الملك المكلوم: ج٤ زفرة العربي الأخيرة


خالد الدوري

 الملك المكلوم: ج٤ زفرة العربي الأخيرة

نكاية بآخر ملوك الأندلس:
التاريخ الأندلسي للأسف الشديد فيه الكثير من الشبهات والأباطيل. ومصادره غالبًا مصادر غربية، ولا تسعفنا المصادر العربية والأندلسية إلا بالنزر اليسير، ولهذه الندرة أسباب لا مجال لذكرها هنا. وعلى أي حال، تَحَدّثت الروايات الغربية عن بكائية إسطورية، تصور اللحظات الأخيرة للمَلِك العربي ألأندلسي أبي عبد الله الصغير محمد بن الأحمر، واقفًا على روابي غرناطة وهو يرمق بحسرة قصر الحمراء، ومملكته غرناطة، مجتازًا نحو المنفى، في تلك البقعة التي أطلقوا عليها مسمى: "زفرة المورو"، أي زفرة أو تنهيدة العربي. حيث تقول الرواية: إن أبا عبد الله بعد ان سلّم مفاتيح غرناطة، آخر إمارة اندلسية الى ملك قشتالة الكاثوليكي، ثمّ همّ مغادرا تلك المدينة رفقة عائلته وحاشيته، صعد ربوة من تلال البدول تطلّ على غرناطة وحمرائها، وهو يطالع المدينة من بعيد، ويبكي حسرة على ملك ضاع. ثم زفر زفرة مهموم، ونفث نفثة متحسر،على ضياع المُلك وانقراض الدولة ... وتشير القصة الى ان أمّه السيدة عائشة لمّا رأته في هذه الحالة المزرية خاطبته موبخة بكلمات قاسية وقالت تلك الجملة الشهيرة التي يحفظها الكثير، والواسعة ألإنتشارا، حتى غدت ملاصقة لشخص أبي عبد الله في الأذهان: (إبكِ كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال).(1)
وتُخلد المدينة إلى الآن، المكان الذي قيل إن أبا عبد الله بكى فيه. بنصب تذكاري وجدارية صغيرة موسوم عليها (ٍSuspiro del Moro) ”تنهيدة المورو، أو زفرة العربي ”.(2).
وهكذا تُختَزل قصة الإبداع الحضاري والعبق التاريخي، ويسدل الستار على غرناطة والحمراء في رجل يبكي وأمه المسيطرة عليه تُبَكِّته وتوبخه بكلمات جارحة!.
تُرى ماهي حقيقة ما يروى عن هذا البكاء، وتقريع وتوبيخ الأم المُحِبة لإبنها، بمقولتها الشهيرة القاسية والمهينة؟.
1- تقول تحقيقات عدد من المؤرخين ان هذه الرواية لا أصل لها، ولا سند لها على أرض الواقع. وهي اسطورة من الأساطير إستأنس لسماعها الكثير، واستحسنوها حتى جرت على ألألسنة، وسُطّرت في المؤلفات كحقيقة تاريخية، ورسخت في الوجدان. لتصيب سمعة وتاريخ رجل وتتجني عليه، مستبعدين إحتمالية أنه لم يبكِ قَط، ولم توبخه والدته في ذلك المشهد المُهين.
2- هذه القصة الزائفة لا وجود لها في المصادر العربية ، وإنما هي مقتبسة من المصادر القشتالية وفيها الكثير من التناقضات والتشويهات التي قد تكون متعمدة. والمنتصر، مزهوًا بإنتصاره، يؤرخ كما يريد ويرغب.
3- حتى المصادر القشتالية، تختلف في اسم والدة ابي عبد الله، هل إسمها فاطمة أم عائشة بنت محمد بن الأحمر وملقبة بعائشة الحرّة(3)، فالبعض يجزم ان اسمها فاطمة. وهذا الإختلاف يضعف مصداقية الرواية. وعلى أي حال، لا يمكن ان يصدر عن ألأم مثل هذا القول الجارح لإبنها المحبوب لجملة اسباب أساسية. ألأول: أنها كانت تحبه حبًا جمًا، وناضلت كثيرًا من أجل ضمان حقه في المُلك، وسندته في مهام ولايته وإدارة دولته. فلا يمكن ان يصدر توبيخًا منها له، فهذا يتنافى مع حبها الشديد له. وثانيًا: أنها هي بذاتها كقيادية حازمة، لم تكن بعيدة عن الميدان السياسي والريادي في بلاط الحكم. فمصاب إبنها هو مصابها. ولم يعرف عنها انها إنتقدته أو أشعرته بالتقصير في جهاده ونضاله خلال سني حكمه لمملكة غرناطة. وثالثًا: عرفت السيدة عائشة بحضورها القوي وبرجاحة عقلها. والموقف هنا أولى أن يكون موقف المواساة والتخفيف، لا التهكم والتوبيخ.
لقد وصفت مديرة المركز الفني والأدبي والعلمي بغرناطة سيليا كوريا كونكورا Celia Correa Gongora شخصية عائشة بأنها: هي ربما واحدة من أكثر الشخصيات جاذبية وغموضا في تاريخ مملكة بني نصر. لقد أجمع كل المؤلفين على اعتبار عائشة واحدة من أعظم النساء هيبةً وسلطةً في غرناطة خلال أواخر القرن الخامس عشر(4).
4- لا تعدو أن تكون القصة نوع من التكهنات، إذ من المستبعد أن يكون أبو عبد الله ضعيفًا منهارًا بهذا الشكل الذي تصوره الإسطورة. فلو كان كذلك لما استمر في حربه لأعداءه لقرابة عشر سنوات كاملة، حكم فيها مملكة غرناطة فترتين بين عامي (1482- 1483م) و(1486- 1492م).
5- شيء آخر يؤكد ان قصة "زفرة العربى الأخيرة" مختلقة وهو أنّ المصادر القشتالية تختلف فيما بينها عند سرد تفاصيل هذه الإسطورة في تحديد الزمن، والموقع الذي قيل ان أبا عبد الله بكى فيه. ففي حين تشير بعض الروايات الى انها حدثت على احدى هضبات غرناطة في الطريق المتجه الى موتريل أثناء الرحيل نحو المغرب.تتحدث البعض الآخر الى انها حدثت في مرتفعات البدول متوجهًا نحو مكان الإقامة الجديد في البُشرّات. وتذهب بعض الرويات الى أنها حدثت في قصبة الحمراء اي في مركز الحكم، المكان الذي يُعتبَر الأكثر حركة ونشاط وحيوية في غرناطة. وهذا الإختلاف الكبير يشكك قطعًا في صحة ومصداقية القصة.
6- أنّ أبا عبدالله لم يمر عبر الطريق القديم بين غرناطة وموتريل وهو الطريق الذى فيه الشاخص اليوم، حيث تنسب الإسطورة أنه توقف فيه. إذ بحسب ما قدّم الكاتب الغرناطي ليوناردو بيلينا (Leonardo Villena) في كتابه "الزفرة الأخيرة للملك بو عابديل" مايفيد أنّ: «أبا عبدالله توقّف مرّة واحدة لمشاهدة غرناطة من بعض المرتفعات الجبلية للبدول Pedul من باب المنار، لأنه من هنا أخذ يتفكر فى طريق البُشرّات»، والبُشرّات (5)هي المكان الذي سيكون مقر إقامته الجبرية بعد أن يغادر الحمراء، قبل ان يُرَحّل لاحقًا الى بلاد المغرب العربي، لينتهي به المطاف في مدينة فاس. فهو أساسًا لم يذهب من الطريق الذي فيه الشاخص التذكاري الموجود حاليًا، والذي يشيرون ان القصة وقعت فيه.
7- على إفتراض صحة الموضع الحالي والذي يطلق عليه "موضع زفرة العربي" وان البكاء والتقريع حصل فيه، ولكنه في الحقيقة موجود على رابية بعيدة جدًا، ولا يمكن لأبي عبد الله رؤية غرناطة وقصبة الحمراء من فوقها، كي تثير شجونه، وليندب حظه في فراق مملكته.
8- يعزو ليوناردو بيلينا فبركة هذه الرواية للمؤرخ الفيلسوف الواعظ المستشار اسقف قادش وموندونيدو أنطونيو كيفارا Antonio Guevara (المولود عام 1480م، والمتوفى عام 1545م) رواها من وحي خياله في صيف سنة 1526م، للإمبراطور شارل الخامس امبراطور الإمبراطورية الرومانية، تضخيمًا لإنتصاراتهم ولإثارة الحماسة والحصول على الحضوة والموثوقية عند الأمبراطور. الذي كان في غرناطة لقضاء شهر العسل بعد زواجه من إيزابيلا البرتغالية. وهذا يعني انها قيلت بعد 30 عامًا من تنازل ابي عبد الله عن الحكم. وادعى أُسقف قادش أنه سمع القصة من أحد مورسكيي حاشيته، وذكرها في الرسالة رقم 19 في كتابه "رسائل مألوفة" Epistolas familiares الذي نشره عام 1539م في بلد الوليد. ولعل إنتشار القصة على الصعيد الشعبي والأدبي، جاء بدواعي تثبيط عزيمة مسلمي الأندلس بشكل أكبر، ونشر إحساس الاستسلام والهزيمة بينهم. وساهم الزمن في تطور الرواية الإسطورة فأقيم لها على احدى الروابي شاخص تذكاري.
جدير بالإهتمام أن هنالك من إعتبر الاسقف هو الأب الروحي للفكرة العنصرية القائلة بتفوّق العنصر الأوروبي على الشعوب الأخرى، وأنه داعية ضرورة تطهير إسبانيا من المسلمين ومن الغير مسيحيين بصفة عامة كاليهود مثلاً، وهي افكار مهدت لقيام محاكم التفتيش بعد حين من الدهر. فالقصة وفق ليوناردو بيلينا غير صحيحة وليس لها اي واقع أو سند تأريخي.
وقدمت اندريا موراليس هي الأخرى رؤيتها في ان القصة غير صحيحة وأنها أختُلِقَت بعد السقوط بزمن طويل. ولكنها تذهب الى أنّ واضعها هو الأب إتشيفريا Echevarria في مؤَلَّفه "نُزهات غرناطة" Los paseos de Granada عام 1764، أي بعد 3 قرون على احتلال غرناطة.(6)، وقد برزت وإنتشرت بشكل كبير بفعل المسرح واللوحات الجدارية الفنية. ولكونها حدث تراجيدي يلامس المشاعر، فيصبح من السهل أن تترسخ في الذاكرة الجمعية والجَماعية.
فعندنا إذًا أكثر من بحث لمؤرخين إسبان معاصرين، يصرحون بعدم صحة قصة أو إسطورة زفرة العربي الأخيرة. على اننا نلاحظ، أنّ هنالك فاصل زماني كبير بين الشخصيتان اللتان روتا القصة الإسطورة: أولهما: اسقف قادش انطونيو كيفارا. وثانيهما: الأب إتشيفريا. ولكن يمكن التوفيق بين الرأيين. فكون الرواية ذاتها تنقل عن شخصيّتين دينيّتين ضمن السلك الكنسي، فالإحتمال وارد في أن الرواية حظيت بصدىً ما في المنظومة الكنسية، وأن مبتكرها هو الأب انطونيو دي كيفارا، وأن الأب إتشيفريا نقل القصة من سلفه أنطونيو، وأثبتها في كتابه "نزهات غرناطة". الذي إطلعت عليه المؤرخة أندريا موراليس. وعلى أي حال فالقصة الإسطورة من أساسها مُلفقة، ولا تعدو أن تكون موروثًا شفويًا متداول، لا يتجاوز في إختلاقه الشخصيتان اللتان مر ذكرهما، ولا سند يوثق روايتهما على أرض الواقع.
الأسطورة مُصاغة لتعطي انطباعان متضادان يَصُبّان في تمجيد القوى القشتالية المنتصرة:
الإنطباع الأول: أنها وُضِعت للتقليل من شأن الإرث الذي تركه أبي عبد الله الصغير، ولتشويه شخصيته، من خلال رسم أجواء تنتقص من قدره وشجاعته. وتُصَوّره بشكل المَذلول المُهان. المطرود المحطم نفسيًا، الذي تسيطر عليه إمرأة توبخه. وتوبيخ إمرأة لرجل عربي قائد، مما تأنف النفوس العربية تقبله. وبهكذا سيناريو تزداد قتامة الصورة مأساوية ومرارة في الموقف الذي يراد لأبي عبد الله محمد الصغير أن يوضع فيه.
والإنطباع الثاني: مايوحيه الوجه الآخر المعاكس للصورة. على الجهة الأخرى للموقف، حيث يراد ابراز الشعور بقوة وعظمة النصر الذي احرزته دول الشمال الإسباني، ذلك ألإنتصار الذي الجأ الملك المخلوع ليقف ذلك الموقف المنكسر الذي يرثى له. وما الشاخص الذي وضع كعلامة لموضع زفرة وتنهيدة العربي الأخيرة والذي يمر عليه من يمر من السائحين والباحثين وغيرهم، إنما وضع ليرمز في الحقيقة لقوة الملك القشتالي، وضعف الملك العربي.

الخلاصة:
لقد قَصَّر التاريخ بحق ابي عبد الله محمد بن علي، فلم يُفصح كثيرًا في الحديث عنه. لقد كان أكبر من ان يتم تجاهله أو إستصغاره. ونستبعد حدوث قصة بُكاءه، كما نستبعد توبيخ والدته له. فالقصة كما يبدو من نتاج خيال الأسقف المؤرخ، المستشار، أنطونيو كيفارا، وتناقلها المؤرخون عنه "وهذا شأن المنتصرين" غالباً ماينساقون الى تسجيل المبالغات والأساطير، مما يعجب السامعين سماعه، ويعجب القرّاء قراءته، بغض النظر عن مصداقية ما يُلقونَ ومايكتبون، سواء أكان حقيقةً أم خيال.
لقد تلقف المؤرخون والباحثون العرب والمسلمون هذه الجملة وقنعوا بتردادها، لأنها تعفيهم من عناء البحث عن الأسباب الحقيقية و المنطقية لسقوط الحضارة ألأندلسية العريقة. وليتركوا الحبل على الغارب، ليتحمل التبعة رجل ضعيف مهزوز يبكي كالنساء، اليست أمه اقرب الناس اليه من حمّلته التبعة؟!.
لقد كان قَدَرُ ابي عبد الله الصغير محمد بن علي - بما له وما عليه-، كان قَدَره ان يكون الملك الأخير لآخر حواضر الأندلس التي كانت تختتم تاريخها الزاهي في شبة الجزيرة الأيبيرية.
أما رسوخ فكرة زفرة العربي الأخيرة في الأذهان، جيلاً بعد جيل، فلأن القراء والمؤرخين والمعلقين على حضارة الأندلس يميلون لصنع سيناريو لختام تاريخ الأندلس بتراجيديا حزينة كئيبة يتناسب معها البكاء على المملكة المفقودة، مقرونة بزفرة وتنهيدة ودموع حارة تنهمر من عيني أبي عبد الله آخر ملوك الأندلس، ليسدل الستار على تاريخ ثمانية قرون، وماض ساحر خلاب.


المصادر والمراجع:
(1) مدونة صلة الرحم بالأندلس/ اساطير حول ابي عبد الله الصغير /23 يونيو 2013م.
(2) المورو تعني العربي المسلم، وعموم سكان شمال أفريقيا. وتطلق اليوم على سبيل التحقير.
(3) وسميت بعائشة الحرة لمواقفها القوية.
(4) كتاب "غرناطة الخيالية" Granada imaginaria الذي تعاون فيه 8 باحثين و كُتاب إسبان, وسيليا كوريا كونكورا واحدة منهم.
(5) البشرات او البُشارات منطقة تاريخية غير ساحلية في جنوب اسبانيا ، جنوب جبال سييرا نيفادا وجزء منها تابع لمملكة غرناطة.
(6) عن موقع: صلة الرحم بالاندلس. أندريا موراليس مؤرخة متخصصة في القرون الوسطى و في تاريخ الأندلس. مزدادة عام 1995 في إشبيلية في حوار بعنوان: ليس صحيحا أن والدة أبي عبد الله قالت له "ابك كالنساء ما لم تعرف الدفاع عنه كرجل" / صحيفة الموندو الإسبانية/ بتاريخ 14 يونيو 2022. أجرت الحوار سيلفيا مورينو/ ترجمة هشام زليم.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1536 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع