إختفاء السيد الوزير!!

                                   

                        د.سعد العبيدي

لم يهدأ السيد عبد الواحد ليلة العاشر من نيسان 2003، تأكد بحدسه الذاتي زوال نظام الحكم، وانفتاح ابواب الفرص على مصاريعها. الفرص والابواب يعرف فتحاتها جيدا، يشم رائحتها المميزة جيدا، فحاسة شمه المصلحي قوية من تلك الايام التي كان فيها محسوبا على العائلة الحاكمة، سكرتير وزيرها القوي، حارسه الشخصي في أوقات الشدة.

لم يطفأ محرك سيارته البرازيلي العتيقة طوال هذا اليوم الذي تذكر فيه ضباط يعملون في المعارضة، عادوا توا الى البلاد. توقف أمام المقر المعد على عجل في أحد الدوائر العسكرية بمنطقة الزيونة التي تركها منتسبيها قبل أيام. هتف مرحبا من الباب الخارجي، مُشيدا بجهود العميد مجيد في تحرير العراق، رافعا كلتا يديه الى الله، داعيا أن يحفظه قائدا من أجل العراق.

تقدم خطوة، أخذه بالاحضان، مثل حبيب يأخذ حبيه بعد فراق طويل. قبل أن ينهي أخر قبلة من بين الاربعة التي اعتادها سبيلا الى التقدم من الاعلى خطوات، وَمَضتْ في ذاكرته فكرة، "سيكون للقادم شأن في العراق الجديد". هو ضالته، ومن سيتبعه مسلكا في الطريق الجديد. هكذا هو، صائد فرص كبير، يوم كان ضابطا بسيطا، سكرتيرا للسيد الوزير، مخلصا له، أمينا لعائلته، يتغنى باسمه في المنام. يَصرفُ حماياته أوقات الخلوة، يمسك بدلا عنهم بندقية، يقف في باب الخلوة، حارسا مخلصا، أمينا. يشعر نشوة المنتصرين في معارك القادسية، اذا ما خرج الوزير من خلوته، ورآه واقفا، هيئة تمثال لا تهزه الريح. يحس فرح الاطفال العابثين في ابتسامة الرضا والامتنان، والأشادة بالتفاني، خدمة للعائلة وقادتها الكبار. يصر على البقاء في مكانه يقضا، لا تؤثر فيه أصوات كؤوس يتبادلها الرفاق، ولا تثيره أجساد الحسناوات بملابس السباحة، حور بلا قيود، ولا العطور الباريسية التي تفوح بمرور احداهن قريبا من باب الخلوة.

 

يطمئن بنفسه عليهن جميعا، أكثر من اطمئنان القائد الناجح على جنوده المقاتلين. يتبنى أصطحابهن من بغداد بطائرة سمتية أيام الجمع حتى الهبوط في دار الاستراحة المشيدة في أثل البصرة الشهير. يرتب عودتهن سالمات قبل أنتصاف السبت، فحرب القادسية قائمة، مفاجئاتها قائمة، أصوات مدافعها تسمع قريبا من الدار، خطرها على البنات يفوق الخطر الماثل على مقاتلي الحافات الامامية. أوامر السيد الوزير واضحة، لابد أن تعود الحسناوات الى بغداد سالمات، ولابد أن يقوم الضابط عبد الواحد بانجاز المهمة التي أعتاد انجازها اسبوعيا، وأعتاد الاشادة في طريق العودة بمواقفهن الداعمة لمعنويات القادة في حرب، باتت قرابينها تدمي القلوب.

لم تغمض عينا العميد المتقاعد عبد الواحد هذه الليلة، لقد جافاه النوم. الساعات التي أنقضت كأنها سنين، أفكار تأتي في مخيلته وأخرى تروح، يستقر منها على السطح العالي للذاكرة، ما يتعلق بكيفية أقتناص الفرصة التي حضرته سهلة يوم أمس. يأتي الصباح، يرتدي بدلة رصاصية، وربطة عنق حمراء، أحتفظ بهما نظيفتين آخر أيام الخدمة العسكرية، قبل أحالته على التقاعد. لم يستطع تناول افطاره، كان مستعجلا، غارقا في الدهشة، له موعد مع ضباط متقاعدين آخرين أمّلهم بعطف القائد السياسي، وأملهُ بتقديمهم دعاة مناصرين. يجتمعون قرب المركز الترفيهي الذي احتلته أحزاب أخرى، يتقدمهم الى المقر، الذي لم يمتلأ مثلما أمتلأ صباح هذا اليوم. دخل مبتسما، يُسلم على كل واحد من الموجودين بحفاوة غريبة. يؤكد بحركات يديه الولاء المطلق لهذا التنظيم العسكري المعارض ولقائده العظيم. يستعرض بكلمات منمقة امكانياته غير المحدودة في التأثير بالساحة العسكرية، وقدرته العالية في جلب المزيد من المؤيدين والاتباع، عسكر مضطهدون من النظام، دون أن يفوته التنويه بالشكل الصريح عن فترة سجنه الرهيبة من قبل النظام البائد.

يحضر أول اجتماع لهذا التنظيم، يرتقي الى عضوية المكتب السياسي. يمضي الوقت جله في المقر، ينام الليل مع قائد التنظيم في نفس المقر، يُشاركه الطعام الآتي من البيت ثلاث وجبات.

                  

يرن هاتف الثريا لدى قائد التنظيم، يطلب المتكلم ترشيح ضباط متقاعدين، لاعادتهم الى الخدمة في الجيش الجديد، يسمع عبد الواحد تفاصيل المكالمة، يحلل طبيعتها، يغلق باب الغرفة، يختلي مع القائد، يُقنعه بلغة العسكر المحترف في ان يكون بمقدمة المرشحين، لتأسيس موطئ قدم لهذا التنظيم في جيش جديد، سيشهد تزاحما بين التنظيمات القادمة من الخارج، لتكوين مواطئ قدم مماثلة. يلبس ذات البدلة النظيفة، المخصصة للمناسبات. يترك سيارته البرازيلي الرثة، يستلف سيارة صديق وعده بدعم الترشيح عند الجهات المقصودة.

        

غرفة واسعة في القصر الجمهوري، يدخلها بخشوع، على يمينه خمسة أشخاص كونوا لجنة قبول يجلسون حول طاولة فخمة من بقايا النظام البائد، يتقدمهم أمريكي برتبة عقيد رئيسا للجنة، بجانبه ضابط استرالي وآخر بريطاني بنفس الرتبة، ومدني لا تُعرف أصوله ولا درجته الوظيفية، وضابط عراقي برتبة لواء، جاء مع قوات الاحتلال من أمريكا التي يقيم فيها عشر سنوات. يعترض العراقي على ترشيحه. يتكلم بعد خروجه منها وقبل التصويت:

- أنا أعرفه شخصيا، انه سكرتير الوزير، كاتم أسرار الوزير... انه قـ.... الوزير.

- هذا لا يهمنا نحن الامريكان، نظرتنا للامور غير نظرتكم كعراقيين، مكتوب في خط خدمته العسكرية، كان مسجونا من قبل النظام.

- ألم يكفي هذا؟.

- لا، لا يكفي هذا. لان سجنه كان لمجرد سماعه أنتقادا للنظام في حالة سكر، لم يوصل معناه الى الجهات المعنية. ثم أنه قدم عن طريق عدي صدام حسين ولجنته الاولمبية أعتذارا، وطلبا للعفو المُذل قبله صدام حسين، وأعفى عنه وأعاد له كافة الحقوق، لما قدمه من خدمات للعائلة واكراما لذكرى السيد الوزير.

- ألم يكفي هذا مؤشرا، لحماية الجيش الجديد من هكذا أشكال؟.

- لا، لا يكفي هذا.

- لنوقف النقاش، أنه المثال المطلوب.

- من حقك أن تعترض.

يتدخل الاسترالي.

- لنصوت على ترشيحه.

- أنت المعترض الوحيد. يُقبل بأغلبية الاصوات. يكمل الامريكي رئيس اللجنة كلامه بقدر من التهكم:

- هكذا هو النظام الديمقراطي الذي سنقيمه في العراق.

يباشر العمل، أول المرشحين. الملابس العسكرية الميدانية يقدمها الامريكان، ورتبة العميد الركن لم تبق على كتفه سوى اشهر معدودات، معركة الفلوجة قربتّهُ خطوات أخرى من الامريكان، أداءه في تدنيس العراقية نال اعجابهم، كرموه رتبة لواء، لم تبق على الكتف هي الاخرى سوى أشهر معدودات. لقد أسسوا تشكيلا، وضعوه على رأس التشكيل، منحوه رتبة فريق، حملها على كتفه، ووضع على صدره وحيدا من بين الضباط العراقيين، ثلاث نجوم فضية اشارة الى رتبة الجنرال كما يفعل الامريكان.

الوزارة خلية نحل تعمل في ظروف غير طبيعية، ازدحام وتداخل، وحشر في غرف مقسمة بقواطع ألمنيوم، يطرق الباب ضابط هو العميد مدير المكتب يؤدي التحية، يبلغه بوجود اللواء الركن مجيد الفالحي، قائد التنظيم المعارض، وطلبه في زيارة خاصة.

- ألم تراني مشغول؟. لا وقت لديّ الى تلبية الزيارات الخاصة، ثم ان العمل السياسي في الجيش الجديد غير مسموح، وبالتالي من غير المقبول التعامل مع السياسيين وان كانوا من الضباط المعارضيين للنظام البائد. يعيد تكرار القول:

- ألم تسمع اني مشغول؟.

ليالي السمر في البيت الخاص بالمنطقة الخضراء، تعيد دورة التاريخ، وكأن الدنيا على حالها، تتغير فيها المواقع فقط. الحارس يصبح محروسا، وحامل البندقية تحميه سرية مشاة، والحسناوات والعطر الباريسي، والمتبرعون صائدو الفرص قاسمها المشترك لكل الاوقات، الفارق الوحيد يتعلق بجنس الحضور. المستشارون الامريكان يحضرون بأوقات، وقليل جدا من المسؤوليين العراقيين العطاشى، يحضرون بأوقات. المسألة ضرورية على وفق نظرية الاتكاء على ظهر قوي في اوقات الازمات. الظهر القوي يصبح فاعلا، حال دون ارساله الى النزاهة بتهمة فساد.

أيام العراق تمر سريعة، أحداثها سريعة، أنتخاباتها سريعة، توزيع المناصب حصصا بين الفائزين تتم بطريقة سريعة، مكالمات المتربصون لا يمكن أن تكون سريعة، يرن احداها في مكتب السيد الفريق. الصوت جهوري:

- حضّر نفسك للوزارة. يرد بقدر من الارتباك:

- ماذا تقول؟

- أقول حضر نفسك، لقد سددنا المبلغ المتفق عليه ستة ملايين دولار الى جبهة التقارب لترشيحك الى الوزارة التي أصبَحتْ من حصتها، مكالمتي الان، لأزف لك البشرى، وأذكرك بالاتفاق، نفس الاتفاق الذي تكلمنا عنه في عمان: صرف مبالغ العقود المتوقفة الى الشركة، احالة أخرى جديدة. لقد أستثمرنا مبلغا كبيرا، لابد من استرداده وأضعافه باسرع وقت ممكن. يجيبه دون تفكير:

             

- ستحصلون.... لا، لا سنحصل على اضعافه بعون الله.

الاتفاق مضمون. تنفيذه أكثر من مضمون، الأطراف التي ضمنته وقبضت ثمنه متمكنة، مؤثرة، والأطراف المقابلة لها بعملية التنفيذ لا تأبه لحصوله. تريدهم أن يخطئوا. وتريد ملأ الفراغ. تتم الصفقة سريعا، أسرع من الوقت المألوف لباقي الصفقات التي تعقد بين أطراف السياسية العراقية. يدخل البرلمان لأخذ الثقة. يتكلم بلغة عسكرية وسياسية، وكأنه عارضَ الطغاة صغيرا في المهد، يشير الى سجنه والظلم الذي لحق به. يجيب أحد الاعضاء على استفسار يتعلق بالسجن:

- لقد سجنت لمعارضتي غزو الكويت.

يسكت الجميع، يحصل على التفويض، يسدد مستحقات الشركة، يمنحها عقودا جديدة. يفرش البساط الاحمر للمسؤوليين، يقرب حاشية كبار المسؤوليين، يشركهم معه في القرار على العقود، وفي توزيع الارباح، ينتقده رئيس البرلمان في العلن، يتكلم عنه السياسيون في السر والعلن، تستمر الليالي الحمراء كذلك في العلن. يشتكيه الوطنيون والمنافسون، يُطلب الدليل.

أنه اذكى من أن يترك دليل.

ينهى حقبته الوزارية بلا دليل.

تستهويه لعب السياسة ومزاياها، يرشح للانتخاب، لم يحصل على عدد أصوات يعادل موجود سرية حمايته. يعيد حساباته وتكوين العلاقات ليبقى محميا بأجنحة الدولة الفتية.

  

يستلم منصبا يعادل وزير، تفوح راحة العقود الفاسدة، يترك الجمل في العراق، يأخذ أحماله، يقصد أمريكا ليحتمي بديمقراطيتها الرشيدة مثل غيره. يتداول بقايا المقربون، سر أختفاءه، يؤكدون أن لا علاقة له بتهم بالفساد، بل باكتشاف علاقات تخابر سرية له مع الامريكان.

يتوقف الزمن، يسأل المتفرجون، البائسون، الواقفون على التل:

- ألم يحن وقت النزول؟.

يجيبهم صوت يشبه صوت الوزير.

- لا، لم يحن الوقت بعد، فان آخر الأعمدة القائمة في العراق لم يتهدم بعد.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1163 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع