قصة حقيقية - عودة الملائكة

بقلم احمد فخري

قصة حقيقية -عودة الملائكة

ليس من المعتاد ان نتقابل مع اناس عظام كل يوم. فالبعض نلتقيهم مرة واحدة في العمر او قد لا يحالفنا الحظ ابداً للتعرف على احد منهم متى ما حيينا.
اليوم اريد ان احدثكم عن زوجين من هذا النوع. الرجل من اب دنماركي وام بريطانية ولد ببريطانيا وجاء الى الدنمارك كرجل بالغ ليتعلم اللغة الدنماركية حاله حال اي اجنبي لاجئ ويتزوج من امرأة دنماركية فريدة جداً من نوعها. انه مارتن كنوزن وزوجته ايما. ستتعرف عليهما من خلال السطور التالية.


لقائي الاول
كان ذلك في عام 2005 حين كنت واقفاً باحدى المحال التجارية بمدينة روسكلة / الدنمارك. كنت انوي شراء الحبر الملون لطابعتي لكن البائع من كان اصول تركية وكان منشغلاً بزبون آخر غيري. لاحظت ان ذلك الزبون يجد صعوبة في التحدث مع البائع إذ سأله عدة مرات بالانكليزية عن الضمان لكن البائع لم يفهم ما قال. عرفت وقتها انني يجب ان اتطوع واقدم يد العون فسألته بالانكليزية إن كان يريد مساعدتي فرحب بذلك كثيراً. علمت انه جاء ليشتري طابعة ملونة كي يوصلها بحاسوبه فسألته عن الماركة التي يريد شرائها قال،
مارتن : نصحني بعض الاصدقاء بشراء ماركة (...).
- كلا انها سيئة للغاية. دعني اقترح عليك الماركة (...). لسببين. الاول هو ان حبرها اقتصادي اي انه لا ينفذ بسرعة فائقة. والثانية هو في حالة نفاذ الحبر الملون فان الطابعة ستستمر بالطبع مستعملة الحبر الاسود فقط.
مارتن : إذاً ساستمع الى نصيحتك واشتري الطابعة الثانية التي اوصيتني بها بالرغم من انها اغلى بقليل.
بعد ان دفع مارتن ثمن طابعته الجديدة، عرّفته بنفسي ورحنا نتحدث بالانكليزية. فالتمست فيه دمث الاخلاق والطيبة والاستقامة والصراحة التامة لذا اقترحت عليه ان نلتقي باقرب وقت ممكن. ابدى استعداده الكامل للقائي في الغد فتبادلنا ارقام هواتفنا وودعته لارجع الى بيتي حاملاً الحبر الذي اشتريته للتو. باليوم التالي انتظرته بالمقهى على الموعد المحدد فرأيته شاباً ثلاثينياً طويل القامة وسيم الطلعة تملأ وجهه ابتسامة عريضة يمشي بعرجة خفيفة بقدمه. اخذ يدي وتعرفنا على بعضنا البعض بشكل افضل وجلسنا نحتسي القهوة بينما رحنا نتجاذب اطراف الحديث. قال ان اباه رجل دنماركي وامه بريطانية، الا انه ولد ببريطانيا وسكن جل حياته هناك لذلك يجد صعوبة بتعلم اللغة الدنماركية. علمت وقتها ان ذلك الانسان الطيب سيكون صديقي المقرب. سألني مارتن عن مهنتي فاخبرته بانني مهندس حواسيب فقال انه يحتاجني بشكل ملح لان لديه ثلاث حواسيب عاطلة وجاثمة في بيته. ابديت استعدادي الكامل لتلبية طلبه والذهاب الى بيته لعلاج تلك الحواسيب العليلة. زودني الرجل بعنوانه وقال انها ستكون فرصة طيبة كي اتعرف بها على خطيبته ايما.
بعد مضي بضعة ايام والذي صادف يوم سبت حملت ادواتي واقراصي المدمجة لاضعها في سيارتي واتوجه بها الى مدينة هلسنيور الساحلية الجميلة والتي تبعد حوالي 80 كلم عن مدينتي. وفور وصولي مركز المدينة اتصلت به من هاتفي المحمول فردت زوجته ايما بلغة انكليزية نظيفة لا غبار عليها وقالت انها ستنتظرني بالقرب من احد المخازن المعروفة حول الدنمارك ويدعى (ايلگيگانتن). لم اجد صعوبة في العثور على المخزن فاوقفت سيارتي امامه انتظر وصول ايما. وما هي الا دقائق وسمعت نقراً على نافذتي فرفعت رأسي لارى فتاة شقراء جميلة في عقدها الثالث تبتسم وتقول، "افتح النافذة". فتحت نافذتي وسألتها،


- انت ايما اليس كذلك؟
ايما : كلا انا جدتها.
ضحكت ولوحت لها بيدي كي تستدير وتجلس الى جانبي فجلست وقالت،
ايما : انا سعيدة بلقائك. حدثني مارتن عنك كثيراً وهو ينتظرك بالبيت.
- هل البيت بعيد عن هنا؟
ايما : كلا. استدر الى اليسار بالشارع القادم.
- لا يمكنني ذلك، فالشارع ممنوع من الدخول.
ايما : لا تبالي استدر فسوف لن يغرمك احد لانني اعرف مدير شرطة هلسنيور.
- انها مسألة مبدأ، من المستحيل ان اقوم بمخالفة القانون. لا تطلبي مني ذلك.
ايما : قلت لك لا تخف استدر فانا المسؤولة.
استدرت وامري الى الله. ولحسن الحظ لم تقابلني اي مركبة. قدت سيارتي لبضع مئات من الامتار حتى طلبت مني الدخول بمراب سيارات تحت الارض فدخلت واوقفت سيارتي بمكان آمن. نزلنا منها فاقتادتني الى مصعد كهربائي يوصلنا الى باحة المجمع السكني الذي تكمن فيه شقتهم. مشينا قليلاً حتى اصبحنا امام باب كتب عليه (ايما ومارتن كنوزن). طرقت الباب ففتح لي مارتن الباب ليقف امامي بابتسامته العريضة المعتادة وترحيبه الذي لم اعتده في شخص غربي مثله. فالغربي عموماً لا يبدي الكثير من المشاعر ولا يبالغ بالترحيب بالضيف كما يفعل الشرقيون الا ان مارتن كان مختلفاً تماماً عن غيره. أدخلني منزله فلاحظت انه يعاني من صعوبة في المشي كما في اليوم الاول، توقعت انه اصيب بصدمة على ساقه اعاقت سيره بشكل طبيعي. دخلت صالة جميلة مطلة على منظر واسع من شبابيكها الكبيرة. تصدّرت الصالة آلة پيانو خشبية مما جعل قلبي يرقص من هول السعادة لاني احب صوت البيانو العذب الا انني لم اشأ ان اعلق عليه لان الكثير من الاوروبيين اعتادوا ان يمتلكوا تلك الآلة بمنازلهم ويعتبرونها قطعة من الاثاث ففي الماضي قام اولادهم بتعلم العزف عليها عندما كانوا صغاراً. اخذت مجلسي على اريكة بيضاء جلدية وثيرة فجلس مارتن امامي لتذهب خطيبته الى المطبخ وتباشر باعداد القهوة. لكنني لاحظت دعامة حديدية على جانبي ساقه الايمن وقتها عرفت سبب عدم سيره بشكل منتظم. مرة اخرى لم اشأ ان اسأله عنها لان الامر قد يسبب له احراجاً. الا انه قطع سلسلة افكاري وسألني،
مارتن : هل واجهت صعوبة في العثور على الشقة؟
- بالحقيقة قامت خطيبتك ايما بقيادتي الى المراب عبر طريق ممنوع.
مارتن : انها دائماً تفعل ذلك بالاصدقاء الذين يأتون لزيارتنا لاول مرة وتقول لهم انها تعرف مدير الشرطة.
- لحسن الحظ اننا نفذنا دون غرامة هذه المرة.
صرخت ايما من المطبخ تعليقاً على ذلك قائلة،
ايما : انا فعلاً اعرف مدير الشرطة واعتبره مثل عمي ولكن لم يسبق لي ان طلبت منه طلباً مثل هذا. الا انني متأكدة من انه لن يرفض لي طلب.
نظر مارتن الى زوجته وقال،
مارتن : هل تعلمين يا حبيبتي؟ ان احمد انقذني من كارثة وشيكة. كنت ساشتري طابعة رديئة جداً.
- حمداً لله لانني تنبهت لتلك الكارثة بالوقت المناسب وشعرت ان من واجبي تحذيرك منها.
مارتن : يجب علينا ان نحتفل بذلك اليوم.
- لا تبالغ يا مارتن فانا لم افعل شيئاً يذكر. انا عملت فقط ما يمليه عليّ ضميري.
رجعت ايما بفناجين القهوة وبعض البسكويت لتضعها على الطاولة امامنا. امسكت بفنجاني واحتسيت منه رشفة صغيرة فاعجبني طعمه اللذيذ. نظرت الى مارتن وسألته
- اين حواسيبك التي تريد اصلاحها.
مارتن : انها في الطابق العلوي. دعنا ننتهي من القهوة اولاً وسنصعد اليها فيما بعد.
بعد ان انتهينا من شرب القهوة انتقلنا الى الطابق العلوي فوجدت مساحة كبيرة فيها مكتبة ملئى بالكتب قدرتها بـ 100 الى 150 كتاباً. بالجانب الآخر كانت هناك ثلاثة حواسيب تجلس على طاولة خشبية طويلة من الواضح انها تعاني من امراض مستعصية.
جلست امام الاول وبدأت اجري عليه فحصاً سريرياً مكثفاً ثم بدأت بعملية مسح قرصه الصلب وبناء نظام التشغيل من جديد. وما هي الى نصف ساعة واذا بالحاسوب الاول يعود للحياة. كانت فرحة مارتن لا توصف وبقي يشكرني ويقول بانني عبقري لكنني اكدت له ان ما اجريته هو امر روتيني واي شخص بامكانه ان يفعل ما فعلته شريطة ان يكون لديه بعض المعرفة بذلك. انتقلت بعدها الى الحاسوب الثاني وقمت بفرمتته من جديد فعاد يعمل كما يجب. اما الثالث فكان يعاني من تلف في قرصه الصلب لذا قلت له،
- هذا الحاسوب سوف لن تصطلح اموره الى إذا غيرنا له القرصه الصلب. يعني عملية نقل اعضاء.
مارتن : هل بامكاننا ان نشتري قرصاً صلباً اليوم؟
- إذا كان (ايلگيگانتن) ما زال مفتوحاً فبامكاننا ان نشتريه ونصلح العطب.
مارتن : دعنا نتمشى الى المخزن لانه قريب جداً من هنا.
- اولاً دعني افتح الحاسوب لارى بعض المواصفات على القرص القديم كي اتجنب شراء قرصٍ خاطئ.
فتحت الحاسوب واخرجت القرص التالف وبدأت اقرأ مواصفاته ثم سجلتها على ورقة وخرجنا سيراً على الاقدام لنجلب البديل. وبعد ان عثرنا على ضالتنا اشتريناه ورجعنا الى البيت فوجدنا ايما قد اعدت لنا وجبة غداء رائعة تتألف من المكرونا باللحم المفروم. نظرت الى الطعام وسألتها قائلاً،
- ما هو نوع اللحم الذي في الطعام.
لكنها ولدهشتي الكبيرة صدمتني بلغة عربية مكسّرة قائلةً،
ايما : (هذا لهم بكر هلال انتِ لا يخاف يا سديكي).
- هل تتكلمين العربية؟
ايما : (تبعاً يا سديكي، انا يتكلم الاربية كليلاً).
كانت تلك مفاجأتي الاولى في ذلك البيت العجيب. فتاة دنماركية تتكلم العربية حتى لو كانت بشكل متعثر. ولكي اعقب على ذلك قلت لها،
- الآن اصبح معلومٌ لديّ انك تتكلمين الانكليزية والعربية بالاضافة الى لغتك الدنماركية. اهنئك من كل قلبي.
نظرت الي والابتسامة تعلو شفتيها وقالت بالانكليزية،
ايما : مجموع اللغات التي اتحدثها هي احد عشر لغة.
- يا الهي هل يعقل ذلك؟
هنا تدخل مارتن وقال،
مارتن : انها انسانة مميزة وملئى بالمواهب. ولهذا اخترتها شريكة حياتي لكي اتعلم منها فهي تفاجئني بالجديد كل يوم.
رجعت الى الطابق العلوي وقمت بتثبيت القرص الجديد في الحاسوب التالف ثم قمت بفرمتته ليبدأ العمل كما ينبغي. كانت فرحة مارتن بالحاسوب الثالث كبيرة قال،
مارتن : لدي قنينة نبيذ في الطابق السفلي دعنا ننزل ونحتفل بتعافي الحواسيب الثلاثة.
- ارجو ان تعذرني لانني لا اشرب الخمر. بامكانكما ان تشرباه انتما.
ايما : كلا، سوف نشرب الكوكا كولا سوياً بدلاً من ذلك.
احضرت قنينة كبيرة وصارت تسكبها في كؤوس ثلاثة. بعد ان انتهينا من شرب الكوكاكولا وقفتُ لاغادر منزلهما الجميل فوقف مارتن ووضع يده في جيبه ليخرج محفظته ثم ينظر الي ويقول،
مارتن : كم هو ثمن التصليح؟
بدأت اضحك واقهقه بصوت مرتفع. نظرت اليه وسألته،
- اهذه هي المرة الاولى التي تتعامل بها مع العراقيين؟
مارتن : اجل.
- إذاً ساعذرك هذه المرة. وللعلم فنحن لا نتقاضى اجراً لمساعدة الاصدقاء يا مارتن.
ايما : لكنك جئت الى هنا وتكبدت عناء الطريق وقمت بتصليح حواسيبنا. كنا سندفع آلاف الكرونات مقابل تصليحها لشخص غيرك.
مارتن : اجل 3000 كرونا على اقل تقدير.
- لقد دفعتم لي اجرتي بالكامل مقدماً بصداقتكم ومحبتكم وترحيبك الحار.
ايما : على العموم نحن نشكرك كثيراً.
- حتى شكركم مرفوض فنحن نعتبر مساعدة الصديق واجب ولا شكر عليه.
خرج الزوجان واوصلاني الى سيارتي في المراب. وعدتهم ان لقائاتنا ستتجدد بالمستقبل وخرجت من المراب بسيارتي.
ما هي الا اسبوع واتصل بي مارتن ليسألني،
مارتن : هل بالامكان ان نأتي انا وايما لزيارتك يوم الاحد القادم؟
- ارجو ان تأتوا لتناول وجبة الغداء. فسوف تتذوقون الطبخ العراقي.
مارتن : تقول زوجتي انها تتمنى لو تتذوق (الدوليـــما) لانها سبق وسمعت بها.
- سوف تكون الدولمة على رأس القائمة، كن مطمئناً.
مارتن : إذاً سنأتيك الساعة الواحدة ظهراً.
- على الرحب والسعة.
في الليلة التي سبقت الموعود قمت باعداد الدولمة والكباب الحلبي والرز الابيض بالكشمش واللوز والسلطة النجفية المميزة بعصير الرمان. يوم الاحد وصل مارتن وايما فلاحظت للمرة الاولى انها هي الاخرى تعاني من السير بشكل واضح مثل خطيبها. قلت لنفسي ربما قد تعرضت لصدمة على قدمها بطريق الصدفة. جلس الثنائي بصالتي ورحت اتكلم معهم بعفوية كاملة كما لو كانا افراداً من عائلتي. وضعت لهما موسيقى غربية للمغني ليونارد كوهين الا انهما طلبا مني ان اضع موسيقى عربية لانهما يريدان سماعها فاخترت لهما (حبيبي يا نور العين) لعمر ذياب فاعجبا بها كثيراً واستمرت الاغاني العربية لالاحظ طربهما للانغام الشرقية. بينما كنت مشغولاً بمطبخي اجهز لهما الوليمة التي دعيت الله ان اكون قد اديتها على الشكل المشرف. وعندما انتهيت من اعداد المائدة استدعيتهما للجلوس على الطاولة فتركا الاريكة وجلسا على الكراسي مبدين اعجابهما بالمناظر الخلابة التي اضفتها الاكلات الشرقية على الطاولة. بدأوا يأكلون بشهية ولم يتوقفوا للحظة واحدة من ابداء الاعجاب والثناء على الطعام الذي يتذوقونه لاول مرة. اعترفت ايما انها سبق لها وان تناولت الدولمة لدى احدى طالباتها التركيات لكن طعم الدولمة العراقية كان افضل بكثير. فسألتها،
- هل انت مدرسة؟
ايما : انا ادرس اللغة الدنماركية للطلاب الاجانب في بيتي.
- وكم تتقاضين على ذلك؟
ايما : اتقاضى كلمة الشكر والصداقة الدائمة.
- اقسم بالله انك انسانة نبيلة جداً يا ايما.
ايما : لست نبيلة لهذه الدرجة فانا احصل على اطعمة وحلويات من اعراق وجنسيات متعددة. وهذا بالنسبة لي شيء عظيم واهم من المال.
ضحكنا على ما قالته وواصلنا تناول الطعام. وبعد ان انتهينا من تلك الوجبة الدسمة طلبت منهما الانتقال الى الصالة لشرب الشاي العراقي فسألني مارتن،
مارتن : وهل تزرعون الشاي ببلدكم؟
- كلا ولكن لدينا طريقة خاصة باعداده. سوف ترى.
قمت بتخدير (قوري) من الشاي الفَل بالهيل وعندما اختمر احظرته الى الصالة ووضعته فوق سخان يعمل بطاقة الشموع كي يبقى ساخناً ووضعت الاستكانات والسكر بصينية لتتوسط الطاولة فصرخ الزوجان بصوت واحد (وااااااو) مبدين اعجابهم الكبير. وضعت الى جانبه بعضاً من (الكليچة بالتمر) التي اعددتها قبل بضعة ايام. اعجبوا كثيراً بطريقتنا في اعداد الشاي وطلبت مني ايما اسلوب صنع الكليچة فعلمتها. في ذلك اليوم بقينا نستمع الى الموسيقى العربية ونتجاذب اطراف الحديث بمواضيع عدة حتى جاء وقت الرحيل حين قال مارتن،
مارتن : يجب علينا ان نغادر الآن.
- دعني اوصلكما بسيارتي.
ايما : هذا غير ضروري فالسائق سوف يأتينا تمام الساعة الخامسة.
- وهل لديكما سائق شخصي؟
ضحك الزوجان وعلقت ايما قائلة،
ايما : كلا، ولكننا حجزنا سيارة (فليكسترافيك).
وقتها عرفت ان هذه السيارات تنقل المعاقين فقط. وهذا يعني انهما يعانون من مشاكل في اقدامهم لكنني لم اشأ ان اسألهما وفضلت ان احتفض بجهلي لنفسي. وقبل ان يغادرا باب شقتي سألني،
مارتن : هل انت متفرغ في الاسبوع القادم لانني اريد ان ازورك وحدي هذه المرة.
- بالتأكيد، على الرحب والسعة. ولكن ماذا عن ايما؟
ايما : انا سازور والدَيّ ببيتهما لاننا نريد ان ننهي الاستعدادات للعرس. انت طبعاً ستكون اول المدعوين للعرس.
- بالتأكيد، ساكون بالزمان والمكان المحدد.
خرج الثنائي الطيب ممسكين بايدي بعضهما يلوحان بايديهما الاخرى وانا انظر اليهما بعين الحب والشكر للخالق الذي يسر الفرصة كي اتعرف عليهما.
بعد اسبوع وفي الموعد الذي حدده عبر الهاتف وصل مارتن وضغط على جرس الباب ففتحت له ورحبت به بحفاوة تليق به ليدخل ويجلس بعد ان يمسك بقدمه ويسحبه اليه. هنا لم اتمالك نفسي فسألته بخجل كبير،
- ارجو ان تسمح لي فضولي السمج ولكن ما بال قدمك؟
مارتن : ليس هناك مشكلة بقدمي. بالحقيقة انا مصاب بمرض الـ (MS) multiple sclerosis التصلب المتعدد منذ ان كان عمري 7 سنوات. كذلك خطيبتي ايما. هي مصابة بنفس المرض.
- عذراً على جهلي لكنني لم اسمع بهذا المرض من قبل. فما هو وما هي اعراضه؟
مارتن : انه مرض يصيب الغلاف العازل للاعصاب ويسبب فقدان السيطرة على الاطراف واحيانا يسبب غشاوة بالرؤيا والآم شديدة في الجسد.
- وهل هناك علاج للمرض؟
مارتن : كلا، ليس هناك علاج كامل لهذا المرض. استعمل المسكنات فقط وبعض الاجرائات والمواد الكيماوية التي تؤخر تفاقمه. لكن الاحصائيات تتحدث عن عمر لا يزيد عن 40 سنة. فانا عمري الآن 32 سنة. لكنني سوف لن استسلم ابداً.
- بالتأكيد فنحن نقول ان كل شيء بمشيئة الله.
مارتن : يبدو انك رجل متدين، اليس كذلك؟
- هذا صحيح ولكنني متفتح على الاديان والاراء الاخرى ولا اءمن بالتزمت الديني.
مارتن : هذه صفة حميدة.
- وماذا عنك؟
مارتن : انا اءمن بوجود خالق واحد لكنني لا امارس اي طقوس دينية. ديني الاصلي هو المسيحية البروتستانتية.
- وماذا عن خطيبتك ايما؟
مارتن : هي تحمل نفس افكاري. انها ايضاً مصابة بمرض التصلب المتعدد كما اسلفت وكانت صدفة جميلة حين التقينا للمرة الاولى لتلقي العلاج في المشفى ووقعنا بالحب من اول نظرة.
- تبدوان بغاية التفاهم، اتمنى لكما السعادة الدائمة.
مارتن : وماذا اعددت لي اليوم؟
- اليوم ستتذوق وجبة شعبية يحبها العراقيون كثيراً. انها الباميا وتسمى بالانكليزية Okra.
مارتن : اجل اعرف هذا النبات ولكننا نسلقه ونتناوله مع باقي الخضار.
عندما انتهيت من اعداد الطعام استدعيت ضيفي المميز للمائدة فجلس امامي ورحت اقدم له الرز والمرق. كان اعجابه كبيراً بالطعام خصوصاً عندما نصحته بتناول البصل الطازج مع البامية فتناوله وعقب،
مارتن : ستطردني ايما الليلة لانام خارج المنزل من شدة نفوذ رائحة البصل.
قالها وهو يضحك فعلمت انه يمازحني. بعد ان انتهينا من الطعام احضرت قوري الشاي فشربه وجلس يستمع الى الاغاني الانكليزية التي امتلك مكتبة كبيرة منها. هنا انتهزت الفرصة لاسأله،
- لاحظت ببيتك ان لديك آلة الپيانو فهل تستطيع ان تعزف عليها؟
مارتن : اجل اعزف على البيانو منذ ان كان عمري 7 سنوات.
- وماذا عن آلة القيثارة التي رأيتها في الطابق العلوي ببيتك؟
مارتن : اعزف على القيثارة ايضاً. بالواقع انا عضو في فرقة قمنا بتشكيلها انا وزملائي لنقوم بأحيائها مرة كل الاسبوع ونعزف هناك بالمجان.


- يا الهي انت فنان عظيم. هل كانت هذه حرفتك دائماً؟
مارتن : كلاً. كنت أدَرّس التاريخ الانگليزي بجامعة كوبنهاگن لكنهم استغنوا عن خدماتي لانني لا اقوى على الوقوف طويلاً اثناء القاء المحاضرات.
- هذا يعني ان لديك شهادة دكتوراه اليس كذلك؟
مارتن : اثنتان.
- ماذا تقصد؟
مارتن : لدي دكتوراه بالتاريخ الانگليزي ودكتوراه بالادب الانگليزي من جامعة يورك ببريطانيا.
يا الهي هذا الانسان كله مواهب، لديه شهادات عليا وعازف بيانو وعازف قيثارة ومع كل ذلك فهو في غاية التواضع. صدق الشاعر حين قال، "ملأى السنابل تنحني بتواضع ... و الفارغاتُ رؤوسُهن شوامخُ"
مارتن : لقد قامت الحكومة باحالتي على التقاعد المبكر بسبب مرضي.
- وماذا عن ايما؟
مارتن : هي ايضاً متقاعدة. ايما هي حب حياتي، تخيل! بامكانها ان تتحدث 11 لغة بطلاقة والآن تريد ان تتعلم اليابانية.
- ومتى تنوون الزواج؟
مارتن : بمطلع العام القادم اي 2006.
- اتمنى لكما حياة ملؤها السعادة.
مارتن : ماذا يجري في التلفاز؟ فانا ارى الكثير من العنف.
- انها اسرائيل تعامل الفلسطينيين بكل قسوة كالمعتاد.
مارتن : هذا امر مروع حقاً. لدي صديق فلسطيني يحدثني عن الممارسات البشعة التي يرتكبها الصهاينة ضدهم.
- اجل هذا صحيح لكنهم لم ولن يستطيعوا كسر شوكة الفلسطينيين لانهم لن يستسلموا ابداً. وسيأتي يوماً يستردون به ارضهم.
مارتن : هل جذورك من فلسطين؟
- يا صديقي العزيز، عليك ان تعرف حقيقة مهمة جداً. ليس بالضرورة ان اكون ولدت بفلسطين كي اطالب بتحريرها. فكل عربي من المغرب الى العراق هو بالداخل فلسطيني وبالخارج يحمل جنسية بلده. لذلك سيبقى جميع العرب يناضلون حتى تتحرر فلسطين من دنس الصهيونية.
مارتن : انا اعلم ان عزيمة وتصميم مثل هذا سيؤدي الى تحرير فلسطين.
ولما بلغت الساعة الخامسة تلقى صاحبي مكالمة من سائق السيارة التي سترجعه الى منزله. فخرج يتكئ على عكازه وهو سعيد.
بعد تلك الزيارة استمرت لقائاتنا المتكررة وكنت استمتع بصحبته وصحبة خطيبته ايما حتى جاء موعد الزفاف.
في صباح ذلك اليوم اتصلت بمارتن لاخذ منه عنوان الكنيسة التي سيعقد بها القران فاخبرني بانها الكنيسة الوحيدة بمدينة هلسنيور وهو لا يعرف اسمها. لذلك قررت ان اذهب هناك وأسأل المارة عنها. بعد ان ارتديت افضل ما عندي من ملابس ركبت سيارتي وتوجهت الى مدينة هلسنيور تاركاً ما يقرب من ساعة ونصف قبل موعد بدأ المراسيم. وعندما وصلت المدينة اصابتني خيبة امل كبيرة إذ رحت اسأل المارة عن الكنيسة فاتضح ان هناك الكثير من الكنائس بتلك المدينة ولا احد يعلم عن عناوينها. فتوجهت لاقرب واحدة منها ودخلت بالداخل لاجد الكنيسة يقام فيها قداس اعتيادي ولم يكن حفل زفاف اصدقائي. خرجت ثانية وسألت المزيد من المارة فلم يحالفني الحظ. كنت اشعر باحباط ما بعده احباط لانني خذلت صديقين عزيزين على قلبي ولكن لم يكن باليد حيلة. توقفت عند احدى المطاعم الفورية (مكدونالدز) وتناولت وجبة غدائي هناك ثم رجعت الى بيتي اجر ذنبي ورائي. بمساء ذلك اليوم اتصلت بمارتن على هاتف منزله فردت علي زوجته ايما. وضحت لها سبب اخفاقي في حضور حفل الزفاف لكنها قالت انني لم اكن وحدي، فالكثير من المدعوين عانوا نفس مصيري ولم يجدوا الكنيسة التي وقع فيها عقد القران بالوقت المناسب. كذلك اخبرتني انهم سيطيرون الى البرتغال باليوم التالي لقضاء ثلاثة اسابيع من شهر العسل يقضونها بمنزل والديها ثم يعودا بعدها الى الدنمارك. تمنيت لهما رحلة سعيدة موفقة.
فور بعد عودتهما من شهر العسل اتصلا بي وطلبا مني زيارتهما ببيتهما فلبيت الدعوة واخذت معي هدية تتناسب مع ميزانيتي الركيكة فابدوا فرحتهم بها بالرغم من تواضعها. استدعيتهما الى مطعم تركي يدعى مطعم انقرة في مدينة كوبنهاكن كي نتناول وجبة الغداء هناك فقبلا دعوتي. ركبنا سيارتي وتوجهنا بها الى المطعم لنتناول وجبة تركية دسمة. بعدها اوصلتهما الى منزلهما وعدت ادراجي الى بيتي.
استمرت زيارات مارتن الى بيتي مع زوجته ومن دونها. وكنت استمتع بصحبة ذلك الانسان اللامع الذي اجتمعت فيه مواهب كثيرة وخبرات ومعلومات لا تعد ولا تحصى لكنه باحدى زياراته اراد ان يفضفض لي عما يدور بباله صدره فاخبرني ان لديه مشكلة كبيرة تؤرقه إذ قال: منذ بضع سنين وقبل ان اتي الى الدنمارك كنت اعمل كمراسل لمحطة (سي ان ان) الامريكية في بلغاريا وكنت اغطي الحياة الاقتصادية بذلك البلد الذي تحرر للتو من الماركسية. هناك تعرفت على سيدة بلغارية. كنت معجباً بجمالها وثقافتها واخلاقها الرفيعة، فهي تحمل الدكتوراه بالعلوم السياسية. قمت بمقابلتها في لقاء تلفزيوني ثم شعرت منها التقرب فاوقعتني ببراثنها. لم يمر على لقائنا سوى بضع شهور الا واصبحت حلقات الزواج تزين اصابعنا لنسكن وقتها في شقة متواضعة باحدى ضواحي العاصمة صوفيا. بقيت علاقتنا جيدة بل واكثر من جيدة حتى وضعت ابنتي ايڤا. فجأة تحولت علاقتنا الى جحيم لا يطاق انتهى بطلاق بشع بعد بضع شهور من ولادتها. كان كل ما يهمها في ذلك الحين هو المبلغ الذي ستتقاضاه من جراء الطلاق. بقيت انا في بلغاريا حتى بدأت صحتي تتدهور وتطلّب مني الامر مراجعات طبية مكلفة فقررت الانتقال والمجيء الى الدنمارك لاستقر فيها. بعدها التقيت بزوجتي ايما اثناء فترة علاجي وقررنا الزواج بعد سنة من لقائنا والباقي انت تعرفه.
- وماذا عن ابنتك؟
مارتن : بلغت الآن سبع سنين ولم اتمكن من التحدث اليها ولا حتى في الهاتف. كانت طليقتي تحرص على حرماني منها كي تجعلها ورقة ضغط للحصول على المزيد من المبالغ الخيالية التي طلبتها مني بالمحكمة. الا ان المحكمة لم تحكم لها باي مبالغ.
- هل لديك صورة لها؟
مارتن : اجل انظر، هذه الصورتها عندما كان عمرها 4 سنوات.


وهذه صورتها عندما بلغت السابعة تقف الى جانب طليقتي.
- اكاد لا اصدق. هل يمكن ان تحصل هذه القسوة في بلاد اوروبية؟
مارتن : انت لا تعرف بلغاريا.
- ومتى رأيتها آخر مرة؟
مارتن : عندما كان عمرها بضع شهور فقط.
- هل حاولت الذهاب الى بلغاريا لمقابلتها؟
مارتن : اجل ذهبت في العام الماضي تحت ضغط شديد من زوجتي الحالية ايما لكن طليقتي لم تفتح لي الباب حين وصلت شقتها وباليوم التالي اخذت ابنتي معها وغادَرَتْ في رحلة لم اعرف وجهتها. فاضطررت العودة دون ان اراها.
- يا لها من ساقطة. اتمنى من كل قلبي ان تتمكن من الاجتماع بابنتك يا صديقي العزيز.
مارتن : اشعر بارتياح كبير لانني اخبرتك بقصة ايڤا.
- انا متأكد من ان الله سيجمعك بها عاجلاً ام آجلاً لانك انسان طيب وتحب الخير للناس.
بعد هذا اللقاء بقيت انا وصديقي مارتن في تواصل كبير على مر السنين حتى جاء موعد زفاف ابني يحيى فلبى دعوتي وحضر الزفاف. كان ذلك بشهر آذار 2012 اقيمت حفلة زفاف ابني يحيى وكان اول المدعوين صديقي المقرب مارتن الذي حضر وحيداً لان زوجته ايما كانت قد سافرت الى مقاطعة يولاند البعيدة لزيارة اقاربها.


بقي مارتن شخصاً مهماً في حياتي وكاد الجميع يظن انه احد اقاربي فقد كان يحضر جميع مناسباتي الاجتماعية وانا كذلك حتى دعاني يوماً الى حفل عيد ميلاده الاربعين. كان ذلك في شهر اذار 2013 إذ لبيت دعوته بدون ادنى تردد وكان قد اقامها في منزل اقارب زوجته بمزرعة ريفية بعيدة عن العاصمة كوبنهاكن.
كانت الاجواء رائعة جداً وكل المدعوين كانوا سعداء يهنؤون مارتن على بلوغه سن الاربعين خصوصاً وانه كان يعلم ان هذا السن هو الحد الاقصى لمرضى التصلب المتعدد. الا ان مارتن لم يكن ممن يستسلم لليأس لانه اكثر انسان متفائل رأيته بحياتي.


بعد ان رجعت الى بيتي قمت بتعديل الصورة اعلاه بالفوتوشوب من باب المزاح وبعثتها اليه فضحك عليها كثيراً وقال بانني قد اضفت جمالاً على وجهه.


في حزيران 2016 اتصل بي مارتن ليهنئني بعيد ميلادي وسألني،
مارتن : اين ستقضي الاحتفال بعيد ميلادك.
- سابقى في بيتي لماذا؟
مارتن : هل سيزورك احد؟
- كلا.
مارتن : لماذا لا نحتفل انا وانت فقط ما رأيك؟
- انت تعلم انني اسعد كثيراً بلقائك دائماً.
مارتن : إذاً ساتي اليك اليوم وسوف نحتفل بمدينة روسكلة.
- انا موافق.
التقيت مارتن بعد تلك المكالمة بساعتين وتمشينا في اكثر شوارع مدينة روسكلة اكتظاظاً واخترنا طاولة باحدى المطاعم المفتوحة. رحنا نتناول الاطعمة اللذيذة هناك وهكذا كان دائماً صديقي المقرب لانه لم يشأ ان ابقى وحيداً بعيد ميلادي.


في عام 2017 استدعاني مارتن لحضور حفل اعادة قطع العهود. وهذا التقليد لدى الغرب هو امر مثير للاهتمام. ففي اوروبا يقومون بعمل حفلة بعد مرور بضع سنوات على ارتباط الزوجين واعادة تقديم العهود التي قد تكون مضت او نسيت منذ فترة العرس الاول. فيكون كالاسمنت لتقوية اواصر الحب والتماسك فيما بينهما.
ذهبت الى شقتهما الجديدة في كوبنهاكن محملاً بعدسات كامراتي الاحترافية وقدمت لهما هدية متواضعة. لاحظت ان جميع المدعوين كانوا اناس في غاية اللطف والاخلاق العالية. كانوا يكنون للزوجين الكثير من الود متمنين لهما حياة ملؤها المحبة والتفاهم.
بدأ مارتن وزوجته بقص الكعكة وقام باطعام زوجته منها وقامت هي الاخرة باطعامه.


بقي الاحتفال حتى ساعة متأخرة من الليل لكني اعتذرت لاضطراري الرحيل بسبب بعد بيتي عن شقتهما.
بقيت لقائاتنا تتواصل وتتجدد بشكل منتظم حتى اتصل بي يوماً من ايام 2017 وقال انه ينوي زيارتي باليوم التالي فرحبت به واخبرته بانني ساعد له وجبة عراقية عريقة تدعى (تبسي بيتنجان) فاخبرني انه يتطلع لتذوقها. وفي اليوم التالي وصل مارتن تمام الساعة الحادية عشر صباحاً فجلس بصالتي لاقدم له الشاي الذي يحبه كثيراً وجلست اتحدث معه حتى يحين موعد تناول الطعام. وفي هذه الاثناء كان التلفاز يعمل الا انني وضعته في الوضع الصامت كي نتمكن من التحدث فيما بيننا. ولما مرت ساعة على وصوله وضعت التبسي الذي قمت باعداده مسبقاً في الفرن وانتظرنا بفارغ الصبر نتضرع جوعاً بعد ان غمرت انوفنا رائحة البيتنجان واللحوم وصلصة الطماطم. في هذه الاثناء اخرجت صحناً زجاجياً من البراد يحتوي على السلطة وصحن آخر يحتوي على المقبلات والخبز. وعند نضوج الطعام وضعته على الطاولة ورحنا نأكل بشهية غير مسبوقة. لم ارى مارتن يأكل بهذه الشهية المفتوحة لانه احب طعامي واخبرني بانني يجب ان افتح مطعماً اقدم فيه الاطعمة العراقية التقليدية. وبعد الانتهاء من الوجبة انتقلنا الى الصالة ليجلس امام التلفاز الصامت وينظر اليه لكنه اصيب بالذهول. طلب مني ان ارجع الصوت للتلفاز كي يسمع ما يدور ففعلت لنسمع مذيع الجزيرة (الانكليزية) يسرد اخبار اللاجئين السوريين الذين قضوا نحبهم غرقاً اثناء محاولتهم العبور في البحر الابيض المتوسط في طريقهم الى اليونان. لاول مرة اشاهد مارتن يبكي. لقد سالت دموعه بشكل غير ارادي وبقي يتابع الخبر باهتمام كبير. وعندما انتقل المذيع الى خبر آخر سألني،
مارتن : الى متى ستبقى هذه الحالة والناس يعانون من الظلم يا احمد؟
- حتى تترك جميع الاطراف سوريا كي يقرر شعبها مصيره وترجع الامور الى نصابها.
مارتن : وماذا عن اللاجئين؟
- حالياً، انهم يعانون كثيراً في مخيمات اللاجئين ويتعرضون للكثير من الاذي والاقصاء والتعنيف بعدة بلدان في العالم.
مارتن : وهل يعنفونهم في اليونان؟
- كلا لا اعتقد ذلك فاليونان يحتظنهم، ولكن امكانيات اليونان الاقتصادية لا تسمح له ان يقدم لهم كل ما يحتاجون اليه من خدمات.
مارتن : هل يدرّسون اطفالهم؟
- لا ادري لكنني لا اعتقد ذلك.
مارتن : لا بد ان يكون هناك شيئ نستطيع تقديمه اليهم.
- وماذا بيدنا ان نفعل؟
مارتن : على الاقل نحن نستطيع ان ندرّس اطفالهم.
- من تقصد بنحن؟
مارتن : اقصد انا وغيري.
- هذا امر اكبر من اناس مثلي ومثلك يا مارتن. كل ما نستطيع فعله الآن هو ان ندعوا لهم بالنجاة والخير كي يحنن الله عليهم قلوب المنظمات الانسانية. على العموم ها قد اعددت الشاي الذي تحبه.
تناول الشاي بالاستكان لكنه لم يرجع الى حالته الطبيعية المرحة كما عودني. وعندما اصبحت الساعة تشير الى الخامسة عصراً تلقى مكالمة هاتفية من سائق السيارة يخبره بانه اصبح خارج منزلي ليقله الى شقته.
بعدها لم اسمع من مارتن لاكثر من اسبوعين كاملين حتى اتصل بي بعدها هاتفياً وقال،
مارتن : اردت ان اودعك لاني سارحل الى اليونان مع زوجتي ايما.
- يا لك من محظوظ، الى اي جزيرة انت ذاهب؟
مارتن : انا لن اذهب لغرض السياحة. لقد اجرينا اتصالات مع بعض الجهات باليونان وعلمنا ان هناك مخيم كبير في منطقة سيلونيكا باليونان يعج باللاجئين.
- وماذا ستفعل هناك؟
مارتن : اخبروني ان لديهم مدارس لاطفال اللاجئين وهم في حاجة ماسة الى مدرسي اللغة الانكليزية. سنقوم انا وزوجتي بتدريس اطفال اللاجئين.
- هل جننت يا مارتن؟ كيف ستذهب الى هناك وكيف ستقوم بجني قوتك؟
مارتن : انت تعلم اننا واقصد انا وزوجتي متقاعدان في الدنمارك. لذلك سنستلم رواتبنا التقاعدية في اليونان.
- وماذا عن السكن؟ اين ستسكنون؟
مارتن : لقد عرض علينا بعض الاصدقاء كي نسكن عندهم في بيتهم القريب من المخيمات.
- ولكن هذا جنون. عمل مثل هذا يجب ان يقوم به اناس اصحاء.
مارتن : لا تقلق من هذه الناحية فسوف نتلقى نفس علاجاتنا هناك في المستشفيات اليونانية.
- ولماذا لا تترك الامر لاناس آخرون غيركم؟
مارتن : لو ترك الناس مسؤولياتهم وراء ظهورهم فسوف لن يقوم احد بفعل ما هو صحيح.
- انا اقدر واثمن اندفاعك هذا ولكنك لا زلت لم تحل مشكلة ابنتك ايڤا اليس كذلك؟
مارتن : ساواصل تتبع القضية مع المحامي من اليونان. انا لن استسلم حتى اتمكن من رؤية ابنتي عاجلاً ام اجلاً.
- على العموم انا اعتقد ان ما ستعملانه هو امر بطولي جداً. ولكن ماذا عنا؟ كيف سنتواصل؟ فانا سافتقدك كثيراً.
مارتن : لا تقلق يا احمد، فصاحبي اليوناني لديه الانترنيت ببيته وسوف اتصل بك من خلال حاسوبي المتنقل عن طريق الماسنجر. وسوف التقيك كلما اتيت الى الدنمارك. وبامكانك زيارتي الى اليونان إن اردت. ساتبرع لك بثمن التذاكر.
- انا لازلت اعتقد ان ما تفعله هو ضرب من الجنون.
مارتن : بالعكس يا صاحبي. ساكون معتوهاً لو انني وقفت مكتوف اليدين دون ان اقدم المساعدة لمن يستحقها.
- هذا نبل منك حقاً.
بعد ثلاثة اسابيع تلقيت منه مكالمة عبر الحاسوب. كانت ايما واقفة خلفه وهي تصدر اصوات الترحيب الجنونية وتلوح بيديها كما كانت تفعل بالسابق. سعدت جداً للحديث معهما وسألتهما عن احوالهما فقالا انهما باحسن حال وان اصدقائهما يوفران لهم كل شيء. كذلك اخبراني انهما سعداء جداً للبدئ بتعليم اللاجئين السوريين لانهم ودودين و(عِشَرِيين) جداً ويحبونهم بشكل كبير.
بقيت اتواصل مع مارتن بمعدل مكالمة كل اسبوع وفجأة ودون مقدمات دخلت مكالماتنا الصمت القاتل وكان ذلك في عام 2018. كنت اكتب لمارتن رسائل نصية عبر الماسنجر لكنه لم يكن ليرد عليها كعادته. كنت اتفقد ردود رسائلي في الحاسوب كل يوم فلا ارى رداً عليها منه. تخيلت ان عطلاً ما قد وقع بحاسوبه او انه سافر الى وجهة معينة كما كان يفعل في السابق. لكنني لم اكن انوي الاستسلام ابداً. بقيت ابعث بالرسائل الواحدة تلو الاخرى بعد ان ارى رسائلي القديمة وقد اهمل مارتن فتحها. هل حل بصاحبي مكروه لا سامح الله؟ لا، لايمكن ذلك فالرجل ذهب برحلة انسانية طوعية لا يمكن ان يتركها قبل ان يتممها باحسن حال.
استمرت محاولاتي في الاتصال به على جميع ارقام الهواتف التي كانت بحوزتي دون جدوى. كنت مستعداً لان اسافر الى اليونان لأبحث عنه في سالونيكا ولكنها مدينة كبيرة. اين ساجده وسط مدينة تعداد سكانها حوالي المليون نسمة. بقيت اضرب اخماساً باسداس وكل يوم كنت اطلع بفكرة جديدة للبحث عنه لكنها بائت بالفشل جميعاً. بقيت محاولاتي على مدى سنة كاملة حتى دخلت صفحته في الفيس بوك لاجد الكثير من المنشورات القديمة له ثم دخلت على صفحة زوجته ايما. كان الامر مشابهاً لصفحة مارتن الكثير من المنشورات القديمة وفجأة خطرت لي فكرة. لاحظت تعليقات قديمة لاصدقائهم فقررت ان اراسلهم جميعاً واسألهم عن مكان مارتن وايما. اجابني احدهم ويدعى گوستاف لانغ فدخلت عنوة صفحته وخاطبته بشكل مباشر. بدأت بالاعتذار منه لانه لا يعرفني لكنني ابديت قلقي ازاء مارتن وزوجته ايما لانني كنت صديقاً مقرباً لهما فاخبرني بانهما قد توفيا بتاريخ 2/7/2018 ولكن كيف ماتوا يا گوستاف؟ قال انهما ماتا بسبب جرعة زائدة من الدواء الذي يتلقيانه لمرضهما. عثر عليهما متوفيان توفيا وهما ممسكان بايدي بعضهما البعض بسلام في بيت اصدقائهما اليونانيين. بعدها
قام بعض الاصدقاء باعداد صورة تأبينية تجسد حبهما لبعضهما من جانب وحبهما لعمل الخير من الجانب الآخر.


كان كلامه بمثابة صدمة كبيرة في صدري فانا اعلم انهما كانا يعانيان من مرض خبيث سيؤدي الى رحيلهما بالنهاية لكنني لم اكن اتوقع ذلك بهذه السرعة. وللامانة فانا فرحت لانهما عملا آخر جرعة من عمل الخير في حياتهما ليقدما والعون للاجئين. كذلك حزنت كثيراً لان مارتن لم يتمكن من لقاء ابنته بعد كل تلك السنين. ففازت طليقته السافلة بابعادها عنه.
وداعاً يا ايما ياصاحبة القلب الذهبي والروح النرجسية المرحة والدم الخفيف. انتِ التي كنت تدرسين اللاجئين ببيتك بالدنمارك وتعينيهم على تعلم اللغة الدنماركية واليوم رحلت وانت تعينين اللاجئين السوريين في موطئ قدمهم باليونان. وانت يا مارتن يا اطيب واحن واصدق صديق. لقد رحلت وتركت فراغاً كبيراً في حياتي. كل ما فعلته وكل ما قلته سيبقى محفوراً بذاكرتي حتى مماتي. لن انساك ابداً لانك كنت اعز صديق. ولن انسى مقولتك التي لا تزال ترن برأسي (لو ترك الناس مسؤولياتهم وراء ظهورهم فسوف لن يقوم احد بفعل ما هو صحيح).
رحل مارتن عن عمر 45 سنة و4 شهور و4 ايام.
رحلت ايما عن عمر 36 سنة و2 شهر و21 يوما.
وداعاً ايها الملاكين الجميلين لقد عدتما الى الجنة. بقيتما باحظان بعضكما البعض حتى عند المغادرة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع