الدكتور صابر / خاطرة من ماضي الزمان قبل أن يطويها النسيان

                     

                   الدكتور/ عبدالرزاق محمد جعفر

                أستاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس

         

وجه الدكتور صابر سؤالا الى ذوي الاختصاص عن أسباب عدم توفيق شخص ما في عمله أو ما يسمى (بالنحس), الذي يلازمه بشكل مزري ومستمر, مسببا الإحباط المتدرج أو حتى الكآبة!,.. إلا أن الدكتور,..وبالرغم من خبرته العملية وقراءته العديد من كتب التربية وعلم النفس ,..

لم يجد جواباً شـافياً ، ولم يستطع استنباط الأسـسباب ولم يعثر على المبررات، وهكذا عاش كغيره من ملايين البشر في شقاء دائم، كما قال المتنبي :

ذوالعقل يشــقى في النعيم بعقله = وأخو الجهالة في الشـقاوة ينعم ُ!

ذ كر (سومرت موم)،" كل شيء في حياة الكاتب يمكن استخدامه في "قصة" , و لذا قررصابر كتابة بعضاً من خواطره المطمورة في أعماق حياته كقصة, بالرغم من أنه في أشد سنين حياته قلقاً وعتمة, ومع ذلك تمكن من طرح آلامه في كل حرف أو نقطة يكتبها، فهوالآن أعمى البصيرة !,.. وثقته بالناس أساس فشله في العديد من علائقه, ألا أنه وكما في المثل المصري : المعلم يموت وما يتعلم!,..ولذا فأن ما يود تدوينه في هذه الخاطرة ليس من أجل التسلية، بل لتقديم العبرة للغير و لتجنب المزيد من الانزلاق في بحر الحياة من دون الخنوع لأي أغراء بمنصب من حثالة المستبدين في الوطن! استعان صابر بما ذكره " شيرورد اند رسون" حول استخدام ما يبدو متناثرا ولا تربطه أي رابطة في حياتنا اليومية، في نسيج قصصي جميل من خلال التجارب التي تحدث أمام أعيننا، والعوائق التي تبرز بغير توقع، والتي نطلق عليها اسم (مطبات) , او ( النحس)! حصل الدكتور صابر على أعارة من جامعة بغداد التي عمل فيها أربعة سنوات, الى الجامعة الليبية في طرابلس في سبتمبر 1970 ولمدة سنتين بسبب ظروفه الخاصة,..فهاجر الى ليبيا


(الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الأشتراكية), في سبتمر سنة 1970     ..أي بعد سنة واحدة من ثورة الفاتح من سبتمبر بقيادة العقيد معمر القذافي أبو منيار .

               

معمر القذافي قائد ثورة الفاتح من سبتمبر

وبعد خدمة ثمانية عشرعاما كأستاذ جامعي في جامعة الفاتح في طرابلس, قدم أستقالته لكي يلتحق بعائلته المهاجره في أمريكا, وسافر الى تونس لتتبع تأشيرة الهجرة الى أمريكا للألتحاق بأولاده الدارسين هناك, حيث كانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الجماهيرية العظمى (ليبيا حالياً) وأمريكا بسبب مشكلة أتهام نظام القذافي بأسقاط طائرة البان الأمريكية فوق قرية لوكربي في بريطانيا, ولذا أطلق على الحادثة أسم لوكربي,.. وصارت هذه المشكلة : الشعرة التي قصمت ظهرالقذافي !

فشل الدكتور صابر في الحصول على ( تأشيرة الدخول الى أمريكا ), لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها !, ولم يوفق في العودة الى عمله السابق في وطنه الثاني ليبيا بعد خدمة ثمانية عشر عاماً وفق القوانين المعمول بها آنذاك, حيث لا يجوز للمستقيل من الجامعة العودة لعمله ألا بعد مضي ثلاثة سنوات, ولذا قرر الدكتورالبقاء في تونس العاصمة للبحث عن عمل في احدى جامعاتها, ..وبناءاً على نصيحة زميل له توجه نحو عاصمة الجنوب التونسي (صفاقس), حيث بدأ التعريب في جامعتها .

      

صفاقس عاصمة الجنوب التونسي

ما أن وصل الدكتورصابر إلى كلية العلوم في صفاقس حتى تعرف على دكتور تونسي ,وكان بالصدفة بنفس اختصاصه الضيق في الكيمياء غير العضوية!،.. فرحب به وقاده إلى مكتبه في القسم الذي يعمل فيه وطلب

منه الأطلاع على جميع وثائقه الثبوتية, ووعده بمواجهة المسؤلين و تقديم كل ما في استطاعته من مساعدة لتحقيق رغبته.

وبعد جلسة مسامره , توجه الدكتور صابر وزميله نحو وسط المدينة , ثم أعانه بالحجزفي فندق ممتازيتعامل مع الجامعة بأسعار مخفضة .

ودع الدكتور التونسي ضيفه بحرارة ,.. ووعده باستدعائه عندما يتضح قرارالعمادة ورآسة الجامعة . تعرف صابر مسـاء اليوم التالي على استاذة جامعية في الأربعينات من عمرها في بهو الفندق جاءت من مدينة اخرى لحضور مؤتمر دولي عن المياه, فصادها و أعجبت به كما قال: الأخطل الصغير:

بصرت به رث الثياب بلا مأوى بلا أهل بلا بلد

فأستلطفته وكان شفيعه لطف الغزال وقوة الأسد
وأضافة الى ذلك ,..فأن مودتها له نابعة من حبها للعراق وتالمها لأوضاعه المزرية, بسبب الحصارالجائرعليه بعدغزوه لدولة الكويت, مما جعل ذوي الدخل المحدود مغادرة الوطن والبحث عن مكان للرزق بعد أن صار راتب الدكتور الجامعي ما يعادل الـستة دولارات ($6 )!

تبادل الدكتور صابر مشاعره الجياشة مع هذه السيدة المفعمة بالأنوثة والحيوية ,..فأنتعش بمعيتها وكاد أن يتعمق بالحديث معها لولا تذكره أنه أستاذ جامعي وضيف محترم عليه الألتزام بأقصى ما يمكن لصد عواطفه أو قل ترويضها لغرض في نفس يعقوب! , وأستمر بينهما السجال حول سبب تأخر الأمة العربية أو قل تخلفها وخنوعها الأزلي للمستعمر!

شعرت الأستاذة الحسناء بلوعة الأستاذ الزائر ورغبت بأعطائه جرعة من المودة والحنان ,..فعرضت عليه التنزه بشوارع المدينة ، وهكذا ولأول مرة شعر الدكتور المتصابي براحة نفسية وهو يحدث امرأة تغمره بمودة لم يعهد مثلها, وهام بها ولها !,..وكأنه في حلم من احلام اليقضة لعدم تعوده على مثل هذه الجرأة بأختراق صومعة سيدة في ريعان شبابها ومزهوة بشموخ المرأة التونسية التي وهبها لها الراحل مؤسس تونس أبو ركيبه!

  

أبو رقيبه أول رئيس لتونس

أما هو فما زال يلوم نفسه معتبراً تصرفه شيئا مشينا!,.. بسبب ما اكتسبه من حشمة وتوجيهات بالأبتعاد عن الأنثى,وكأنها أفعى !

هكذا قضى صابر مع مضيفته التونسية,أمـسـية ممتعة وتبادل واياها شتى انواع الأحاديث,.. ثم اتفقا على تحديد موعد جديد للقاء في اليوم التالي ,.. ألا أنها سـافرت في الصباح الباكر من غير كلمة وداع ! بدأ الدكتور صابر الاستعداد لتأدية محاضرة علمية أما نخبة من أساتذة وطلبة قسم الكيمياء من اجل سماع محاضرة في الكيمياء باللغة العربية حيث التعليم في تونس يدرس المواد العلمية من الثالث أبتدائي حتى الجامعة باللغ الفرنسية ، حيث كانت تونس مستعمرة فرنسية منذ أكثر من 200 سنة , ومازال عامة الناس في المدن الكبرى يتحدثون فيما بينهم باللغة الفرنسية !

ألقى الدكتور صابر ثلاث محاضراتفي الكيمياء المتقدمة , وقد كتب لتلك الخطوة النجاح , حيث استمع الجميع ولأول مرة محاضرة في الكيمياء باللغة العربية !، وعلق أحد الجالسين لسؤال : ولماذا بالعربي ,..فقيل له : الأرض بتتكلم عربي! ,.. وبعد الانتهاء قابل الدكتور صابر عميد كلية العلوم بصفاقس ، ولمس لديه ترحابا حارا أشاع البهجة التي افتقدها منذ خروجه من العراق ,.. وبدأ يشعر بقيمته العلمية أمام العديد من أســاتذة قسم الكيمياء. زاول الدكتور صابر عمله بقسم الكيمياء كأستاذ زائر من دون مرتب لحين صدور الأمر الوزاري أي كما في المثل العراقي ( تشـريب بلا لحم),.. كما أن إقامته لحد الآن غير قانونية!،.. في حين الملايين من السواح الأوربيين يتوافدون على تونس من دون فيزة !,.. أما العربي فبصعوبة جمة يحصل على الفيزة ,..وبعد عدة مراجعات ,.. كتبت له عمادة الكلية رسالة إلى دائرة الهجرة تعلمهم بحاجتها لعمل الدكتور صابر في البحث العلمي والتدريس باللغة العربية لطلبة السنة الأخيرة في الجامعة. تمكن الدكتور صابر من تأجير ستوديو مؤثث (مشتمل),.. فقد ضجر من السكن في الفنادق و الأكل في المطاعم,.. ووجد الترحاب من مالك الشقة و عائلته و صار واحدا منهم على الفور , فأقيمت له الولائم بالأكلات التونسية , وغمرهم هو بالهدايا على الطريقة العراقية! في تلك الآونة تعرف الدكتور صابرعلى صديقة زوجة صاحب المشتمل , وكانت شابة وسيمة تدرس الأدب لنيل الماجستير في كلية الآداب في صفاقس... وعلم أنها مطلقة منذ سنتين ,..وتعيش حياتها الخاصة بعيدة عن عائلتها في الريف التونسي.

وجد الدكتور صابر في هذه العلاقة بعض السلوى، لكون الفتاة متحررة أجتماعياً ، ولن تساومه بالزواج بمجرد أبداء أية مشاعر عاطفية نحوها,..إضافة لعلائقها الوثيقة بزوجة مالك الدار التي تـسهل دخولها وخروجها من دون أحراج أو القيل والقال أي من دون "أن أو أخواتها "!

لم يتعمق الدكتور صابر بمشاعره مع هذه المرأة ,..أي مازال معها مجرد صديق,او كما يقال في المثل الشعبي العراقي : يابسه و تمن !

كثرت زيارات الصديقة وبدأت حرة في تصرفها معه في شقته عند تجهيز عشاء خفيف في داره ,..ونزعت عن تصرفاتها كل حشمة ,..وأنتعش الدكتور لمودتها نحوه , ألا أنه بدأ متخوفاً من أن يكون تصرفها يهدف للزواج لتعوض زواجها الفاشل ! لم يتقبل الدكتور صابر تصرفاتها البعيدة كل البعد عن الأعراف التي تطبع عليها، وقد تكون مشاعرها نتيجة نشأتها أو فشلها بزواجها المبكر!

بدأ الدكتور صابر يصطنع البرود في علائقه بها بعد كل لقاء !,..ويكتم مشاعره العاطفية نحوها مردداً مع نفسه : هذا مو بيت الفرس!,.. ألا أنه كان منهاراً في فرارة نفسه ,..لأنها تمتاز بمؤهلات مغرية ، .. فقوامها البهيج وحركاتها المفعمة بالجنس من المحال مقاومتها !

رضى الدكتور صابر بتلك الزمالة لقتل الفراغ في حياته و للمتعة التي يحسها عند تواجد أنثى بمعيته وهي في أبهج هندام,..تبادله الحديث في غنج , فتثور فيه براكين الشباب المطمورة, فتلتهمها عيونه قبل فمه! ويسرح بخياله عندما يتبسـمر نظره في تضاريسها وبشرة جلدها ووجهها المشرق والمتدفق حيوية وشبابا! لم يتمالك الدكتورصابر القدرة على ضبط أعصابه مع تلك المرأة المتحررة ولا يدري كيف السبيل إلى ترويضها ، فهي مازالت هائجة ، لأنها لم تجد بعد من يروي ينبوع أو قل ينابيع عواطفها، إنها عطشى منذ أن تحطم الحب الوليد ,ولكن ما العمل؟,.. ما من أحد يفهمها !

لمـس الدكتور صابر تجاوباً عندها لتعميق علاقتها معه،ولكنه تخوف من تلك العلاقة التي قد تؤدي الى تفكيك أسرتهالتي تنتظره في المهجر. وهكذا عاش صابر تلك الأيام من عمره وهو بكنف خريف العمر او قل العتبة الأخيرة من عمره ، ولا أحد يدري إلا الله ، إن كانت هذه العتبة قادرة على الصمود حتى يتمكن من الإستناد عليها، لكي يتسلق العتبة الموالية,.. أم أنها ستنهار في لحظة ما ؟

عاش الدكتورصابر كشيخ غيرمراهق مفعماً بخواطر من ماضي الزمن وقد آمن بشكل قاطع بأنه مسير وليس مخير,..وأن حياته منذ الصغر مفعمة بحوادث تثبت ما يعتقده!, وكما قال الشاعر شفيق الكمالي:

مشيناها خُطاً كـتبـت علينا = ومن كُتبت عليه خُطاً مشاها !

أستقر الدكتور صابر موقتا في تونس الخضراء,.. البلد العربي الذي تطبع لحد ما بواقعية متزنة، فشعر بالإنتعاش والدفئ لدماء الشباب المطمورة في"وحل الرجعية "، فنمت عنده الأحاسيس من جديد كنمو زهرة في الشتاء ، أو قل كما تنبت شجرة الصبير في الصحراء ، فأخضرت نفسه من دون قناع ولم يتهمه أحدا " بقلة الأدب" وتمكن خلال فترة قصيرة أن يصادق العديد من سيدات الجامعة و بحدود اللياقة والأدب ، وتجول معهن في شتى المرافق العامة في المدينة وتبادل دعوات للسـهرة مع عدة نسـاء من الوسط المثقف, وتبادل مع إحدى زميلات المهنة مشاعرا لم تقترب " لشاطئ الغرام " فقد كان إعجابا ، ثم اقترب منها عند المرسى المحرم , أمرأة من الوسط المثقف / ليسانس أدب عربي وبسبب تجاربها الفاشلة قررت أن تبتعد عنه, حتى لا يغرق في حب بلا أمل كما غرق غيره ,.. ودست له القصيدة التالية :

قالت ملعونة انا ولست بقادرة على انقاذ,... الغريق

فقد وهبته زهرة حبي وصرت عاجزة عن الشهيق

تألمت لحاله ولعنت حظه فأنا اريده روحاً,.. فيها عبيق !

وقلت له ما زلت لم تفهمني فلست بقادرة ان اهبك الرحيق

فأنا تعيسة كئيبة اضاعوا صباي واستغلوني كالرقيق !
  

   

المجد للحب الصادق:وغداً ننسى ولا نأسى على ماض تولى!

أبو مالك

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

947 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع