لقاء ... ؟ !

بقلم طارق احمد السلطاني

 لقاء ... ؟ !

انقضت فترة من الوقت لم أسمع في خلالها شيئا عن صديقي أيوب . فقد انقطع عن المجيء إلى المقهى منذ شهور عديدة . اضطررت القيام لزيارته للاستفسار عن سبب غيابه ؟ ! لم أعرفه جيدا حين فتح الباب ودعاني للجلوس في غرفة استقبال الضيوف . فهو أنيق ، حسن المظهر ، يرتدي بدلة جديدة زرقاء اللون ، يعلق على صدره ربطة عنق حمراء . تورد وجهه ، حتى أن التجاعيد التي كانت ظاهرة للعيان قد اختفت تماما . استغربت من هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ على حياته والتي أعادت إليه الحيوية والشباب وتُصغره عشر سنوات عن سنه الحقيقي !
بعد تبادل التحيات تحدث أيوب إلى صديقه مجيد قائلا :
- غيرت المنهاج الذي كنت أسير عليه في حياتي الماضية . ففي الصباح أقوم بقراءة الصحف بصورة عامة ، خاصة الصفحات الأدبية والثقافية التي تُنشر بانتظام يوميا . ارتياد المقاهي أضاع عليَّ الكثير من سنين العمر . حتى أني صرت انتاب بالدوار ووجع الرأس من شدة أصوات لعب الدومينو والنرد وصيحات المزاح التي يطلقها اللاعبين أثناء اللعب .
لهذا صممت على العودة إلى ممارسة هوايتي السابقة ، هواية القراءة . كما أني أواصل الذهاب إلى المكتبات الكبيرة والمنتديات الأدبية والثقافية . وهذا أفضل بكثير من ضياع الوقت في المقاهي ، فقراءة الصحف والكتب والمجلات وتلقي المحاضرات الأدبية والثقافية خير غذاء للفكر والنفس والروح .
- أقدم إليك خالص التهاني على اتخاذك هذه الخطوة العظيمة .
- شكرا جزيلا يا عزيزي مجيد .
افترق الصديقان . عاد مجيد إلى المقهى ، بينما توجه أيوب إلى أحدى المكتبات الكبيرة . طلب من أمينة المكتبة رواية البؤساء لفكتور هيجو ليستمتع بقراءتها في الركن القصي من طاولة المطالعة الطويلة في القاعة . حضرت فتاتان وجلستا قبالته . لمح أحداهن تمسك بيدها كتابا ، ابتدأت تقرأ لصديقتها بصوت هادئ ورقيق .
أخذ ينظر إليهن بفرح واندهاش ! أخذت تمر بخاطره أحلام يقظة أنه قابل صدفة هذه الفتاة التي تقرأ في مكان أو جلس وتحدث معها حديثا طويلا في الماضي .
انتابته نوبة ضيق واختناق ! لم يعد يحتمل وحدته ، رائحة الأنثى التي تجلس قبالته أخذت تُهيّج جروح قلبه المفجوع بفشل زواجه الذي لم يعمر سوى ستة أشهر .
فقد تزوج امرأة نصف عاقلة ونصف مجنونة . استعملت في علاقتها معه نصفها المجنون ! نغصت عليه عيشه وحولت البيت إلى جحيم دائم . فهي غليظة القلب ، سليطة اللسان ، معدومة المشاعر . حتى أن المحكمة قبل ستة عشر سنة قد حسمت قضية طلاقه في جلسة واحدة . كما رفضت المحكمة العديد من الدعاوى التي أقامتها ضده بادعاءات كيدية وكاذبة . وهذا ما دفعه إلى العزوف عن الزواج مرة ثانية . فضّل العيش وحيدا في الحياة طوال السنين الستة عشر الماضية .
* * *
اشتد الصداع في رأسه ، مما دفعه إلى الانتقال إلى كافتريا المكتبة . طلب من النادل كوبا من الشاي مع قطعة من الكعك المحلى - الكيك - .
كانت الكافتريا مزدحمة والموائد مشغولة كلها .
فجأة ! سمع صوت أنثى تستأذنه الجلوس إلى مائدته . رفع رأسه وقال :
- تفضلا بالجلوس . أهلا وسهلا .
ومن آداب المائدة وأخلاق أيوب الدمثة واحترامه وتقديره للمرأة ، طلب من النادل أن يجلب لهما أكواب الشاي والكعك المحلى – الكيك – وعلى حسابه.
دار بينهم حديث مشوق عن الأدب ، وأهمية القراءة في تنمية وتطوير العقل البشري ! شعر أن هذا اليوم كان رائعا ، ففي هذا اللقاء تعرف إلى هاتين الفتاتين ، كما عرف اسميهما ، نوال وهيفاء .
أخذ يتحدث إلى نفسه قائلا :
- أنهما عانستان وغير مخطوبتان أو متزوجتان ! وهذا واضح للعيان ؛ لأن اصابعهما خالية من أية خواتم !
ودعهما بكل ود وأدب واحترام ، ووعدهما على اللقاء في المكتبة يوم الخميس القادم .
* * *
الأهل يرحلون أو يتفرقون . الأصدقاء ينشغلون بمشاكل حياتهم ، ووحدة أيوب وغربته في هذا العالم تزداد ، حتى أنه كثيرا ما يجد نفسه غريبا حتى مع نفسه .
عند حلول يوم الخميس . كان يُعد في رأسه الصورة التي سيكون عليها في لقاءه مع نوال وهيفاء . أية بدلة يرتدي ؟ أية ربطة عنق ؟ كيف يغير تصفيف شعره ؟
* * *
حال الانتهاء من القراءة انتقل أيوب ونوال وصديقتها هيفاء إلى الكافتريا
مباشرة . اعتدل في جلسته قبالة نوال . ظل ينظر إليها طوال فترة احتساء الشاي وتبادل الأحاديث المتنوعة عن الأدب والمجتمع . ينظر إليها هذه النظرة الطويلة الثابتة التي تربك من تتسلط عليه أو توتره ! فقد لمح في عينيها نظرة حب لم يرها في غيرها من النساء . ولما أنهى قصة زواجه إليها ، شعرت نوال بحزن يعتصر قلبها ، فقد ضاعت حياته مع زوجته السابقة وأصبح يعيش على سراب دائم .
- نوال . لماذا استمر مع امرأة لا تحبني ؟ تنغص عيشي . حتى أخذت أشعر إنني أكبر كثيرا من عمري ... وان نفسيتي تشيخ وتعتريني كآبة لا احتملها .
- أستاذ أيوب . هناك كثيرون عرفوا المعنى الموحش للوحدة . استمتع بالقراءة ، استمتع بهذه الأحاديث المسلية ، استنشق نسمات الصباح المنعشة.
* * *
تواصلت لقاءات نوال وأيوب . حتى أنها كانت تجلس مقابلة له . منضدة صغيرة تفصلهما . عندما نظرت إليه كانت نظرته مختلفة . نظرة من يبادل مشاعر .
أما أيوب . فقد خُيل إليه أنه يسير معها في طرقات بلاد بعيدة وأغان قديمة وحالمة تصدح من كل شيء ... من نظرة عينيها .
* * *
الحب يتطور من الرومانسية في النظر إلى الواقعية ليترسخ في أعماق القلب والعقل والروح .
أشتد انبهار أيوب بهذه المرأة نوال ، تلك المرأة الجملية ، فهي طويلة ، رشيقة القوام ، شقراء ، ذات شعر أصفر يتدلى فوق كتفيها ، يتلألأ مع نور
الشمس وضوئها كحبات اللؤلوء والماس ! وما يبهره في جمالها ، جمال وجهها الصبوح ، المدور ، الأبيض المائل إلى الحمرة ، تزينه عينان نرجسيتان واسعتان ، وفم يحمل فوقه شفتان ورديتان دائمة البسمة والفرحة. دون أن تزين وجهها بأية مواد كوزماتيك - مواد تجميل - .
ظل ينظر إليها ، يحلم بقبلة حنونة ، أو ضمة جسد مصدرها الحب أو التعاطف وليس الواجب الذي يحددون له يوما معينا . تعانقت نظراتهما ، قرب شفته من أذنها ، همس لها نكتة جنسية لعله يثير مشاعرها ويكشف عما يكمن في أعماق قلبها من أية مشاعر نحوه ؟ !
لكنها ردت عليه وبصوت عالٍ قائلة :
- لا أحب الاستماع إلى هذا النوع من المزاح . بل أحب نكتة عن النملة والفيل .
على الفور . استطاع أيوب تغيير الحديث إلى كلمات تثير الفرح . لإزالة غضبها المفتعل وتعبها الذي شعر به . ونجح . فقد تعودا الحديث عن كل المجتمع . لم يستطع مقاومة مشاعره نحوها . أحيانا ترجوه بنظرات عينيها أن يرحمها من هذا الاستعراض اللامنتهي من الاهتمام بفتاته .
فكر قليلا وقال للفتاتين :
- أني أدعوكما لتناول طعام الغداء هذا اليوم . قبلتا الدعوة . وفور وصولهم إلى شارع أبو نواس خصص لهم صاحب المطعم مائدة خاصة فوق أرض الحديقة المطلة على شاطئ نهر دجلة .
حال التفاف الجميع حول المائدة . امتلأت الأطباق بلحم الغنم المثروم المشوي – كباب – والعديد من أطباق السلطة الخضراء والمشويات من الطماطم والبصل والثوم والفلفل الأخضر ، وطرشي الخيار المخلل
والمحشي بالثوم والكرفس والتوابل الهندية الحارة .
أخذت هيفاء تأكل بشراهة بينما أخذت نوال تأكل الطعام بتأني وهدوء بالغين . نسمات الهواء تحمل إليهم رائحة السمك المشوي – المسكوف – التي تزكم الأنوف .
* * *
الواقع أنه لا يوجد محيط للمرأة التي تحبها . أجمل من لقاءها على شاطئ المياه الجارية تحت ظلال زرقة السماء وشذى الزهور وسحر الغابات العذراء والحقول النضيرة وأن تنعم بالحب في غير خجل أو تحفظ .
لم يعد يستطيع بلع الطعام ، بالكاد يغص ويختنق ويموت ! نوال ! هذا الملاك الجميل الجالس قبالته . ينظر إلى شفتيها ، أثارت لديه الكثير من المشاعر وهي تضع اللقمة الصغيرة إلى داخل فمها ! كيف تمضغ هذه اللقمة ؟ هذا المضغ أشعل نارا حامية في دمائه الفائرة ! نوال فكت عقدة الزواج المستعصية لديه منذ سنوات طويلة . انتابته نوبة خيالات وأحلام يقظة غريبة ! أثارت لديه شهوة جنسية عارمة في مضاجعتها !
أخذ يرى نوال عارية ، تكشف عن مفاتن جسدها البض الجميل . ترتدي ملابس السباحة – مايوه – الذي يتكون من حمالة ثدي وورقة التوت . نزلا إلى النهر سوية ، يتسابقان في الوصول إلى الجزيرة الرملية التي تظهر وسط نهر دجلة عند حلول الصيف . أخذت تجري بسرعة فوق رمال الجزيرة الدافئة .
- أيوب . لقد فزت عليكِ بالسباحة .
لنجري سباقا في الركض . شفتاه منعت شفتاها من إتمام كلامها ، احتضنها أراد أن يجعلها تبتسم أو تضحك . فقد سرت قشعريرة في جسدها من
استقبال القبل الحارة التي انهالت فوق شفتيها وخديها ورقبتها ! وهي مترنحة بين ذراعيه !
- نوال . أن الحب الحقيقي ما هو إلا شوق إلى السمو . وهو ما كنت أبحث عنه فيك .
- أيوب . سنكون أسعد حالا لو تمكنت فقط من أن تجعل نفسك تستسلم حقا للحب .
- نوال . تعالي . لا تخافي ، اقتربي مني كثيرا . ليلتصق جسدك بجسدي حتى نصبح جسدا واحدا ! حتى يبقى ذكرى طعم قبلاتنا العسلية مطبوعة فوق شفاهنا مدى الحياة ! فالنحل يقطع مسافة أثنى عشر كيلومترا من أجل أن يجلب رحيق الأزهار .
* * *
فجأة ! انفلتت من بين ذراعيه . أخذت تركض وسط المزروعات من الخضراوات المنتشرة فوق رمال الجزيرة ، خاصة زراعة الخيار واللوبيا والباذنجان ، وهي تصيح قائلة :
- أيوب . رائحة الزرع وتفتح الطبيعة تسري في نفسي وجسدي .
دخلت إلى كوخ حارس المزرعة الذي كان فارغا أثناء وجودهما في الجزيرة . إن هذا الكوخ قد شيد أركانه بأعمدة خشبية من جذوع أشجار الصفصاف اليابسة وسعف النخيل وحصران البردي .
دخل أيوب ورائها داخل الكوخ . سحبها نحوه ، رفع يده إلى وجهها ، وراحت أنامله تعبث بخدها وتمسح على شعرها ، ثم فجأة ضمها إليه بقوة والتقطت شفتاه شفتيها بسحر الحب القاهر الأبدي .
انبطحا فوق الفراش الممدود فوق أرضية الكوخ . قرب وجهه من وجهها
ضمها إليه ، في حين تمتلكه فجأة رغبة ماسَّة لعناقها وتقبيلها مرة ثانية ، ودَّ لو أنه يسقيها ماء الصحة لتستجيب لرغبته المجنونة ، ودَّ لو أنه يغزر في دمها عطر الحياة ليدب فيها النشاط وتستلم له راضية ، أقترب منها أكثر وانحنى نحوها ليشدها إليه ويقبلها بنهم ، وهو يميت كل المشاعر الطيبة التي كان يحسها حين كانت في إغفاءة مصطنعة ، ربما كانت شفتا نوال أحلى مقبلا . لقد لثمها مرة في أحلامه ، يوم اختلى بها قبل صلبه ، وتمرغ بعسلها الشهدي البارد . لم يزل طعمه في خلايا ذاكرته .
تعانق الجسدان لحظات خارج الزمن . استرخت فوق الفراش ، مستسلمة براحة عميقة ، وهي غارقة في نشوة الحب ، مستمتعة بعسله وسحره ، هائمة في جنته ، منعقدة في ذروة شبقها . راحا يلهثان في متعة مجنونة . ليقتنصا حزما من رعشات فطرية ، وتظل الغرائز سائدة تسطع منها قابلية الحياة رغم كل ضروب البؤس والجوع وضنك العيش .
* * *
حلم حلما ثانيا . فقد رأى عضوه التناسلي منتصبا وطويلا جدا . تزايد طوله رويدا رويدا . ومن تحت الطاولة التي تفصل بينه وبين نوال الجالسة قبالته يدغدغ جسدها الناعم الرقيق . تحدثت إليه وهي تواصل الضحك والفرح والاستمتاع قائلة :
- لذيذ ! لذيذ ! أشكرك جدا يا أيوب على دعوتك لتناول هذا الطعام اللذيذ . الكباب المشوي طعام شهي ، طيب المذاق .
لم تفارقه أحلام اليقظة . فقد رأى نوال ترتدي ملابس العرس البيضاء وهي جالسة إلى جانبه على حافة سرير النوم وفي ليلة الزفاف . أخذ يقبلها من رقبتها وخديها وهو ينزع ملابسها قطعة ، قطعة . تمددا على السرير
وجسديهما عاريين تماما في أول ليلة من شهر العسل .
- أيوب . لماذا توقفت عن تناول غداءك ؟ ولماذا هذا الصمت الذي يشبه صمت القبور ؟
- نوال . لقد سرح فكري إلى أماكن بعيدة ووقعت لي أحداث جميلة يمكنني أن أحققها في المستقبل ؟ ! سوف أبلغك عما يدور بفكري في اللقاء القادم .
- هل أنجزت كتابة رواية جديدة ؟
- لا . لم تنجز روايتي الخيالية لحد الآن . لكنني سوف أنجز رواية حقيقية وواقعية في الأسبوع القادم .
* * *
أن هوايات نوال وأيوب الواحدة . وطبائعهما المتشابهة في أشياء كثيرة . كرقة المشاعر ، وأخلاقهما المتسامحة مع الجميع . وحب الخير والناس من أعماق قلبيهما ونفسيهما وروحيهما وعقليهما تحولت إلى صحبة جميلة ، وهذه الصحبة زرعت الحب في قلب أيوب نحوها . كبر زرع الحب وتعمقت جذوره في عقله وعاطفته وجسده . فصمم على خطبتها والزواج منها بأسرع وقت .
وفي اللقاء الأخير بادرها أيوب قائلا :
- نوال أحببتك حقيقة . ولدي رغبة قوية في التقدم لخطبتك . أرجوك . أعطيني عنوان أهلكِ لأنني شديد الاستعجال في طلب يدك والزواج منك يا حبيبتي .
فجأة ! صدرت من أعماق صدرها شهقة قوية ، تبعتها بضحكات عالية طويلة ؟ ! وما أن هدأت وتوقفت عن الضحك قالت :
- أيوب ألا تعرف أنني متزوجة منذ عشرين سنة ؟ ولدي ثلاثة أولاد !!
- الذنب ليس ذنبي يا نوال . أنه ذنب اللقاء الذي جمعنا لأول مرة .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1159 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع