شجاعة مانديلا.. فى زمن " ما ننطيها "

                                

                          علي حسين

يتحول بعض السياسيين والحكام في مرحلة تاريخية معينة الى مرايا تعكس لنا صورة عفوية للتحولات الكبرى التي تحدث من حولنا..

فمنذ ايام وصورة الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا وهو على فراش المرض تسرق الاضواء من صور معظم الاحداث التي تجري في العالم .. ، ففي واحدة من المواقف المؤثرة شاهد العالم كيف يصلي ابناء جنوب افريقيا البيض قبل السود من اجل ان يتمتع زعيمهم التاريخي بالصحة، فالكل يدرك جيدا ان وجود الرجل العجوز بينهم هو ضمانة لكل السكان بكل الوانهم واطيافهم وقومياتهم ودياناتهم، المئات يجلسون امام المستشفى وعيونهم على الابواب يسألون عن صحة الرجل الذي جنبهم حروب الثأر والضغينة.
في مقدمة كتاب "حوار مع نفسي"، وهي نصوص قصيرة بقلم مانديلا، يكتب الرئيس الاميركي باراك أوباما، أن "مانديلا عاش في غابة السياسة، وكان له نصيبه من الضعف الإنساني، وفيه العناد والكبرياء والبساطة والاندفاع، ووراء سلطته وقيادته الأخلاقيتين كان يخفي دائماً سياسياً متكاملاً وقد ارتكزت منجزاته العظيمة على براعته وإتقانه السياسة بمعانيها العريضة الواسعة”.
سحر مانديلا العالم بتواضعه، وبعفوه الدائم وبابتسامته السمحة التي دفعت ملكة بريطانيا ان تخالف البروتوكول فتقرر الوقوف في باب القصر لاستقبال الرجل الذي قرر ذات يوم ، وفي هدوء ان ينهي سلطة الرجل الابيض على القارة السمراء، وقبل ان يسحر مانديلا رؤساء وملوك العالم كان قد سحر سجانيه البيض الذين ظلوا خلال سنوات سجنه الطويلة يهربون له القهوة والشاي والطعام الخاص بهم.
مانديلا الذى أسقط أخر واخطر واجرم الأنظمة العنصرية، اكد لمواطنيه أن إقامة العدل أصعب من هدم الظلم، وأن بناء الدولة بعد التحرر أصعب من إسقاط النظام الظالم، وأن البناء يحتاج إلى الجميع، ولايمكن بناء الدولة بأيدى فصيل أو قبيلة أو لون أو عرق، بل الكل .
مانديلا ظل يؤمن بان التوجه نحو المستقبل اهم من الغرق في تفاصيل الماضي . ولهذا عارض مطالب شعبه من السود بالتفرغ للانتقام فيكتب في مذكرته : " وكان الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية" وبضيف : " تحول لهفى على حرية قومي إلى لهف على حرية كل الناس، البيض منهم والسود.. كنت أعلم أن حاجة الظالم إلى الحرية، أمس من حاجة المظلوم، فالذى يسلب إنسانا حريته، يصير هو نفسه أسيرا للكراهية والحقد، يعيش وراء قضبان التعصب وضيق الأفق.. إن الظلم يسلب كلا من الظالم والمظلوم حريته "
قبل سنوات أجرت معه مجلة التايم حديثا عن أهم دروسه فى القيادة ، قائلا : " إن الشجاعة لا تعني إنعدام الخوف … إنما تعني تشجيع الآخرين لتجاوز الخوف .. احرص على وجود أنصارك بقربك، ومنافسيك أقرب إليك " ، لم يستبعد أو يسحق منافسيه بل رآهم شركاء. أما أهم دروسه فهو أنه : " لا يوجد فى السياسة إما- أو.. فالحياة أعقد من أن تأخذ حلا واحدا، فلا شىء اسمه الحل الوحيد، بل خليط من الحلول تصنع معا حلا صحيحاً ولهذا فالتراجع وقت الخطأ من صفات القائد، ويعترف أنه تراجع واعتذر عن قرارات أثبت الواقع خطأها
ينام مانديلا في المستشفى مطمئنا لانه ترك بلاده في تصالح مع المستقبل. لم يطلق النار على المتظاهرين. لم يشتم معارضيه او يخونهم، لم يطلب من الناس ان تهتف بحياته، لم يوزع ثروات بلاده بين مقربيه.. لم يتستر على فاسد.. ولم يضطهد اصحاب الكفاءات.
لعل التجربة السياسية لزعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا تستحق من كل الساسة في العالم وأولهم حديثو التجربة في العراق أن يطالعوها، فالرجل الذي أمضى نصف عمره في زنزانة انفرادية،توقع المقربون منه أن خروجه من السجن يعني أن لحظة الثأر قد حانت، لكنه لم يحقق لهم مبتغاهم ودعا الجميع إلى نسيان الماضي مؤكدا أن “الإنسان الحق هو ذلك الذي لا يكرر خطأ الظلم الذي ناضل كي يرفعه”.
أما نحن بالرغم من أننا شعب دفع تحضيات كبيرة من اجل التغيير ، وعانينا من الظلم والتفرقة، الا اننا نرى اليوم من يسعى لشق صفوفه هذا الشعب وتقسيمه، إلى سني وشيعي ، كردي وعربي ، مسلم ومسيحي ، ، ونجد كل يوم ساسة يخترعون لنا الكراهية بكل أشكالها. فيما لايزال العجوز مانديلا الراقد فى الخامسة والتسعين يقدم دروسا فى السياسة والتسامح والحرية، لحكام يرفعون شعار " جئنا لنبقى "
أتمنى ان ينظر ساستنا الى صورة الرجل العجوز وهو في المستشفى يبتسم لزائريه ليتعلموا أن السياسة هي فن المحافظة على الشعوب، لا فن التلاعب بأقدار الناس، وان الحكم لا يعني أن يقول مسؤول البلاد للآخرين إننا حصلنا عليها "وبعد ما ننطيها".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

691 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع