الفارس الليدي في نينوى

بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2024

الفارس الليدي في نينوى

يعتبر الليديون أول من استخدم العملات المعدنية لتسهيل الأعمال التجارية، وقد (اخترعوا) النقود المسكوكة حوالي عام (650) ق.م، النقش يمثل أسد ليدي ورمز الأسد قديم جدا فقد تم تصوير الأسود في مشاهد الصيد في بداية الألفية الثالثة ق.م، العملة الأولى من الذهب لا يعرف اسم الملك الذي اصدرها (اليمين)، والعملة الليدية الثانية مصنوعة من سبيكة الذهب والفضة الوزن (4.71) غرام، القطر، والارتفاع، والسمك (13 × 10 × 4) مم، على الأرجح أول عملة في العالم، وقد سكها الملك ألياتس (Alyattes) (610-600) ق.م في سرديس عاصمة ليديا تقع في آسيا الصغرى (تركيا الحالية)(اليسار).

ان هدف من وجود النقاط الحدودية المقامة على طول حدود بلاد آشور هي لحماية المملكة من الاعداء، ويدير تلك المخافر رجال الاستخبارات للمراقبة والقبض على من يشتبه بهم، وذكر الملك آشوربانيبال (Assurbanipal) (669-626) ق.م نص تناول هذا الموضوع في حولياته الملكية مشيرا إلى وصول فارس غريب إلى الحدود الشمالية لبلاده، وجاء في النص: (هذا الفارس كان يسال حتى وصل إلى حدود بلدي، راقبه رجالي وسألوه (من انت أيها الغريب؟ من أي بلد انت؟ حتى تصل إلى حدودي) رجالي جلبوه (...) إلى نينوى مدينتي الملكية وفي حضوري، ولكن جميع اللغات من الشرق والغرب والتي جعلها الإله آشور تحت سيطرتي ليس فيهم من يفهم لسانه، وكانت لغته اجنبية لذلك فان عباراته غير مفهومة)، من سياق النص ان ايقاف الفارس الغريب والسؤال عن بلده وهدفه ثم ارساله إلى نينوى من الامور المتعارف عليها ضمن جهاز الاستخبارات من أجل حماية بلاد آشور من الغرباء.
ويستمر نص الملك الاشوري قائلا:(جيجس، ملك ليديا، مقاطعة على الجانب الآخر من البحر، منطقة بعيدة، لم يسمع بها آبائي ولم يذكر اسمها سابقا، الإله آشور الذي خلقني، كشف عن الاسم الكريم لجلالتي إليه في المنام قائلًا: (أمسك بقدمي جلالته، آشوربانيبال، ملك آشور، المفضل لدى آشور، ملك الآلهة، سيد الجميع، وقدس ملكه، وتوسم (الإله) فضله في سيادته، فهو يسجل ويدرك الجزاء، فلتأتي إليه)، (في (نفس) اليوم الذي رأى فيه الملك جيجس هذا الحلم، أرسل لي رسله لتحيتي وطلب السلام، وقبضت يداه على السيمريين الذين كانوا يزعجون أرضه في المعركة، أرسلهم مع جزيته الثقيلة إلى نينوى، مدينتي الملكية، وقبل قدمي).


جيجس ملك ليديا (Lydien)
بعيدا إلى غرب آسيا الصغرى (بلاد الاناضول) وقريبا من سواحل بحر ايجة، قرر جيجس (Gyges) ملك ليديا وعاصمتها سرديس (Sardis) وتقع على الساحل الغربي لتركيا الحالية، وكانت ليديا ذات موقع مثالي للتجارة، ويعتبر الليديون أول من استخدم العملات المعدنية لتسهيل الاعمال التجارية، فقد اخترعوا النقود المسكوكة حوالي عام (650) ق.م، كما ولأول مرة سعى الليديين في إقامة اتصال مع مملكة آشور القوية، والدافع إلى ذلك تعرض ليديا للتهديد من غزوات القبائل السيمرية (Cimmerians)، وهم شعب عاش في شمال منطقة القوقاز (Caucasus) وبحر ازوف (Azov) واشتهروا بركوب الخيل ورمي السهام، وينقسمون إلى مجموعات قبلية مختلفة وابتليت بهم الأجزاء الشمالية من الشرق الأدنى منذ نهاية القرن الثامن ق.م ضمن منطقة تمتد على شكل قوس واسع من غرب إيران ثم عبر دولة أورارتو (Urartu) (تقع شرق تركيا حاليا) وإلى وسط وغرب الأناضول، وشن السيمريون غارات كما عرضوا أحيانا خدماتهم كقوات مساعدة للحكام المحليين، فقد عثر على أدلة بوجود مرتزقة سيمريين يعملون في نينوى، ويقدمون خدماتهم في حراسة قصور الملوك الآشوريين.
بعد وقت قصير من اعتلاء آشور بانيبال العرش، بدأ السيمريين بالتمركز في منطقة غرب الاناضول وهاجموا الأراضي التي تقع في متناول أيديهم، فوجدت مملكة ليديا نفسها في وضع حرج للغاية، وكان هذا المأزق هو الذي دفع الملك جيجس للبحث عن حليف مناسب، ومن المنطقي اللجوء إلى الآشوريين لأنه قبل عقد من الزمن في عام (679) ق.م عبرت قوة آشورية ممرات جبال طوروس (Taurus) وهزمت قوة من الفرسان السيمريين، وبذلك لدى الاشوريين سمعة قتالية جيدة في وسط وغرب بلاد الاناضول.
كان من الممكن أن يكون الهجوم الاشوري المرتقب مفيدا للغاية ليس فقط لمملكة ليديا، ولكن أيضا لملوك تابال (Tabäl) وخيلاكو(Ḫilakku) (كلاهما ممالك في جنوب وسط تركيا الحالية)، وهؤلاء كانوا عرضة وبنفس القدر لهجمات السيمريين، ولكن كيف يمكن الوصول إلى الملك الآشوري؟ حتى ذلك الحين لم تكن لمملكة ليديا أي علاقات دبلوماسية مع آشور، ولم تكن لديهم خبرة في التعامل مع البلاط الآشوري، ولم يرغبوا في الظهور كمتوسل بائس هناك، ولكن المهم هو طلب المساعدة بطريقة تحافظ على كرامة الملك جيجس، وفي نفس الوقت الحصول على الدعم العسكري الاشوري.
يمكن القول أن الملك جيجس تلقى المشورة من أحد المطلعين على المملكة الاشورية ويعرف بالضبط العادات والتقاليد هناك، ومن ثم تم اختيار السفارة بفارس جيد وسريع، واتخذ الطريق البحري من ليديا عبر البحر المتوسط إلى ميناء اوغاريت (رأس شمرا في سورية) ثم برا إلى كركميش(Carchemish) وحران (Harran) ومنها إلى نينوى، لأن الطريق البري عبر تركيا من الغرب إلى الشرق كان صعبا وكثير المخاطر، وكان السيمريون يتربصون هناك أيضا، وتم وصف لحظة الاتصال الأول على النحو التالي: (هذا الفارس كان يسال حتى وصل إلى حدود بلدي....) ، تم اقتياد الفارس إلى العاصمة نينوى في البداية كان مستحيلًا التواصل مع الفارس: (ولكن جميع اللغات من الشرق والغرب والتي جعلها الإله آشور تحت سيطرتي ليس فيهم من يفهم لسانه...) كانت نينوى مركز العالم والحضارة، وكانت الممالك البعيدة لا تشكل خطرا، فلا يستحق الأمر بذل الجهد في التعامل معهم أو السفر إلى تلك الممالك أو حتى تعلم لغاتهم، وبعد البحث عثر في نينوى على من يتكلم لغة الفارس الليدي ففي العاصمة الاشورية عدد كبير من التجار الاشوريين والأجانب ومن خلال المترجم سمع آشوربانيبال قصة رائعة، سمع أن الإله آشور قد ظهر لجيجس ملك ليديا في المنام وطلب منه الخضوع لآشوربانيبال ويصبح تابعا له، وبمجرد أن يفعل جيجس ذلك، فإنه سيهزم أعدائه السيمريين، باسم آشوربانيبال، وقد أثارت قصة حلم جيجس إعجاب الآشوريين، وتم إعادة سردها في نقوش الملك آشوربانيبال.
تم استقبال مبعوث جيجس بأكبر قدر من حسن النية في نينوى، وكان الفارس مقتنعا بنجاح مهمته عندما عاد إلى ليديا، ولكن في العام التالي لم يقدم الاشوريين الدعم العسكري المطلوب، ومع هذا استمر ملك ليديا في الحفاظ على علاقته مع آشور، وابلغ الملك الاشوري انه حقق انتصارات عسكرية ضد السيمريين، وأسر بعض السيمريين وارسلهم كهدايا إلى آشوربانيبال كدليل على الانتصارات التي حققها باسم الملك الاشوري، ولكن على الرغم من أن المبعوثين الليديين حظوا دائما بترحيب حار في نينوى، إلا أن المساعدة العسكرية الآشورية لم تصل اطلاقا .
هذا الامر كان مزعجا للغاية، ولم يكن الناس في العاصمة سارديس (Sardis) يعرفون ولا حتى الملك جيجس هو الآخر لا يعرف وجهة نظر الآشوريين التي تختلف عن النظرة الليدية، بالنسبة لآشور سابقا اظهر ملوك تابال (Tabäl) وخيلاكو (Ḫilakku) عداءهم مرارا وتكرارا للاشوريين، ولكنهم أصبحوا الآن بعد الخطر السيمري يقدمون الجزية لآشور، وكانت ليديا تعاني من هجمات السيمريين، ولم تكن أنشطة السيمريين العسكرية ضارة للملك آشوربانيبال بالعكس كانت مفيدة للغاية، فقد كان لدى الاشوريين خبرة في التعامل مع ممالك وسط وغرب الاناضول، فقبل عقد واحد فقط في عام (679) ق.م، كان الوجود السيمري عنيفا في بلاد الأناضول في ذلك الوقت، وكان الملك أسرحدون (Esarhaddon) (680-669) ق.م وهو والد آشوربانيبال، قد أرسل جيشا لدحر الغزاة السيمريين، وماذا حدث بعد ذلك؟ بالكاد عندما انتهى الخطر السيمري لم يعد ملوك الأناضول يريدون معرفة أي شيء عن أسرحدون، ولم يكن لدى اسرحدون سوى المتاعب والنفقات الباهظة ولم يتلقى سوى الجحود لمساعدته!
على اية حال اشتدت الهجمات السيمرية مرة أخرى، وكان شعب ليديا يستغيث فماذا يجب على آشوربانيبال أن يفعل؟ ان الإجابة سهلة للغاية: جلس واسترخى، واستقبل السفارات، وتقبل الهدايا، وتحدث بأدب مع المبعوثين، وقدم لهم كلمات عزاء ووعود غامضة، ولم يفعل أي شيء! فكلما طال أمد الوضع المتردي، كلما كان ذلك أفضل! واصل آشوربانيبال هذا الكسل اتجاه ليديا لمدة خمسة وعشرين عاماً كما يتبين من نقوشه الملكية، بينما كانت قواته نشطة خارج حدود آشور فخلال هذه الفترة: قاد عملياته العسكرية التي شملت ساحل البحر المتوسط، وقاتل في عكا، وهاجم آشوربانيبال مصر عدة مرات، ومشطت قوات الكوماندوز الاشورية البدو في سهوب سوريا، وخاضت قتال عنيف معهم، وثارت بابل وعيلام فدمرهم، وفي غرب إيران تقدمت القوات الآشورية إلى ميديا والإمبراطورية المانيين (تقع شمال غرب إيران) فكبدهم خسائر بشرية ومادية، كما جرت مناوشات أصغر على الحدود الآشورية-الأورارتية الهادئة نسبيا، أما على الحدود الشمالية الغربية باتجاه ليديا حيث كان ظهور الجيوش الآشورية مرغوبا بشدة، لم تظهر طوال عقدين ونصف من الزمن.
لم تكن مملكة ليديا البعيدة ذات أهمية بالنسبة للإمبراطورية الاشورية، ولم تكن سفارات جيجس في الأساس أكثر من مجرد ترفيه لدى ملك اشور، لابد وان شعر جيجس بالاحباط عندما أدرك أخيرا أن المساعدة العسكرية الاشورية لن تصل لكنه قادر ان يتحرر من قدمي الملك الاشوري، فقدم المساعدة للملك بسماتيك الأول (Pasmtik) (663-609) ق.م ملك مصر، والذي كان حتى ذلك الحين آشوريا وكان تابعا لآشور ولكنه قام بتوحيد وادي النيل تحت حكمه عام (656) ق.م، وقطع علاقاته مع آشور وارسل جيجس جزءا من قواته إلى مصر لمساعدة بسماتيك الأول في طرد الحامية الآشورية، وأصبح آشوربانيبال منزعجا وتشير نقوشه تهمة الجحود ونكران الجميل فقد ساعد اسمه الملكي في انتصار جيجس وهزيمة السيمريين، والغريب لم يشر اشوربانيبال إلى جحود ونكران الجميل لبسماتيك الأول ملك مصر كما جاء في النص:(فقد صلى إلى الإله آشور وتوسل إليه أن يترك جيجس يموت بشكل مخزي في القتال ضد السيمريين)، واستجاب الإله آشور لرغبة الملك اشوربانيبال، ففي حوالي عام (645) ق.م هاجم السيمريين قوات ليديا التي تكبدت خسائر كبيرة وقتل جيجس في هذا الهجوم، وشعر آشوربانيبال مرة أخرى بأنه مؤيد من قبل الإله آشور، وكان الوضع في ليديا يائسا للغاية لدرجة أن ابن جيجس وخليفته أرديس (Ardys) استأنف العلاقات مع آشور حوالي (644) ق.م، ومرة أخرى تجاهل آشوربانيبال احتياجات الليديين تماما فلا تقول نقوشه شيئا أكثر من أن الملك أرديس طلب مباركة آشوربانيبال حتى لا يعاني من نفس مصير والده، الذي لعنه الإله آشور، فجلب الملك الآشوري الموت لجيجس، وأعطى آشوربانيبال مباركته لأرديس عن طيب خاطر لأن ذلك لم يكلفه شيئا، لكن أرديس لم يتلق المساعدات العسكرية، وكان على الليديين المحبطين أن يدركوا مرة أخرى أنه لا يمكن توقع أي مساعدة عسكرية من آشوربانيبال ولذلك قطعوا الاتصال مرة أخرى، وهذه المرة إلى الأبد.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

983 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع