شعب الفاطمتين

                                    

                     د.جمال الحيالي الگيلاني

                 عضو مجلس النواب العراقي

       

بسبب ماحدث في اللطيفية أخيرا حيث يقول السنة ذبحنا .. ويقول الشيعة كذلك
وبسبب مايحدث من قتل واستهداف للعراقيين في معابدهم وملاعبهم وأسواقهم ومزارعهم ومساكنهم  أقول :


حين يذبح السني والشيعي مرة واحدة فهذا يعني أن العراق يذبح مرتين
وأقول للأعداء إفعلوا ماشئتم .. لن تستطيعوا لأننا :(شعب الفاطمتين)
 فاطمة ... إسم محبوب ومرغوب ومندوب له في تسمية البنات في البيوتات العراقية حبا واعتزازا بالبتول بنت الرسول صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم .
كيف لا تحب وتحترم ويخلد اسمها فهي بنت من ؟ وزوج من ؟ وأم من ؟
بالتأكيد العراقي لا يفكر في هذا  كثيرا لأن هذا الاسم متأصل ومتجذر في القاموس والوجدان ،وهو إسم ينتشر في العوائل والعشائر والطوائف  وفي كل المحافظات وهو اسم يجمع ولا يفرق ... هكذا كان العراقيون ومازالت تجمعهم أواصر وروابط ووشائج وأسماء لا تحصى  ولقد استعمل الأجنبي وسائط ووسائل وآلات وعنف وإرهاب ليحطم تلك الحلقات والأواصر الموصلة والمقربة بين أبناء البلد الواحد وقتل الكثير لأجل التقسيم والتفريق والتحريض .
أحببت أن أذكر قصصي مع هذا الاسم المبارك والمحترم والعزيز علينا ... كانت لي اخت اسمها فاطمة توفيت قبل ان تبلغ العامين من السنين فولدت أمي بنتا أخرى اسميناها زهرة ... وهذا الأسم هو الرديف والبديل عن فاطمة .. إذا بقى اسم البتول خالدا في عائلتنا ..إذا نحن بيت الفاطمتين .
وأخي الأكبر اسمه حسين والأصغر اسمه حسن ... إذا نحن بيت  خلد فيه اسم الحسنين وهكذا هي البيوت العراقية الملتصقة بالإسلام.
عذرا ضربت هذا المثال اعتراضيا وليس هو مدار قصتي هذه ..
تبدأ قصتي مع مديري في مستشفى تكريت التعليمي بعد أربع من سنين الاحتلال الأمريكي حيث  أبلغني بأن المدير العام لصحة المحافظة في حينها والذي كان يمتلك علاقات مميزة مع القوات الأمريكية يريد مجموعة من الاطباء ليذهبوا في صباح الغد إلى القاعدة الأمريكية المسماة سبايكر ( قاعدة تكريت الجوية ) ويحضروا مؤتمرا طبيا علميا مشتركاً وسيلقي بعض الاطباء الاختصاص الأمريكان محاضرات مهمة وحديثة .
ولابد لأحد أطبائنا ان يحضر بحثا او محاضرة ويعطي الصورة المميزة لكوادرنا وباللغة الإنكليزية طبعا ، وكالعادة وبسبب التبليغات التي تصلنا متأخرة اعتذر زملائي لعدم كفاية الوقت لتهيئة مثل هذا البحث او المحاضرة لان الوقت اقل من ٢٤ ساعة ،، فما كان من المدير إلا ألقى المسئولية على كاهلي
وقال بالحرف الواحد : هاي بشاربك وانت تستطيع ان تفعلها .
قلت : لكن هؤلاء أمريكان .. مو لعب كيف سأحضر بحثا علميا أو محاضرة
بالمستوى الذي يليق بالعراق أمام أرقى دولة في الطب ؟
قال : المهم هو إثبات الوجود .
قلت : حاولوا تغيير الموعد.
قال : سأتصل وأحاول .
وذهبت في نهاية الدوام إلى البيت وأنا افكر في موضوع وعنوان المحاضرة فلم استقر على شيء ،، وذهبت عصرا إلى عيادتي وبعد كل مريض أبحث في مكتبتي في العيادة عن موضوع واستغل هذه الدقائق المعدودات حتى يدخل المريض الذي بعده وعدت مساءا إلى البيت لاكمل بحثي في خزانة كتبي فلم افلح في إيجاد موضوع علمي حديث لان كتبي طبعت قبل الاحتلال و فات عليها سنوات بينما الطب  عبر مراحل وطفر طفرات .
وقبل منتصف الليل ...
اتصلت بالمدير وقلت : الم يتأجل الموعد ؟
قال : لا .. لأن مثل هذا الموعد يحتاج إلى موافقات عندهم وعندنا واستحضارات أمنية وهناك شخصيات من الداخل والخارج ولم يتسنى لنا تغيير الموعد حسب قولهم .
قلت : إذن .. نتوكل على الله ونحضر .. لكن ليس بالضرورة ان يكون لنا كلمة او محاضرة .
قال: بالله عليك .. حاول حتى لو سلايد او سلايدين .
قلت : تقصد بالحاسبة؟
قال : نعم .. وبور بوينت .. وملون .،، وإذا صور او فيديو معها بعد أحسن .
قلت :: شنو آني شركة مال مونتاج لو إخراج
قال : هذا الموجود .. وحاول ،، الله يخليك
فقلت في نفسي : كان المفروض أن أرفض كما رفض كثير من زملائي أما اعتراضا على الوقت او خوفا من التواجد مع الأمريكان أو عدم اكتراث بأي مجلس او مؤتمر علمي كما هو حال البعض .
لكني تذكرت شيئين :
الأول ؛ أنني مسئول ورئيس قسم
والثاني : اعتبرت ان الانسحاب خسارة لنا أمام محتل يتفاخر علينا بإنجازاته العلمية وتفوقه ،
فقلت في نفسي : لكننا. شعب عريق وتاريخ أعمق وأثبت من تاريخهم ونتفوق عليهم بأشياء كثيرة وعزمت أن أثبت ذلك في محاضرتي ،، لكن من اين أبدأ.؟!.
عدت إلى زواية خفية في مكتبتي فيها مفكراتي ومذكرا تي ... فقلبت أولا في مفكرات سنوات ٢٠٠٣ و٤ و٥ و٦
ولم أجد فيها ضالتي سوى حوادث ضد الإنسان العراقي على يد الأمريكان كنت أعلق عليها أما بشعر او تهكم او تدوين فقط وأمامها علامة استغراب او استفهام أو تعجب! .
إلى ان وقعت بين يدي مفكرة وهي عبارة عن سجل من الورق المخطط متوسط الحجم كنت أضعه في خزانتي في  صالة علميات  مستشفى سامراء وأدون فيه اسماء المرضى الذين أجري لهم عمليات وأثبت فيه بعض التفاصيل المهمة الخاصة بالعملية مثل غرابة الاستكشاف أونتائج الزرع النسيجي او المضاعفات وحتى الوفاة أسجلها وكنت أفاجىء المريض بتفاصيل نسيها عن حالته وتواريخ غابت عن ذاكرته وكان هذا السجل سلاحي ضد النسيان ولايقل عدد المرضى المسجلين فيه عن ٣٦٠ مريض سنويا.
هذا السجل يحمل أسماء وأعمار من دخل صالة العمليات من مرضاي وأخذ التخدير العام في زمن الحصار قبل الاحتلال وبعد الاحتلال إلى آخر يوم لي في سامراء قبل محاولة الاغتيال الفاشلة التي نجاني الله منها في سنة ٢٠٠٧ وحوصر بيتي ومكان عملي لأيام وغادرتها إلى تكريت مجبرا لا بطرا لأستمر بعملي ودوامي  بدون مشاكل .
وأنا أقلب أوراق هذا السجل مرت على عيني اسماء كثيرة ووقفت عند إسم فاطمة مرتين :
المرة الأولى؛ مع فاطمة العراقية السنية السامرائية التي أجريت لها عملية وهي في سن السبعين ورفعت من بطنها  ورم كبير هوعبارة عن كيس مبيض حميد  كان يضغط على الكبد والمرارة والأمعاء ويعيق عملها بسبب كبر حجمه  وكانت هذه العملية قبل الاحتلال .
والمرة الثانية؛ مع فاطمة الإيرانية الشيعية في عقدها السابع والتي جاءت إلى سامراء في عاشوراء لتزور الأئمة الأطهار عليهم السلام وفاجأتها طلقات نارية للقوات المحتلة مخترقة أحشائها .. لا لشيء إلا لأن السائق عبر الحاجز على الجسر دون أن يعلم أو يفهم إشارة الجندي للوقوف للتفتيش
وخلال لحظات ضرب هذا الجندي السيارة المليئة بالزوار بوابل من الرصاص دون مراعاة لما سيحدث
وكانت إصابة  العجوز  بليغة استوجب إجراء عدة عمليات لها  في الصدر والبطن في مستشفى سامراء العام ونقل لها الدم من متبرعين من أهل هذه المدينة الكريمة المعطاء (سامراء)
وبعد أن تم السيطرة على النزوف واستئصل الطحال وتم خياطة الكلية اليسرى وخياطة المعدة والأمعاء والحجاب الحاجز .وبزل الصدر ، استئصلنا المرارة التي كانت متيبسة وذابلة ومليئة بالحصى وخلال خياطتنا لجدار البطن وجدنا فتق قديم متروك تم ريافته وخياطته لتخرج فاطمتنا الايرانية من صالة العمليات بأتم عافية رغم ما أصابها والفضل أولا وآخرا لله .
ها نحن ذا نصلح ما أفسده الزمان وما يفسده المحتل برصاصه الذي حول الإصابات عند المدنيين العزل إلى إصابات حربية
وقلت ذلك في محاضرتي التي انتهيت من إعدادها على الحاسوب قبل الفجر
والتي عرضتها في المؤتمر صباحا وبينت الفرق بين الحالات التي كنا نعالجها في مستشفياتنا قبل وبعد الاحتلال واستخدمت الأرقام لأعداد وأنواع العمليات التي تجرى يوميا في المستشفى ، حيث كانت معظم الحالات الجراحية أمراض مدنية او إصابات بيتية او حوادث طرق وقليل منها مشاجرات بسبب نزاع قبلي او عائلي او حوادث طارئة في الأعراس والمناسبات  بسبب لا يتعدى استعمال آلات جارحة بيتية ونادرا ما تكون بأسلحة نارية تطلق نيرانها عشوائيا في الهواء وأندر منها نائمون عمدا .
أما بعد الاحتلال فيصلنا الطفل والمرأة العجوز والرجل  المسن بالإضافة إلى الشباب  ممزقة اشلائهم بسبب الصواريخ والقذائف والعبوات أ والأسلحة  التي انتشرت في كل مكان وبسبب الفوضى التي زرعت في بلادنا ومن وراءها المحتل .
وكانت قصة الفاطمتين دليلا لإثبات شيئين :
أن الفوضى والاضطراب والإرهاب بعد الاحتلال حول مستشفياتنا المدنية إلى عسكرية تتعامل  مع إصابات حربية تشمل كل الأعمار والأجناس ولم يسلم منها حتى الزوار .
والشيء الثاني على انسانيتنا نحن العراقيون في أدائنا الطبي والالتزام بمهنيتنا وانسانيتنا   في أحلك الظروف وأخطر الأماكن مثل سامراء التي ابتليت بمثل ماابتليت به مدن العراق وأكثر ،
وضربت مثلا على إنقاذنا لهذه المرأة الفقيرة القادمة  من ايران واجرائنا لعمليات إضافية لها كان من الممكن تأجيلها لكننا اعتقدنا أنها فقيرة الحال ولذلك تحملت فتقا كبيرا منذ سنين ومرارة عاجزة عن أداء واجبها بسبب الحصى فيها وذكرت أن الإنسانية ستبقى فينا مهما حصل وحدث ويبقى العراقي طبيبا لنفسه وطبيبا لغيره لا يفرق بين الأطياف والأعراق والأنساب والأديان
وأن العراقي لا يتمنى لأي بلد آخر أن يحتل ويصاب بمثل ما أصابنا لأنه ربما تخرج الشعوب عن انسانيتها وتنتقم ممن احتلها وقلت انظروا .. لم تسلم منكم المرأة أم السبعين ولكن لم تستطيعوا ان تخرجونا من انسانياتنا ولن تستطيعوا .. فنحن شعب عريق والأخلاق فينا متجذرة كتأريخنا.
وأخيرا .. صفق الحضور وعانقني معظمهم وأحسست أن رسالتي فهمت وإنني وفيت وأديت المطلوب مني .
وأخيرا : أنا أقصد ما أعني وأعني ماأقصد والمعنى في قلب الشاعر كما يقولون ولأننا شعب الفاطمتين فلذلك نذبح مرتين .
 
كتبه د.جمال الحيالي الگيلاني
 ١٢ أيلول ٢٠١٣
 ٧ ذو القعدة ١٤٣٤

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1007 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع