسم رغم الطعنات. هي ذاكرة الشعوب، ومهد العقول، وأم الحضارات التي مشت فوق رخامها العلومُ والموسيقى والفلسفة والأدب، وكل حجر فيها يروي قصة وكل زقاق يهمس بسرّ قديم وكل نخلة تحرس ظلاً من زمن بعيد، ونهر دجلة يردد أنين الشعراء والمحبين والمقهورين،
وبغداد ليست حزينة لأنها ضعيفة بل لأنها رقيقة، تغسل وجهها كل صباح بماء دجلة وتضفر جدائلها من شمس العراق، ثم تمضي إلى يومها المليء بالصبر والحكمة والخذلان. كم مرّ فوقها الغزاة والمحتلون واللصوص لكنها كانت تنهض من رمادها، تمسح عن خدها تراب الخيبة وتقول: هنا بغداد، لا تظنوا أني أموت، ففي قلب كل عراقي تعيش بغداد، تنام على شفاه الأطفال وتحيا في أنين الأمهات، تسكن في أروقة المكتبات وفي حناجر المنشدين وفي ضجيج المقاهي الشعبية التي لم تفقد طعم الهيل رغم قسوة الزمان، وبغداد أنشودة من وجع، لكنه وجعٌ جميل، وجع يوقظ الضمير، يحفر الذاكرة، يعلمك كيف تحب الوطن حتى وأنت مكسور، حتى وأنت مشرد، حتى وأنت حائرٌ على أرصفة الحياة، وهي الوجع الذي يعيد للإنسان كرامته رغم الغربة، وهي الجرح الذي نحمله بفخر لأنه من مدينة اسمها بغداد. من يزرها لا يعود كما كان، ومن يسكنها يصبح جزءًا منها، يذوب في طينها ويصير نخلة في ساحاتها أو مصباحًا في أزقتها أو دعاءً على لسان أم تنتظر عودة ابنها،
وهي ليست فقط وطنًا بل حنين، ليست فقط دارًا بل حضن، ليست فقط ماضٍ بل رسالة، وفيها وُلدت الحضارات ومنها انطلقت إشعاعات الفكر وفيها تكسّرت سيوف الطغاة، فيها يصنع الإنسان من الألم إيمانًا ومن الرماد حياة، وإذا سقطت بغداد في لحظة فهي تنهض في أخرى، وإذا بكت يومًا فإنها تضحك دهورًا، وإذا خانها الزمن فإن أبناءها أوفياء يحملونها في القلوب مهما بعدت المسافات، وبغداد أنشودة الوجع الجميل لأنها حين تتألم، تخلق من الحطام نغمة، ومن الخراب ترسم لوحة، ومن الحصار تكتب ملحمة. فيها يذوب الغريب وتحن الجدران لصوت الطبول القديمة، وتنحني السنابل لسحر الجمال الأصيل، وتعود الأرواح لتغتسل بنورها كلما اشتدت العتمة. هي الوعد المؤجل، هي النداء المقدّس، هي الحلم الذي لا يموت، والمكان الذي لا بديل له،
وفي بغداد، لا شيء عادي، حتى الحزن فيها جميل، حتى الغروب فيها له نكهة القِدم، وحتى صمتها ناطق بحكمة العصور. من عرف بغداد، لا يخون الوفاء، ومن سكنها، لا ينسى الحب الأول، لأنها وحدها تكتبنا من جديد، تعلمنا أن نكون بشرًا، أن نحب ولو تألمنا، أن نحيا ولو متنا، أن نحلم ولو تهدم كل شيء.، بغداد يا أنشودة الوجع الجميل، يا بلسم الروح وجرح القلب، سنكتبك في أعيننا وردة، وفي دمنا نشيدًا، وفي صلواتنا سلامًا، وفي دعائنا أملًا لا يموت، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ..
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع