ذو الفقار
وزراء وسفراء الزمن الأغبر/١٥
وزارة الخارجية بين طارق عزيز والصحاف
حصريا لمجلة الكاردينيا
قال ارنست ساتو "الدبلوماسية هي استعمال الذكاء والكياسة في إدارة العلاقات الرسمية بين حكومات الدول المستقلة".
سألني بعض الأصدقاء عن الفرق بين وزراء خارجية العراق في العهد الوطني على اعتبار اني عايشت أربعة وزراء هم طارق عزيز، محمد كاظم الصحاف، احمد حسين، وناجي الحديثي، وبحكم عملي على مسافة غير بعيدة عن مكاتبهم ومخاطباتهم سيما السرية للغاية والشخصية أحيانا، فيمكن ان أكون اقتربت من الحقيقة ولا ازعم الحقيقة كلها، ولكن من خلال معايشتي فقط، فيما يتعلق بالوزير احمد حسين وكان رئيسا لديوان الرئاسة فقد عمل اقل من سنة في وزارة الخارجية، وقلما كان يأتي للوزارة، وغالبا ما يرسل له البريد عبر أحد موظفي مكتب الوزير علاوة على موظف الجفرة، لذا لا يمكن الحكم عليه كوزير خارجية بسبب قصر مدة وزارته، في الحقيقة لم اكن قريبا من مكتبه لدرجة تسمح بالحكم عليه، لذا اترك التقييم لغيري ممن عمل على مقربة منه.
الوزير طارق عزيز عراب الدبلوماسية
بلا أدنى شك يعتبر طارق عزيز عراب الدبلوماسية العراقية، وكان وكلائه على درجة عالية من الذكاء والخبرة والكفاءة سيما وسام الزهاوي ونزار حمدون ونوري الويس، وكان رؤساء الدوائر من خيرة الدبلوماسيين، ورغم انه شعل منصب نائب رئيس الوزراء لكنه بقي مشرفا على أداء وزارة الخارجية لغاية تولي ناجي الحديثي الوزارة، فقد كان الرئيس الفعلي لما يسمى (غرفة العمليات السياسية)، وهي غرفة تتألف من السيد طارق عزيز ووزير الخارجية الصحاف ووزير التجارة محمد مهدي صالح، ووزراء آخرين حسب الاستشارة المطلوبة منهم، مثل وزير الثقافة او غيره، يتلخص عمل الغرفة بأن يوجه السيد رئيس الجمهورية (صدام حسين) دراسة مقترح ما او مشكلة أو توصية تتعلق بالعراق وعلاقاته الدولية او العربية، ويطلب من الغرفة دراسة المشكلة او المقترح من قبل الغرفة وارسال الاستشارة الى رئاسة الجمهورية عبر السكرتير (عبد حمود)، وغالبا ما يوافق الرئيس على المقترح ويكلف احد الوزراء من ذوي العلاقة بالقضية بتنفيذه، وتتولى وزارة الخارجية في أكثر الأحيان بالتنفيذ سيما عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الخارجية.
كان طارق عزيز عميد الدبلوماسية العراقية والعربية وله حضور مميز في المؤتمرات والمحافل العربية والدولية، ويحظى باحترام نظرائه العرب والأجانب، وكان سلوكه في الوزارة طيبا من خلال علاقاته مع جميع منتسبي الوزارة، وكان يتشدد في امر واحد وهو اتقان اللغة الإنكليزية، فالدبلوماسي بلا لغة اجنبية اشبه ما يكون بمقاتل دون سلاح، وكان يجيد اللغة الإنكليزية باعتباره خريج كلية اللغات فرع اللغة الإنكليزية، وهو لا يحتاج الى مترجم الا في اللغة الفرنسية وكانت مترجمته المرحومة د. عقيلة الهاشمي، وفي أحد امتحانات الترقية دخل مع الكادر الدبلوماسي المتقدم لخوض امتحان اللغة الإنكليزية (الإتقان) وحصل على درجة (89%)، علما ان درجة النجاح في معهد الخدمة الخارجية ودورات الترقية (80%).
لم يكن تأثير جهاز المخابرات قويا على طارق عزيز، فهم يعرفوا وزنه ومكانته ويتجنبوا الصدام معه، وهو لم يكن يعيرهم اهتماما كبيرا، بل يمارس سياسة الاعتدال مع مقترحاتهم، وقلما يأخذ بكتابات رؤساء محطات المخابرات في السفارات العراقية ضد السفراء والكوادر الدبلوماسية، لأنه يعرف انها شخصية وتعبر عن اهواء ومطامح شخصية لا علاقة لها بالعمل الدبلوماسي. غالبا ما تكون مقترحات طارق عزيز مقبولة من قبل رئيس الجمهورية ويوجه العمل بها، وهنا اود الإشارة الى ان البعض يعتقد ان سكرتير رئيس الجمهورية كان هو الذي يهمش الكتب او التوجيهات نيابة عن الرئيس، وهذا الأمر يصح أحيانا، وأحيانا لا يصح، حيث يقرأ الرئيس التقارير المهمة ويهمش عليها، ربما بعض التقارير غير المهمة يقوم بها السكرتير عبد حمود، الذي كانت زوجته (هيام فيصل الخطاب) مهندسة في وزارة الخارجية، لكنها تفرغت من العمل فيها، ولا أحد يعرف ان بقيت على ملاك وزارة الخارجية او نقلت الى رئاسة الجمهورية. المهم كان هناك وفد عراقي اظن الى المؤتمر الإسلامي ترأسه السيد عزة الدوري وكان معه السيد طارق عزيز، ووزير الأوقاف ووزراء آخرين، عند انتهاء المؤتمر وعودته الى العراق، كتب طارق عزيز تقريرا عن نشاطات الوفد العراقي، وكلمة السيد عزة الدوري في المؤتمر، واذكر ان طارق عزيز كتب عن السيد عزة عبارة لفتت انتباه الرئيس صدام " وقام سيادته، يقصد عزة الدوري"، فاستغرب الرئيس صدام من تسمية عزة الدوري (سيادته) فأحاط الكلمة بدائرة، بالقلم الأحمر وأشر فوقها بعلامة استفهام (؟). فأطلع طارق عزيز على ملاحظة الرئيس، وقدم اعتذارا عن السهو. ولدي نسخة من ملاحظة الرئيس صدام حسين.
اذكر ان عناصر جهاز المخابرات كانوا يطلقوا على رئيس الجهاز (السيد الرئيس)، على اعتبار ان الجهاز كان يسمى (رئاسة المخابرات) فاغتاظ الرئيس من العبارة، رغم ان أخاه برزان التكريتي شغل هذا المنصب، ووجه بتغير الصفة الى (السيد مدير الجهاز)، وربما اتوسع في الموضوع بعد الرجوع الى الوثائق التي امتلكها وليست الآن في متناول يدي حاليا.
الخلاصة كان طارق عزيز من ابرز وزراء الخارجية في العراق، ولا يمكن نسيان دوره مع فرق التفتيش والمفاوضات مع الإدارة الامريكية في حرب الخليج، سيما مع نظيره جيمس بيكر. وشرح للرئيس تفاصيل مفاوضته واكد ان الولايات المتحدة ستدمر العراق تدميرا كاملا وتضرب جميع الهياكل الارتكازية سيما الكهرباء والوزارات الأخرى وخصوصا المنشئات العائدة الى التصنيع العسكري، لكن كان للرئيس صدام حسين رأي آخر، ولم يلتفت الى تحذير طارق عزيز من مغبة الحرب. مع ان طارق عزيز في مقابلاته الرسمية والصحفية يتحدث عن قوة العراق وإمكانية مقارعة الامريكان، وان الحرب هي قدر العراقيين، كان يلتزم لكلام الرئيس بقوة، مع انه في قريرة نفسه يعلم ان إصرار العراق على عدم الخروج من الكويت، يعني دخول العراق في اتون الجحيم، وهذا ما بينه للرئيس صدام، وما نقله له عن جيمس بيكر، وسبق للرئيس اعلام طارق عزيز بعدم نقل اية رسالة من الرئيس الأمريكي اليه بل اهمالها، واهانة من أرسلها، وهذا سبب رفض عزيز تسلم رسالة بوش.
لم يكن طارق عزيز مستغلا لمنصبه فقد كانت مصروفات مكتبه محدودة جدا، ولم يتجاوز على التخصيصات المقررة. وكان سلوكه مع الموظفين رائع وهو على طوال الخط هادئ المزاج، لا يعرف الغضب طريقا اليه. ومن مميزات طارق عزيز انه لم يقرب اقاربه ويعينهم في الوزارة، باستثناء أخت زوجته وكانت موظفة بدرجة سكرتير ثالث في دائرة المنظمات، ولم تكن مميزة عن اقرانها مطلقا، او هناك تعامل خاص معها من قبل الوزير أو رئيس دائرة المنظمات د. رياض القيسي، ولم يكن للأخوة المسيحيين في الوزارة حظوة عند الوزير باعتباره مسيحيا، بل ان احد المسيحيين وكان بدرجة سكرتير اول قال للوزير" اصبحت سكرتير اول ولم اصعد الطائرة بعد (أي لم اعمل بسفارة عراقية في الخارج)". فأعتذر الوزير بسبب الظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق، ووعده خيرا.
الوزير محمد سعيد كاظم الصحاف: افضل خلف لأفضل سلف.
صحيح ان أبا الدبلوماسية العراقية هو السيد طارق عزيز في العهد الوطني السابق، لكن الصحاف كان أيضا دبلوماسيا رفيعا على الرغم من سرعة غضبه، وخروجه عن الهدوء في حالة غضبه، والتفوه بكلمات جارحة للمقابل، وفي أحد الأيام وبخ مدير مكتبه توبيخا مخجلا جدا، ولكنه يهدأ بعد تناوله القهوة والسكائر، كان التدخين يمتص غضبه، وهو مدخن بإدمان. في أحد الأيام عام 1997 نزل الصحاف من مكتبه الى الطابق الأول في الوزارة الساعة الثامنة والنصف صباحا (بداية الدوام) ليراقب الموظفين المتأخرين عن الحضور، وكان من بينهم ( د. مظفر الأمين، مستشار)، وسجل احد الموظفين أسماء المتأخرين. عاد السيد الأمين الى المكتب وكان يستشيط غيضا من موقف الوزير، وقال هذا ليس عمل وزير، سأقدم استقالة وانتقل الى وزارة التعليم العالي، بعد حوالي نصف ساعة، اتصل مدير المكتب (حسان الصفار) بالأمين وقال له ان الوزير الصحاف يطلبك. ذهب الأمين، وعاد وهو يضحك، قلت له ما جرى دكتور؟ قال أمر غريب تحدث بلطف معي ولم يتحدث عن التأخير، وسألني ان كنت مرتاحا في العمل في مكتبه لا أكثر. قلت له: يبدو ان التدخين وفنجان القهوة امتصا منه الغضب.
في أحد الأيام كلف مدير مكتبه حسان الصفار أحد الموظفين في المكتب بجلب حصة الوزير من السكاير من شركة الدخان العراقية، وفعلا توجه الموظف يحمل كتابا موقعا من الوزير الى الشركة وقابل مدير عام الشركة، وسلمه الكتاب، فاعتذر بأن السيد الرئيس صدام حسين وجه بالتوقف عن صرف حصة السكائر للوزراء، فطلب موظف مكتب الوزير من المدير العام ان يهمش على كتاب الوزارة او يزوده بكتاب عن هذا الأمر، فعلا همش على الكتاب، وتقبل الوزير الأمر بشكل طبيعي، وقال هذا الأمر سوف يستهلك قسما غير قليل من الراتب.
عندما كانت تحصل مشاكل في السفارات العراقية بين السفير وبعض الدبلوماسيين او الإداريين، ويكتب السفير للوزير مطالعة عن الموظف بغية عقوبته او نقله، كان الصحاف يقرأ ما كتبه السفير بإمعان، ولكن لا يحكم على المسألة، حيث يقول لمدير المكتب (حسان الصفار) قرأت مطالعة السفير، لكني اريد ان أسمع الصوت الآخر لأصل الى الحقيقة، او يشكل لجنة تحقيقية بالحادث حسب حجمه وخطورته.
فعلا طلب احد السفراء نقل أحد الدبلوماسيين في دولة اوربية بنقله الى مركز الوزارة لأنه موظف فاشل، قام الوزير بنقل الموظف الدبلوماسي الى سفارة أخرى في اوربا، وكانت النتيجة ان السفير الجديد كتب الى الوزارة لتقديم كتاب شكر للموظف لكفاءته العالية، واعجاب الجالية العراقية بشخصه وسلوكه المميز وحسن تعامله، وغالبا ما يستشهد الوزير الصحاف بهذه المسألة. عندما تكون المشكلة بين السفير مع عناصر محطة المخابرات يدافع الوزير الصحاف عن السفير او القنصل، فهو يتعامل معهم كأب وليس كوزير. وغالبا لا يؤخذ بكتابات المخابرات عن بعض السفراء والدبلوماسيين في محطات السفارات.
أعجب من بعض الكتاب والسياسيين الذين ينتقدون الصحاف لأن بقي يدافع عن العراق لآخر نفس عندما تولى وزارة الاعلام خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، مع انه موقفه كان رائعا ويتناسب مع الحدث، فالوزير هو من يقرر الهزيمة والانتصار وليس رئيس الجمهورية، بكلمة واحدة عبر الاعلام يمكن ان يعلن النصر او الهزيمة، ويقرر مصير الحرب، لذا كان موقفه بطوليا حتى عندما وصلت القوات الامريكية قرب اقامته في (فندق المنصور ميليا)، وحُسم الأمر، غادر مقره، وتوقف عن إذاعة البيانات، كان الصحاف مخلصا للعراق ولقيادته، ربما يظن البعض اني مستفيد منه لذا أمدحه، لكن اقسم بالله بأني تضررت كثيرا خلال عملي خلال وزارته، ولم أستفد منه ولم يقدم ليٌ شخصيا أية ميزة، بل على العكس من ذلك. كان الصحاف يرفض الوساطات، ولم يعين أي من أقاربه في الوزارة، وكان أبنائه في قمة الخلق ولم يزوراه في الوزارة الا في حالات نادرة جدا، وكان ملتزما بحصة مكتبه من التموين (الشاي والسكر والقهوة) ولم يتعداه الى غيرها من المواد، ولأنه مدمن على الشاي والقهوة والحصة المقررة له من الدائرة الادارية لا تكفيه (توزع مرتان في الشهر)، فكان يطلب من الضيافة ان يأخذوا شيئا من موظفي المكتب، علما انه ليس لموظفي المكتب حصة تموينية من الوزارة بل يشترونها من حسابهم الخاص، وهناك أمور عائلية تعكس دماثة اخلاق اسرته وسوف نتعفف عن ذكرها، مع انها تعكس طيبتها ونزاهتها وحرصها على أموال الدولة.
ذو الفقار
740 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع