الدكتور عدنان هاشم
نحن وإيران - الحلقة الثانية
العرب والفرس قبل الإسلام وفي عهد الدعوة المحمدية
كان العالم القديم تقتسمه امبراطورية الفرس في الشرق وامبراطورية الروم البيزنطيين في الغرب وكانت الحرب بين الإمبراطوريتين سجالا، ولم يكن للروم والفرس من مطامع كبيرة في شبه الجزيرة العربية لبعدها وقسوة صحرائها وجفافها وقلة مواردها، فاحتفظ العرب البدو باستقلالهم في وسط الجزيرة ولم يخضعوا لأي من الإمبراطوريتين في أي وقت من الأوقات. ولكن الوضع كان مختلفا في أطراف الجزيرة العربية فقد استخدم الفرس والروم القبائل العربية التي سكنت تخوم الإمبراطوريتين في حروب صغيرة بالوكالة، وقد تشترك هذه القبائل في الحروب الكبيرة بين الدولتين كمقاتلة أو قد تستخدمهم الدولتان لقمع القبائل العربية المتمردة. كان هناك العرب المناذرة وكانت عاصمتهم الحيرة وهم من قبيلة لخم العربية ذات الأصول اليمانية التي سكنت غرب العراق وكانت لهم مملكة صغيرة تحت النفوذ الفارسي. أما الغساسنة الذين سكنوا أطراف الشام وهم من عرب اليمن أيضا فقد كانوا تحت النفوذ البيزنطي، وكلا القبيلتين اعتنقتا النصرانية. وكانت قبائل بكر بن وائل تسكن الحدود الغربية الجنوبية للعراق وهي في حالة مد وجزر مع الإمبراطورية الفارسية. كانت المدائن عاصمة كسرى الغربية والتي بنى فيها قصره الأبيض الشهير وبقاياه المعروفة الآن بطاق كسرى. نرى كذلك أن النصرانية واليهودية قد وجدتا موطأ قدم لهما في الجزية العربية وأطرافها، وعلى العكس لم تنتشر الديانة المجوسية بين العرب. فنجد أن النصرانية قد انتشرت في نجران في اليمن وشرق الجزيرة العربية وغربها بينما انتشرت اليهودية في تيماء ويثرب وخيبر. وانتشرت اليهودية في اليمن منذ زمن الملك تُبَّع الحِمْيَري الذي اعتنق اليهودية هو وسلالته التي حكمت اليمن وانتهت بعهد ملكهم ذي نواس. وقد اضطهد ذو نواس نصارى نجران وأحرقهم في الأخدود الذي أوقد فيه نارا بعد أن رفضوا الإذعان له في ترك دينهم. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحادثة في سورة البروج. وقد هرب بعض النصارى من هذه المذبحة واستنجد بملك الحبشة الذي كان على دين النصرانية، فقد أرسل جيشا من الأحباش الذين عبروا البحر وهزموا ملك حمير وسيطروا على اليمن. وكان منهم أبرهة الحبشي الذي جاء بجيش كبير يتقدمه فيل ليهدم الكعبة ولكنه ارتد خائبا مع فلول جيشه ومات عند وصوله لليمن. وقد ذكر القرآن الكريم أن هلاك ذلك الجيش كان بطير أبابيل في سورة الفيل. سمى العرب ذلك العام بعام الفيل وأرخوا به، وقد ارتفعت منزلة قريش بين العرب بسبب هزيمة الأحباش وفشلهم في هدم الكعبة. وفي ذلك العام ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الفرس في اليمن
حكم الأحباش اليمن لمدة اثنين وسبعين عاما فلم يحسنوا السيرة واضطهدوا أهل اليمن حتى ضجوا من جورهم، فاستنصر سيف بن ذي يزن ملك حِمْيَر هرقل ملك الروم عليهم فلم يجد عنده أذنا صاغية، ولعل السبب أن الأحباش كانوا نصارى مثله فلم يرغب هرقل في حربهم. اضطر بن ذي يزن عقب ذلك أن يستنجد بكسرى أنوشيروان بوساطة من النعمان بن المنذر ملك الحيرة، فاعتذر كسرى أولا لبعد اليمن وصعوبة الوصول إليها ولكنه اقتنع أخيرا بغزو اليمن فأبحرت ثماني سفن بحرا بقيادة أحد قواد كسرى واسمه وهرز، فغرقت اثنتان ووصلت ست سفن إلى ميناء عدن وهناك انضم إليهم أنصار سيف بن ذي يزن من حمير وغيرهم وقاتلوا الأحباش وانتصروا عليهم وطردوهم من بلادهم إلى غير رجعة. وكان عبد المطلب جد النبي ضمن الوفود التي جاءت لتهنئة سيف بن ذي يزن عقب انتصاره على الأحباش.
بدأ حكم الفرس لليمن منذ ذلك الحين وصار وهرز حاكما ونائبا لكسرى على اليمن، وانتقل الحكم أخيرا إلى الحاكم الفارسي باذان الذي دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فأسلم طوعا عكس بقية الملوك الذين دعاهم النبي للإسلام والذين رفضوا أو ترددوا أن يؤمنوا بهذا الدين الجديد. ودخل فرس اليمن الإسلام طوعا وحسن إسلامهم وكان العرب يدعونهم الأبناء أي الذين ولدوا في اليمن وتكاثروا وتزاوجوا مع السكان الأصليين ثم اندمجوا فيهم وفقدوا هويتهم الفارسية القديمة مع الزمن.
معركة ذي قار
حدثت هذه المعركة إبان البعثة النبوية سنة 624 للميلاد وعلى الأرجح لثمان سنوات قبل وفاة النبي. وسبب المعركة أن كسرى أبرويز ملك الفرس غضب على النعمان بن المنذر آخر ملوك المناذرة لأسباب عديدة منها أن أحد مستشاريه العرب وهو زيد بن عدي العبادي وكان كاتبا في بلاط كسرى وشى بالنعمان عند كسرى وأوغر صدره عليه حيث أن النعمان كان قد قتل أباه، فعلم النعمان أنه مقتول فسلم ودائعه إلى هانئ بن مسعود الشيباني وكان من كبار شيوخ بكر بن وائل المستقرة في الحدود الغربية الجنوبية للعراق. وقد سجن كسرى النعمان ثم قتله وهو في السجن. ثم طلب كسرى من هانئ بن مسعود تسليمه ودائع النعمان فرفض هانئ الطلب حيث أنها كانت أمانة في عنقه وكان عليه أن يسلمها إلى آل النعمان وليس لغيرهم. فجهز كسرى عند ذاك جيشا كبيرا كان فيه كثير من العرب من قبائل تغلب والنمر بن قاسط وإياد لحرب هانئ وقبيلته من بكر بن وائل. كانت النتيجة انتصار قبائل بكر بن وائل على جيش كسرى، وكان ذلك أول انتصار عربي للعرب على الفرس. وهذا ما شجع العرب المسلمين على فتح العراق فيما بعد إذ أن هيبة الإمبراطورية الفارسية قد تضعضعت كثيرا بفعل تلك الهزيمة في معركة صغيرة نسبيا. وكان أحد أسباب الهزيمة أن الفرس قد استنفدوا كثيرا من قواهم في معاركهم مع الروم إضافة إلى انقسام البلاط الكسروي وتقاتلهم فيما بينهم، فكانت هذه الهزيمة من الأسباب التي مهدت لزوال ملكهم في العراق وبلاد فارس" وتلك الأيام نداولها بين الناس ".
ظهور الإسلام والدعوة المحمدية:
بعد أن ظهر الإسلام وقويت شوكته، شعر الروم بالخطر فحدثت مناوشات بين الفريقين وكان الروم يقيمون بعض الاتصالات مع منافقي المدينة لغرض زعزعة الإسلام من الداخل، فحدثت معركة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة بين المسلمين والروم التي كانت فيها الدائرة على المسلمين على أيدي القبائل العربية الموالية للروم. ثم بعد ذلك كانت غزوة تبوك الكبرى التي قادها النبي بنفسه على رأس أكبر جيش عرفته الجزيرة العربية آنذاك. بينما كانت جبهة الفرس هادئة فلم يحدث احتكاك أو تصادم يذكر مع المسلمين.
دعوة النبي الملوك إلى الإسلام:
أرسل النبي رسلا إلى قيصر الروم وإلى كسرى ملك الفرس وغيرهم في السنة السابعة للهجرة يدعوهم للإسلام. ويظهر أن كسرى غضب على تلك الدعوة فمزق الكتاب. لعل السبب في غضب كسرى أن النبي في كتابه قدم اسمه على اسم كسرى: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس...أسلم تسلم فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك" وبعث النبي الكتاب مع الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي، وأغلب الظن أن عبد الله هذا لم يكن له خبرة بالمراسيم الامبراطورية عند لقاء كسرى فخاطبه على طريقة الند للند كما عرف ذلك عن العرب. وتذكر كتب السيرة أن النبي دعا عليه بقوله " مزق الله ملكه شر ممزق" وقد حدث ذلك بعد بضع سنين إبان الفتوحات الإسلامية في العراق وبلاد فارس.
أسلم بعض الفرس وحسن إسلامهم فكانوا من أوائل المسلمين، ومنهم سالم مولى حذيفة الذي كان قارئا للقرآن وكان المسلمون يقدمونه للصلاة فيهم، وشهد المشاهد كلها وقتل في اليمامة في حرب المسلمين لمسيلمة الكذاب، وكان منهم سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله " سلمان منا أهل البيت" وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب والذي كان حفره أحد أسباب فشل المشركين في تلك الغزوة. فكانت دعوة الإسلام دعوة عالمية لا فرق فيها بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، ولو تمسك المسلمون بهذا المبدأ الإنساني السامي لجنبوا أنفسهم كثيرا من الأحقاد والفتن وإراقة الدماء.
الخلاصة:
نرى من هذا العرض السريع أن العلاقة بين الفرس والعرب قبل الإسلام لم تكن عدائية بل كان يسودها السلام في أغلب الأحيان. وقد هب الفرس لتخليص أهل اليمن من حكم الأحباش واستقروا في اليمن واختلطوا بالسكان الأصليين واندمجوا فيهم، ولم يذكر المؤرخون أي عداء مستحكم بين عرب اليمن والفرس عكس ما كانت العلاقة المتوترة المضطربة بين اليمنيين والأحباش. وكثيرا ما كان يقاتل العرب بعضهم بعضا بالنيابة عن الفرس أو الروم حسبما تقتضي مصالحهم وولاؤهم لهذا الطرف أو ذاك ولم يجدوا ضيرا في ذلك الفعل. ولما بزغ نور الإسلام على ربوع الجزيرة العربية، كانت الجبهة الفارسية هادئة ولم تحارب الدين الجديد عكس جبهة الروم المتأزمة مع المسلمين والذين دخلوا معهم في عدة حروب منذ أن ظهرت قوة الإسلام في المدينة وبعد فتح مكة. أسلم باذان الحاكم الفارسي لليمن وأسلم معه الفرس طواعية وفتحت اليمن أبوابها للدين الجديد. ومما ساعد على اعتناق الفرس للدين الجديد هو سماحة الإسلام وعلى لسان النبي" لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى" واعتنق بعض الفرس الإسلام في مرحلة مبكرة جدا وصاروا من كبار الصحابة كما ذكرنا. وقد ورد في صحيح مسلم والبخاري والترمذي بألفاظ فيها بعض الاختلاف الحديث النبوي الشريف " لو كان العلم في الثريا لتناوله رجال من فارس أو رجال من قوم هذا" وضرب عليه الصلاة والسلام بيده على منكب سلمان الفارسي. وشواهد التاريخ الإسلامي حافلة بالكثير من رجال العلم الفرس الذين خدموا الإسلام ولغة القرآن، ونبغوا في الطب والفلك والرياضيات والفلسفة. وسنرى بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس أن الفرس أخذوا يدخلون في دين الإسلام تباعا حتى أصيبت المجوسية بالاختناق في موطنها الأصلي فهاجر من بقي منهم إلى البلاد البعيدة ومنها الهند، وبقيت بلاد فارس أو ما تسمى اليوم بإيران على دين الإسلام إلى يومنا هذا. فيتبين من هذا العرض السريع خطل وافتراء من يسمي الشعوب الفارسية بالفرس المجوس، ومن يقل بهذا القول فهو يدعو إلى دعوة جاهلية يبرأ منها الإسلام والمسلمون وكل من وهبه الله العقل والبصيرة إذ إن أغلب الشعوب الإيرانية الحالية ليست فارسية الأصل فهم خليط من الفرس والترك والتتر والأكراد والبلوش والعرب وكلهم على دين الإسلام ولو اختلفت مذاهبهم
الدكتور عدنان هاشم
13 حزيران 2024
المصادر:
الكامل في التاريخ، ابن الأثير
السيرة النبوية، ابن هشام
ويكيبيديا
صحيح البخاري ومسلم
القرآن الكريم
1092 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع