د.صلاح الصالحي
(ختم الأقدار)
على معاهدة ترتيبات وراثة العرش الاشوري
(672) ق.م
رسم لطبعة ختم أسطواني: ختم الإله آشور من عهد سنحاريب ملك آشور يقف بين الإلهين آشور، وعشتار/موليسو (من موقع نمرود، معبد الإله نابو، ختم به معاهدة ترتيبات وراثة العرش الاشوري في عهد الملك اسرحدون
كان الخطر الميدي أكثر فاعلية في عهد الملك اسرحدون (سين-اخُ-يدينا)(Aššur-ahhe-iddina) (680-669) ق.م، الذي كان يراقب الميديين ويساعدهم في الأستقرار على الرغم من امتلاكهم مدن في شمال غرب إيران إلا انهم كانوا أساسا قبليين في تنظيماتهم، راجع (صلاح رشيد الصالحي، 2023، الجزء الثاني، ص305-354)، وكانوا اقوياء جدا لأن اغلب قواتهم من الفرسان، وقد وقفوا إلى جانب اسرحدون ضد مملكة عيلام (Elam) (تقع غرب إيران حاليا)، ومن جهة أخرى شكلوا حاجزا ضد مملكة اورارتو (Urartu) (تقع شرق تركيا حاليا) والقبائل السيمرية (Cimmerians) والاسكثية أو الاسكيذيون (بالمصادر الاشورية اشكازي Iškazai) (موطنها منطقة القوقاز وشمال بحر ازوف Azov) وهما قبائل مهاجرة، ونتيجة لسياسة اسرحدون العسكرية والسلمية مع بعض زعماء الميديين فقد تم استقبالهم في العاصمة نينوى وهم اوبس (Uppis) زعيم بارتاكا (Partakka)، وزناسانس (Zanasans) زعيم بارتوكا (Partukka)، وراماتايا (Ramatea) زعيم اوروكازابارنا(Urakazabrna) ومعهم هدايا تتضمن احجار الازورد كما ورد في النص: (... جاء الملوك الميديون إلى نينوى خوفا من قوة الإله آشور حاملين معهم الازورد وكل ما لدى جبالهم، وقبلوا اقدامي) ولعل سبب وصولهم إلى نينوى توغل الجيش الاشوري عام (676) ق.م داخل أراضي الميديين، فقد شملت العمليات العسكرية مساحة (1200) ميل مربع، ومن المحتمل ان جنود الحاميات العسكرية الاشورية في بابل كانوا القوة الرئيسة التي شكلت قوات الحملة الاشورية، التي انطلقت من بابل مباشرة باتجاه الهضبة الايرانية، ومع تصاعد عمليات اسرحدون العسكرية من طرد القبائل الميدية وازاحتها من اراضيها ومصادرة ممتلكات المتمردين التجأ الملوك الثلاثة إلى نينوى طالبين المساعدة في إعادة مدنهم التي استولى عليها الثوار المحليين، وفعلا اعادهم اسرحدون إلى مدنهم بمساعدة القوات الاشورية مع تنصيب حكام اشوريين، واجبروا على دفع جزية وضرائب فرضت عليهم، وورد في قائمة أسماء الميديين اسم راماتايا (Ramatea) زعيم اوروكازابارنا (Urakazabrna) أحد امراء المقاطعات الميدية وقد فاوضه اسرحدون بان يتعهد ويساعد في ترتيبات وراثة العرش الاشوري بعد وفاة الملك اسرحدون لصالح ولده اشوربانيبال (آشور-ﭙاني-اﭙلِ)(Aššur-bāni-apli) (669-626) ق.م، راجع نصوص معاهدة ترتيبات وراثة العرش الاشوري في بحث (سامي سعيد الأحمد، الاتفاقيات والمعاهدات...،1981، ص10 وما بعدها) ان نصوص المعاهدة التي وقعت في عام (672) ق.م وفرضت بالقوة على تسعة امراء ميديين اخرين تابعين لاشور على الحدود الشرقية للعراق يمكن ان نعتبرها لا قيمة لها، وانها كانت خطة فاشلة لتجنب حرب وراثة اشورية اخرى، فسبق وان قاتل اسرحدون اخوته المنافسين له على العرش الاشوري وهما عراد-موليسي أو أراد-موليسي (Arad-Mulissi) و شار-آصر (Shar-ezer) راجع: (صلاح رشيد الصالحي، 2023، الجزء الثاني، ص48-54)، ومن المحتمل ايضا ان توقيع الملوك الميديين للاتفاقية هي محاولة من اسرحدون لربط ولائهم بالدولة الاشورية عن طريق مشاركتهم في ترتيبات وراثة العهد، واثبتت الاحداث فيما بعد تعاون الميديين مع السيمريين ومع سكان جبال زاكروس ضد الدولة الاشورية، على اية حال ما يهمنا هي الاختام التي تم ختمت بها المعاهدة وعتبرت بمثابة ختم الإله (آشور) أو ختم (ملكي).
جزء من رسم لنقش صخري لسنحاريب من موقع خنس ويلاحظ الملك يحيط بالإلهين آشور والإلهة موليسو/ عشتار
تم ختم معاهدة ترتيبات وراثة العرش الاشوري بثلاث أختام (الأختام الآشورية القديمة، والآشورية الوسطى، والآشورية الحديثة)، وهذا الختم من العهد الآشوري الحديث يطلق عليه (ختم الأقدار) واعتبر من الأختام (الملكية) استنادا إلى ضمون النقوش، فقد ذكر في الختم الاسطواني الملك سنحاريب (سين-أخي-اريبا) (Sîn-aḫḫī-erība) (704-681( ق.م، فقد تأثر به ابنه أسرحدون فاستعمل الختم في تصديق (معاهدة تنظيم وراثة العرش) لضمان الرخاء لوريث الملك المختار ابنه آشوربانيبال: صور على الختم الملك سنحاريب رافعا يده اليمنى للدعاء من الإله آشور، واليد الثانية يمسك بها صولجان الحكم، وهو يقف بين إلهين يمتطون حيواناتهم المفضلة، يقف أمام الملك الإله آشور (Aššur) واقفا على التنين الخرافي مشخشو (mušḫuššu) وهو يمثل رمز الآله مردوك (مردوخ) كبير آلهة بابل، ويمسك الإله بيده اليسرى الحلقة والقضيب، وهما أدوات العدالة على شكل رموز، وتستعمل لقياس استقامة الرجالِ، وتقرير مصيرهم، وخلف الملك الإلهة موليسو (Mulissu) /عشتار (Ištar) وتقف على أسد وهي تمسك بيدها اليمنى الحلقة والقضيب ايضا، ان ظهور صورة الإلهة موليسو/ عشتار (Ištar) يشير إلى موقعها كقرينة للإله آشور، كما ذكرت مباشرة بعد الإله الرئيسي آشور في قسم اللعنات كما في المعاهدة نفسها، والكتابة المسمارية على الختم الاسطواني كانت بصيغة الملك المتكلم وتم تحديده في النقش المطول: (أنا سنحاريب، الملك...)، بالنسبة لسنحاريب نجد نقوش مشابهة وبشكل خاص النقوش الصخرية في خنس (Khinis) (وهو موقع أثري آشوري، ويعرف أيضا باسم بافيان (Bavian)، وهي قرية مجاورة له في محافظة دهوك في شمال العراق)، وفي معلتايا (Ma’altai) (النقوش الصخرية في معلتايا اقيمت عندما شيد الملك الآشوري سنحاريب نظام القنوات الشمالية لنقل المياه إلى عاصمته نينوى، وتقع هذه النقوش في منطقة جبلية نائية بالقرب من بلدة معلتايا (Ma’altaya) على بعد حوالي (70) كم شمال الموصل)، واختار أن يمثل نفسه بهذه الطريقة: يحيط به نفس زوج الآلهة في موقع واحد، وفي نقش صخرة خنس يواجه الملك مجموعة طويلة من اشكال الآلهة تسير في موكب، ويمكن للمرء ان يتأكد بوجود تشابه بين النقوش الصخرية الملكية من جهة ونقش الختم الاسطواني من جهة اخرى.
تم ترجمة ونشر الكتابة المسمارية على (ختم الأقدار) مؤخرا، وينسب الختم ضمن فئة أختام الآلهة المعروفة من فترات أخرى في بلاد الرافدين، يبدأ النص: (أنا سنحاريب، الملك، ختم الأقدار، الذي يختم به آشور، ملك الآلهة، مصائر ... البشرية، كل ما يختمه لن يتغير).
وعثر على مسودة كتب عليها (لوح الأقدار) (Tablet of Destinies) الذي ألفه مكتب سنحاريب، وتضمن مقطع يعلن أنه (لوح الأقدار) وينتمي إلى الإله آشور وحده: (يا آشور، والد (؟)...السماء، ملك الآلهة، ومقرر الأقدار، أنت وحدك (ēdiš) ) تحمل بين يديك لوح أقدار الآلهة) هنا لا نجد اسم الملك سنحاريب انما الإله اشور وحدة.
يعتبر هذا ختم الإله آشور، وهناك ختمين الآخرين عليهما نقوش على نفس المعاهدة، أحدهما من العهد الاشوري الوسيط، والآخر من العهد الآشوري القديم، وكلاهما يحتوي على إشارات إلى الإله آشور، ويتضمن الختم الآشوري من العهد القديم على نقش ينسب إلى الإله آشور وتم التصديق به على لوح المعاهدة نفسها، وينص على: (ختم الإله آشور، ملك الآلهة، سيد البلدان – لا يجوز التعديل، ختم الحاكم العظيم، أبو الآلهة - لا يجوز الطعن فيه) ، ونفس الصيغة في منحة الأرض التي منحها أداد-نيراري الثالث الملك الاشوري وقد خصصت الأرض لمعبد الإله آشور جاء فيه: (ختم آشور وننورتا، الذي لا يمكن الطعن فيه)، وأخيرا، هناك إشارة أخرى إلى الختم باعتباره ملكا للإله عندما يقترب نص المعاهدة من نهايته قبل عبارات اللعنات ضد أولئك الذين قد لا يلتزمون بالمعاهدة، حيث ذكرت العبارة: (عليك أن تحرس (لوح المعاهدة) (يقصد به راماتايا الميدي) لأنه مختوم بختم آشور، ملك الآلهة)
إن تحديد (الأختام) الموجودة على لوح (معاهدة ترتيبات وراثة العرش الاشوري) بأنه ختم الإله آشور، لأن وجود الختم هو الذي يثبت صحة بنود المعاهدة الغير (قابلة للتعديل)، وعلى الرغم من تحديد سنحاريب كحاكم اسطوري، لكن الختم يشير إلى الإله، وهذا يعني موافقة الإله آشور على محتويات المعاهدة، وفي نفس الوقت يضفي سلطته على قوة المعاهدة، وفي الواقع فإن استخدام ختم الإله في هذه الحالة من شأنه أن يشكل الآلية الدينية والسياسية المناسبة للاتفاقيات الدولية، حيث يتم استدعاء الإله، جنبا إلى جنب مع جميع الآلهة، لدعم مهمة أسرحدون، وفي مثل هذه الحالة ليس من المستغرب أن يكون الشكل الأكثر قبولا بان الختم الأسطواني للإله آشور هو الوسيلة المناسبة لإضفاء الشرعية على المعاهدة، ويجب بعد ذلك فهم ذكر شخصية الملك سنحاريب في الختم على أن الحاكم يقوم بدور نائب عن الإله آشور، وانه يتصرف نيابة عن الإله الذي يواجهه مع الإلهة موليسو/عشتار، ويمكن بعد ذلك اعتبار استخدام الملك أسرحدون (ختم آشور) الخاص بوالده، إلى جانب تلك التي تنتمي إلى الحاكمين السابقين اللذان لا نعرف اسمائهما، بمثابة مثال على استحضار الملك الآشوري للسلطة الأسرية بالإضافة إلى السلطة الإلهية في إظهار قوة سلطته في معاهدة ترتيبات وراثة العرش الاشوري.
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع