المؤرخ إبراهيم فاضل الناصري
المسيحيون في سهل نينوى من التكارتة السريان وتغريبتهم التاريخية في سالف الازمان
استشرافا بالقول المبين (بان التاريخ المحفز طومار امين لحفظ تراث الاولين)، أسجل للذوات المهتمين الموقرين تغريبة من تغريبات جالية مسيحية من السلف الأصيل قد كانت لها اثار وادوار ومآثر وجميل اخبار في ما اندثر من أشرق الاعصر الماضين انها قصة التكارتة من السريان المؤمنين ممن كانت لهم حضارة في مدينتهم في أزهر الاحايين ثم سرعان ما جارت عليها الأقدار بل جارت عليها المحن من السنين.
اذ ما ان اشرف القرن الحادي عشر الميلادي على انصرام النصف الأول منه، حتى امست أحوال ملة المسيحيين من السريان تتضعضع في بلدتهم الام (تكريت العتيقة) التي كانت فيما عبر من الازمان تعد العاصمة الدينية لمشرق السريان وحاملة مشعل النور المقدس لعقيدتهم ومحط الكرسي الرئاسي للمفريان، سيما وكانوا يعدون فيها حملة المشعل وسدنة الكرسي وملاك الادارة حيث ان الاقدار ما فتئت ان قد قلبت لهم ظهر المجن عندما خيّم على بلادهم زمن مضطرب الأحوال وشديد المآل تمثل بالسيطرة على حكم ديارهم العتيقة تكريت ومحيطها، من قبل حكام متغلبون من هنا وهناك أمثال كيقباذ الديلمي الباطني، وما شاع منهم وبدر عنهم من تعسف وطغيان بل اضطهاد للعباد عامة وللأقليات الملية خاصة، اذ ما ان ثقلت به وطأة هؤلاء الحكام وفاحت رائحة الظلم بشكل لا يطاق حتى شرعت العوائل المسيحية الملة؟، التكريتية الموطن في جلائها الطوعي عن بلدتها الام تكريت على التتالي معلنة تغريبتها التاريخية المضنية بما تحمله من اسفار سوداء مضمخة بالحنين والوفاء.
وهكذا فما ما ان حل العام 1112م حتى لم يتبقى من تلكم العوائل العريقة في تكريت العتيقة سوى أربع عائلات فقط. اذ كانت وجهة البعض ممن لا يريد ابناؤهم ان يبتعدوا كثيرا عن بلدتهم الام هي مناطق (سهل نينوى) حيث حطوا رحالهم في مرابعها واستوطنوا فيها. وللتاريخ كان حلول اول قوافلهم في بلدة (قرة قوش) اي باخديدا ثم منها صاروا على مرور الزمان يتوزعون منها الى الأمكنة المجاورة القريبة والمحيطة كـ (تلكيف، بحزاني، برطلا، بعشيقا، القوش، القاسطرا) وعلى حسب تطورات الأحوال والظروف التي صارت تواجههم.
بينما كانت وجهة البعض الاخر من المهاجرين كمثل ال الطيب وال عمران وال حبيب هي مناطق قصية كانت لهم معها علاقات صلة قربى او صلات تجارية او روابط روحية كـ (طور عابدين وارزن وملطية وماردين وغيرها) فاستقبلوا من قبل مسيحيو المقصدين ممن يمتون لهم بصلة الدم او الملة ايما استقبال وأنزلوهم المنزلة بكل طيبة ورحابة وايثار وقاسموهم فرص العمل كما اقطعوا لهم أراضي لكي يبنوا لهم فيها بيوتهم ويشيدوا عليها بيعهم (كنائسهم واديرتهم) الخاصة وتصاهروا معهم.
ولما كان جليّة هؤلاء التكارتة المهاجرين على جانب عظيم من الثقافة ومن البسطة والثروة وقد بلغوا من الرقي الاجتماعي ومن البراعة في الفن والمهارة في العمارة مبلغا عظيما قلما ادركه سواهم من الناس بدليل ما خلفوه من الاثار الناطقة بعبقريتهم الفذة ونبوغهم الناصع فقد طفقوا يبذلون اقصى سعيهم في سبيل تجميل واعمار الكنائس العتيقة التي وجدوها قائمة في الأمكنة التي حلوا فيها كمثل كنيسة دير مار بهنام التي بالغوا في تنميقها بشتى المحاسن مثلما اصبح الدير ذاته الذي يضمها في عهد اشراقهم في المكان ديرا مشهورا ولم يكتفوا بالتعمير والاحياء انما شرعوا في تشييد كنائسهم الجديدة في كل الأمكنة التي وطنوها ولعل ابرز ما شيدوه من كنائس هو كنيسة مار حوديني ( مار احودامه) وكنيسة مار زينا وكنيسة مار ثيودوروس في مدينة الموصل ، أيضا بيعة مارزينا وكنيسة التكريتيين في بخديدا ووو... وغيرها من العمر التي شيدوها او التي عنوا بعمرانها وزخرفتها واهتموا بجماليتها وتصاويرها المستظرفة باذلين في مجالات العمران الكنسي اقصى مآثرهم ومقدمين لأجلها ثمار عقولهم وبلا مراء فان الأمكنة التي حلت فيها رواحل التكارتة وفي مقدمتها باخديدا قد استفادت من حضارة التكريتيين النازحين اليها في سائر المجالات التي برعوا فيها وما طرز البيناء والنقش في الكنائس المنتشرة فيها من التي عاصروها الا من تراثهم الفني والعمراني الخالد ومجهودهم الحضاري الذي وصلوه في بلدتهم الام، هذا ولم يكتفوا في العمران وانما قد امتدت توجهاتهم الى الطقوس فأجزلت عقولهم بابتداع خلاق لبعض الطقوس كما وتفردت ببعض مراسيم العبادات اذ نظموا اكليروس كنائس المنطقة حسب تقليد تكريت الكنسي وقراءة الميامر على الطريقة التكريتية مثلما ابتدعوا بعض الطقوس لعل منها مثلا حفلة عيد الشعانين أيضا منها طقس تكريم القديس مار زينا والتمجيد بقصته واخته القديسة سارى فابتدعوا لها تقليد خاص وكرسوا جل اهتمامهم لديمومتها واجرائها سنويا بطقس سواء في بخديدا او الموصل او غيرها من الأماكن البلدية التي وطنوها. ولو اردنا ذكر أسماء الاسر التكريتية المسيحية التي هجرت موطنها تكريت ووطنت بلدات سهل نينوى مثل (بخديدا وتلكيف وبرطلا والقاسطرا وبحزاني والقوش وبعشيقة) ثم اخرجت هناك علماء مباركين واعيان واعلام مبجلين أمثال المفريان يوحنا صليبا والمعمار أبو نصر الشماس والرئيس رضوان سليل العائلة المباركة والقس أبو السعادات والقس يعقوب والقس شمعون والمفريان ابن قيقي والشماس سليمان بن الياس مقدسي موسى لقصرنا في ذكرها جميعا ولكننا هنا سوف نذكر الذي وقفنا عليه منها للاستشهاد اذ ان من الاسر النصرانية التكريتية المهاجرة التي اخرجت من رحمها فضلاء اعلام وعلماء فخام نذكر: اسرة ال حبش( منهم ال ياقو، ال القس إيليا، ال سقط)، اسرة ال عيسو( منهم ال عاشا وال شابابيا ال بتق وال المقدسي الساكنة في بعشيقا،)، اسرة ال حوتون،( منهم ال هدايا، عمودايي)، اسرة ال قاشا( منهم ال القس جمعة)، اسرة ال زهرة - عولوا ( منهم ال تمس، ال باكوس، ال كسكو، ال كدادي)، اسرة ال النجاجير( منهم ال اوسو، ال قباط، ال بنور، ال صروانا)، اسرة ال النعلبند( منهنم ال اينا، ال جبوري)، اسرة ال عطا الله ( منهم ال قليموس، ال نعمت، ال يونان)، اسرة ال قيسو( منهم ال بوسا، ال حنانبيش)،اسرة ال حوتو، اسرة ال موميكا، اسرة ال ميخو، اسرة ال حوان، اسرة ال شميس، اسرة ال شيخو، اسرة ال شمبش، اسرة ال عبادة، اسرة ال سرسم، اسرة ال المسعودي، اسرة ال تويني، اسرة ال ججو، اسرة ال خشمان واسرة ال حبو واسرة ال سنبل.
ورب سائل سوف يسأل عن سبب اختيار المهاجرين التكريتيين لمناطق سهل نينوى ومناطق أعالي النهرين من دون الجهات الاخر للنزوح والهجرة؟ والجواب هو ان وراء ذلك الاختيار كان العلاقة التاريخية ما بين تكريت وبين مدن تلكم المناطق، فلقد تأسست بين تكريت وبين مناطق أعالي النهرين علائق تاريخية حميمة وقويمة وأنها كانت تقوم على نظرية المد والجزر في التعاطي فلو تصفحنا تاريخ المسيحية في أعالي الرافدين لوجدنا امثلة على تلك العلاقة فأول جاثليق يختار تكريت ا مقرا له لجاثليقيته الأولى لمنطقة سقي دجلة الأعلى كان من مدينة بلد شمالي الموصل وهو القديس مار احودامه. واجل قديس تشرف به كرسي تكريت انما كان القديس مار دودو الذي قدم اليها من بازبدى وطور عابدين. وأول مفريان دشن الكرسي المفرياني لبلاد المشرق الذي مقره بتكريت هو الراهب ماروثا والذي قدم اليها من بلد بانوهدرا في أعالي الرافدين. واخر المفارنة الذين كان مقر كرسيهم تكريت هو القديس يعقوب قنداسي من بلدة ملطية من بلاد الجزيرة. فضلا على ان أزهر قديس تولى الكرسي البطريركي لانطاكيا كان من تكريت وهو القديس قرياقوس التكريتي. وهكذا دواليك كانت العلاقة الترابط التاريخية ما بين مدينة تكريت وبين مدن بلاد أعالي الرافدين.
ومسك ختام مقالتي هو البيتين الشعريين التاليين:
أولئك ابائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فَإِنَّكَ إِلّا ما اِعتَصَمتَ بِنَهشَلٍ لَمُستَضعَفٌ يا اِبنَ المَراغَةِ ضائِعُ
816 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع