ملاحظات سريعة في ذكرى بيان آذار التاريخي للحكم الذاتي في كردستان العراق.. وذكر عسى ان تنفع الذكرى

د سعد ناجي جواد*

ملاحظات سريعة في ذكرى بيان آذار التاريخي للحكم الذاتي في كردستان العراق.. وذكر عسى ان تنفع الذكرى

في 11 آذار/مارس عام 1970 اُعلِنَ في بغداد بيانا اُقِرَ بموجبه حق الاكراد في العراق بالتمتع بالحكم الذاتي. كما نص الاتفاق على ان يتم تطبيق هذه التجربة بعد اربع سنوات من الاعلان. واعتبرت السنوات الاربعة السابقة لتطبيق قانون الحكم الذاتي، مرحلة سلام وبناء واعادة اعمار ما دمرته الحروب المتقطعة في الجبال والتي بدات منذ تموز/ يوليو 1961. هذا الانجاز الكبير والمتقدم كان الاول في الوطن العربي، حيث كانت فكرة الحكم الذاتي حتى ذلك الوقت مرفوضة بشكل كامل من الحكومات ومن اغلب الاحزاب السياسية، بل وحتى من العامة، على اساس انها تمثل خطوة نحو الانفصال.

باعلان الاعتراف بحق الاكراد بالتمتع بالحكم الذاتي اثبت العراقيون (عربا واكرادا) بانهم يتمتعون بوعي عالي وباحترام لخصوصية وحقوق الشعب الكردي، وكذلك بانهم متقدمون على كل الدول المجاورة والاقليمية في مجال احترام التنوع الذي تتميز به البلاد.

كانت الفرحة كبيرة وعارمة بهذا الانجاز الذي اوقف الاقتتال، والذي لا بد ان يسجل لحزب البعث في العراق سواء اتفقنا او اختلفنا معه. ويسجل للحزب ايضا اصراره على تحقيق هذا الاتفاق رغم المعارضة من قبل كوادر البعث نفسه، واحتاج الحزب اشهرا نشر خلالها دراسات ومقالات تثقيفية في نشراته الداخلية والصحف اليومية لكي يقنع اعضاءه وعامة الناس بان الحكم الذاتي هو اولا: حل عصري متقدم وينهي مشكلة تهدد السلم الاجتماعي، وثانيا انه لا يعني الانفصال ابدا، وثالثا ان التعامل مع قيادة المرحوم الملا مصطفى البرزاني، رغم كل الملاحظات التي كان الحزب يحملها تجاه ارتباطاته الخارجية، هو الطريق الوحيد لاحلال السلام. بدورهما البرزاني وحزبه كانا يحملان وجهة نظر سلبية تجاه حزب البعث وقيادته، الذي سبق وان شن عليهم حربا شاملة وعنيفة عندما وصل للسلطة لاول مرة في عام 1963. وظل البرزاني يردد ان حزب البعث غير جدير بالثقة، ولكنه امام تحقيق طموحات الشعب الكردي القومية ذهب حتى نهاية الشوط لتوقيع الاتفاق. ولكن وللاسف فان روح بيان اذار لم تستمر طويلا، واظهرت التطورات اللاحقة الكم الهائل من المعوقات التي وقفت في طريقه.
العائق الاهم كان النفوذ الخارجي (ايران واسرائيل والولايات المتحدة بالذات)، داخل الحركة الكردية. حيث ظلت تلك الاطراف تحذر قيادة البرزاني من التوافق مع حكومة البعث. في ذلك الوقت كانت ايران الممول الاساس للاسلحة للمقاتلين الاكراد وصاحبة النفوذ الاكثر تاثيرا على الحزب الديمقراطي الكردستاني، ليس حبا بالشعبالكردي، الذي كانت تضطهده داخلها، ولكن نكاية في العراق والعمل على اضعافه اكبر قدر ممكن، من اجل سلب حقه في شط العرب، وهذا ما حصل مع الاسف في النهاية، وهذه قصة ثانية طويلة. وكان التواجد الاسرائيلي في شمال العراق واضحا، ووصل الى حد ان اشرف وساهم افراد من الموساد الاسرائيلي على عمليات عسكرية عديدة ضد الجيش العراقي، ووصلت الى المشاركة في عملية تفجير انبوب تصدير النفط الرئيسي المستخرج من حقول كركوك. اضف الى ذلك تزويد المقاتلين الاكراد باسلحة سوفيتية الصنع استولى عليها الجيش الاسرائيلي من القوات السورية والمصرية في حرب 1967، والهدف من ذلك مفهوم ولا يحتاج لشرح. اما الولايات المتحدة وخلفها بريطانيا، فلقد اغضبهما تاميم النفط في العراق (1971) وتوقيع العراق معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي السابق (1972). وبالتالي اصبح هدف اسقاط نظام البعث او اضعافه واضحا لكل الاطراف.
في هذه الذكرى الجميلة والتاريخية، والتي اختفت من ذاكرة الكثيرين، ربما يكون من المفيد ذكر بعض الملاحظات عسى ان ينفع التذكير بها، خاصة بعد ان تعاظمت مخاطر تقسيم العراق نتيجة الاحتلال وما جرى بعده.
اول ملاحظة هي ان اتفاق اذار جاء نتيجة عمل وجهد وتفكير عراقي بحت، وبمشاورات ولقاءات بين الاطراف ذات العلاقة (الحكومة العراقية والحزب الديمقراطي الكردستاني)، وشخصيات وطنية اخرى، ولم يكن مفروضا من الخارج، او بهدف تمزيق العراق واضعافه. وهذا دليل على قدرة الاطراف الوطنية العراقية على ابداع المشاريع التي تهم البلاد.
الملاحظة الثانية، وهي حقا مؤسفة، ان توقيع الاتفاق لم يغير من طريقة تفكير الاطراف الموقعة عليه. فلا الحزب الكردستاني تخلى عن ارتباطاته الخارجية، وخاصة مع شاه ايران، الذي كان هو الامر الناهي في كل ما يتعلق بعلاقة الحزب مع الحكومة العراقية.ولا تخلت حكومة البعث عن خططها لاضعاف الحزب الكردستاني، او عن محاولات اغتيال قادته. هذا ما جعل بعض المهتمين بالشان العراقي يجادلون ان حزب البعث الذي وصل للسلطة وسط اعتراضات داخلية وخارجية كثيرة، كان بحاجة لسنوات السلم الاربعة (التي حددها البيان) لكي يُثَبّت حكمه ويستعد ويعد العدة لاخضاع المناطق الكردية التي كانت تحت سيطرة الحزب الكردستاني بالقوة العسكرية.
الامر المؤسف الاخر ان الطرفين الاساسيين (البعثي والكردستاني) لم يضعا ضمن اهدافهما اهم مسالة وهي انهاء حالة عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين. وظل كل طرف يتحين الفرص للانقضاض على الطرف الاخر. وهذا ما حصل تماما في عام 1974 عندما اتجه الحزب الكردستاني للتصعيد وصولا الى الحرب، وبنصائح خارجية، ورافضا قانون الحكم الذاتي الذي اصدرته الحكومة. وانجرت الحكومة الى المواجهة المسلحة مغترة بالقوة العسكرية التي امتلكتها من خلال علاقتها المتطورة مع الاتحاد السوفيتي انذاك. وكانت النتيجة مواجهة مسلحة وحرب شعواء احرقت الاخضر واليابس، وراح ضحيتها اعداد كبيرة من العراقيين ومن الجانبين. ولم تتوقف الحرب الا بعد ان تم الاتفاق مع شاه ايران على تقاسم شط العرب، حيث قام بوقف دعمه للحزب الكردستاني وانهارت الحركة الكردية المسلحة خلال يوم واحد. ومع ذلك ورغم كل ماسي تلك التجربة، الا ان حالة تفضيل الاعتماد على الاطراف الخارجية والاستقواء بها وتحبيذ الحل المسلح للمشاكل مازلت لحد الان تلقى صدى واسعا لدى السياسيين العراقيين عربا واكرادا،
الملاحظة الثالثة، ان قيادة البعث اضاعت فرصة تاريخية في بناء العلاقات العربية – الكردية على اسس صحيحة ودائمة بعد انهيار الحركة الكردية المسلحة (1975) وهروب معظم قياداتها الى ايران. حيث تم اعتماد سياسات التهجير واخضاع المنطقة الكردية للسلطة المركزية بالكامل، هذه المرة تحت غطاء (بناء مؤسسات الحكم الذاتي) التي كانت تُشَكَل من وجوه واحزاب تابعة للسلطة المركزية فقط. كما ان سلطة البعث لم تفتح اي حوار جدي مع القيادات التي لجأت الى ايران، وتركتها واتباعها ادوات جاهزة للاستخدام من قبل اي طرف قد يختلف مع من يحكم في العراق. بدورها ظلت كل القيادات الكردية تبدي استعدادا للتعاون مع الاطراف الخارجية اكثر من استعدادها للتعاون مع الحكومات العراقية ولا حتى مع الحركة الوطنية العراقية، لبناء عراق ديمقراطي موحد ومرفه.
الملاحظة الرابعة: ان كل روح بيان آذار والقدرة على التفاهم ضاعت، وحل محلها اصرار كل الاطراف على سياسة تصعيد المطالب عندما يشعراي طرف بان الطرف الثاني في موقف ضعيف، او ابداء التنازلات عندما يشعر بانه ضعيف ليقوم الطرف الثاني القوي بالتعنت وهكذا. وهذا ما يجري لحد الان.
الملاحظة الاخيرة والاهم انه رغم كل الماسي التي جلبها الفشل في حل المعضلة الكردية في العراق حلا دائما، لم تصل الاطراف المتنفذة (من الطرفين، عربا واكرادا) الى حقيقة ان العراق يمثل البلد الجامع لكل الاطراف، والذي يجب ان يحافظوا عليه وعلى وحدة اراضيه. وان كل الاحلام الاخرى هي محض خيال واوهام. فلا الاكراد في ظل الوضع الدولي والاقليمي الحالي قادرين على الانفصال وتكوين دولة خاصة بهم، ولا الحكومات المركزية المتتابعة استطاعت ان تستوعب حقيقة ان الحكم الدكتاتوري والمركزي الذي من خلاله يجري اخضاع كل الاطراف بالقوة لم يعد ممكنا او مقبولا.
السوال الاخير هو متى تعي كل الاطراف حقيقة ان العراق الوحيد القادر على التقدم والازدهار هو ذلك الذي يجب ان يكون علمانيا وديمقراطيا بحق، تتمتع به كافة المكونات بحقوقها ضمن الدولة الواحدة، وبدون تدخلات خارجية. وينظم العلاقة فيه دستور واضح، تضعه عقول عراقية، يضمن لجميع ابناءه كل حقوقهم وبالتساوي، وان ينص على ان قضايا الدفاع والمالية والتمثيل الخارجي هي من حق السلطة المركزية حصرا، كما هو الحال في كل دساتير العالم. وما عدا ذلك من اختصاصات داخلية ومحلية يمكن تركها لكل طرف كي يتصرف بها وفق القانون وبما يضمن افضل الخدمات للمواطنين. واي تفكير عكس ذلك سيبقى احلاما وأوهاما ومشاريع قصيرة المدى، ناهيك عن انها ستبقى منبعا للفتن والاقتتال الداخلي، ولن ينتج عنها سوى تمزيق العراق وضياع ثرواته ومعها مستقبل ابناءه.
*كاتب واكاديمي عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1228 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع