المُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء الأول

                                                          

                الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

            

لمُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء الأول

من الأسماء اللامعة في سماء العراق في العصر الحديث المُلا عثمان الموصلِيّ (1854-1923م)، وهو قارئ وشاعر وعالم بفنون الموسيقى، وأحد قادة الفكر أدبا وعلما وفنا؛ وقد ترك آثارا نفيسة في العراق والعالم العربي وما جاوره.

هو عثمان بن عبد لله بن جرجيس بن محمود بن يحيى الدليمي الزبيدي المنسوب إلى بيت الطَّحان في مدينة الموصل، وينتهي نسبه إلى عشيرة الدليم (فخذ المحامدة) البو عزام.

ولد في الموصل في محلة (باب جديد) في جنوب شارع الفاروق في زقاق يقع مقابل (مسجد الشيخ شمس الدين).

وعثمان هو الولد الرابع لأسرة ضعيفة الحال، وكان والده (عبد الله) يعمل (سقّا)، حيث يجلب الماء من نهر دجلة ليقوم بتوزيعه على البيوت.

ابتلى الله الطفل عثمان بمحن كثيرة، فعندما كان في السابعة من عمره توفي والده تاركا أولاده برعاية أمهم المُعدمة، ثم هجم وباء الجدري على الموصل، فأصاب عثمان وأفقده بصره ليغرق في عالم الظلام وليقضي بقية حياته مكفوف البصر.

أخذه جارهم (الوجيه محمود أفندي العُمري) إلى بيته وضمه إلى أولاده، وعيّن له معلما يُحفظه القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة والشِعر.

كما درس عثمان العلوم العربية والدينية على يد علماء عصره وتعمق في دراسة الدين وارتدى زي رجال الدين. ثم رتَّب له محمود العُمري من يُدربه على الموسيقى ودراسة قواعدها وأصولها. فتفوق في هذه الميادين بسبب رغبته الشديدة في التعلم وقابليته للحفظ وذكائه الشديد.

تزوج عثمان في مقبل حياته في الموصل من امرأة موصليّة اسمها (أرخيته) وأنجب منها ولديه أحمد وفتحي، وأرسله الشيخ (عبد الله رفعت العُمري) الذي كان يشغل موقع مدير بلدية الموصل إلى تركيا للدراسة عند أحد معارفه هناك والمدعو (أنور متولي) الذي علّمه أصول القراءات والمقامات.

توفي (محمود أفندي العُمري) الذي تولى رعاية عثمان في الموصل عام 1865م، فترك عثمان الموصل وهو في العقد الثالث من عمره متوجها إلى بغداد لينضم إلى ابنه (أحمد عزت باشا العُمري) الذي فُتح له أبواب المجتمع البغدادي الذي تلقفه إعجاباً بصوته وحباً بفنه وإنشاده الرائع للقصة الشريفة والمقامات العراقية.

وفي بغداد صار المُلا عثمان المنشد الأول في الحضرة الكيلانية وذاعت شهرته هناك، ثم حج الحجة الأولى ورجع إلى الموصل وأكمل دراسته على يد كبار شيوخها.

سافر إلى إسطنبول وتعرُّف هناك بشيخ مشايخ الدولة العثمانية (شيخ الإسلام) الشيخ الصوفي الحلبي محمد أبو الهدى الصيادي (1849-1909م) والذي كان يحظى بمنزلة الكبيرة عند السلطان.

يعرف الأتراك المُلا عثمان بحافظ عثمان أفندي الموصلِيّ Musullu Hafiz Osman Efendi، و(الحافظ) هو لقب يُعطى لحفظة القرآن الكريم، وقد أقام الموصلِيّ في إسطنبول في زيارته الأولى ثماني سنين بين عامي 1887م و 1895م، نال خلالها حظوة السلطان عبد الحميد الثاني لفخامة صوته وحسن تلاوته، فعيّنه السلطان شيخا لقُراء جامع آيا صوفيا في العاصمة إسطنبول.

ويروي محمّد نظمي أوزالب في كتابه (تاريخ الموسيقى التركيّة) (2000) أنّ جامع آيا صوفيا كان يمتلئ عن آخره بالمصلّين القادمين للاستماع لتلاوة المُلا عثمان المُميزة.

سافر المُلا عثمان إلى مصر مرتين، وفي عام 1895 تتلمذ على يد الشيخ يوسف عجور بطنطا.

تنقّل الموصلِيّ في عدد من البلدان: العراق وتركيا ومصر وليبيا ولبنان وسوريا، وقد تتلمذ على يديه أسماء كبيرة في تلاوة القرآن وفي الموسيقى. وكان من نتائج تنقلاته نقله المقامات من وإلى هذه البلدان.

لقد أرسى الموصلِيّ قواعد الطريقة البغدادية في قراءة القرآن الكريم. ومن أشهر تلاميذه في الموصل محمد صالح الجوادي الذي تخرَّج عليه جيل من القُراء. وفي بغداد درَّس الموصلِيّ في جامعي الخفافين والمرادية، وأشهر من تتلمذوا على يديه عالم اللغة العربية الموسوعي محمد بهجة الأثري (1904-1996) الذي قال عن نفسه: (إنه درس عليه علم القراءات السبع في أوائل العام 1920).

وذكر الشاعر حافظ جميل (1908-1984) أنه درس القرآن الكريم على يد المُلا عثمان وصار يقرأ القرآن يوم الجمعة في الحضرة الكيلانية. كما كان الحاج محمود عبد الوهاب (1895-1970)، الذي صار من أشهر مقرئي القرآن الكريم في الإذاعة والتلفاز، قد درس القرآن وتخصص به على يد الموصلِيّ. وكذلك تتلمذ على يدي الموصلِيّ الحافظ مهدي العزاوي (1894-1959) وهو أحد أبرز أعلام القُراء في تلاوة القرآن الكريم في العراق قارئا ومنشدا للموشحات والأذكار النبوية.

ومن الذين درسوا على يد الموصلِيّ المُلا عبد الفتاح معروف (1891-1989)، وهو قارئ قرآن وقارئ مقام عراقي شهير، ومن تلاميذ الموصلِيّ أيضا محمد وحيد الدين أحمد القادري والحاج عبد القادر عبد الرزاق بن صفر أغا وعبد الرزاق القبانچي والد مطرب العراق الأول محمد القبانچي (1904-1989).

تؤكد المصادر المصرية أنه خلال تواجد المُلا عثمان في مصر خلال زيارته الثانية لمصر والتي دامت خمس سنين، أنه قد تتلمذ على يديه جمهرة من القُراء المصرين ومن أشهرهم (إمام المنشدين) الشيخ على محمود (1880ـ1946) الذي، حاله كحال أستاذه المُلا عثمان، جمع السلطتين: إماما للمنشدين ومرجعا للملحنين. ومن أشهر تلاميذ الشيخ على محمود: إمام الملحنين الشيخ زكريا أحمد الذي أكد أن أستاذه الشيخ علي محمود أخذ الموشحات التركية من المُلا عثمان والذي أدخلها إلى مصر.

ومن تلاميذ المُلا عثمان في مصر المقرئ محمد رفعت (1882-1950) والذي درس في القاهرة على يد المُلا. ويذكر الأديب والشاعر والنحوي العراقي الدكتور أحمد عبد الستار الجواري (1924-1988) أنه سمع المقرئ محمد رفعت نفسه يقول في مناسبات عدة: إنه درس على المُلا عثمان خلافا لمن أنكر ذلك. ومن يتأمل ويستمع إلى قراءة الشيخين يجد تشابها في الأسلوب والأداء ونبرة الصوت، وكلاهما يعتمد على مخاطبة الضمير والمشاعر من خلال التلاوة وكلاهما يتمتع بطبقة غليظة لها عذوبة تسري إلى النفوس وتحملها على التأثر والخشوع.

وفي العام ١٩١٣ عاد الموصلِيّ إلى الموصل فاُستقبل فيها استقبالاً حافلاً وبقي فيها حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ حين انتقل إلى بغداد للإقامة النهائية فيها عند ولده فتحي.

عاش الموصلِيّ في بغداد في منطقة باب الشيخ (فضوة عرب) ولا تزال هذه المحلة تسمى (محلة الحاج فتحي)، وبالوقت نفسه كانت له غرفة يستريح فيها بعد الصلاة في جامع الخفافين، وفيها جاءه عدد من رجال الدين وابلغوه بقرار تنصيبه شيخا لقُراء بغداد، واخبروه بأن يحضر إلى جامع (نائله خاتون) (جامع المرادية حاليا) مقابل وزارة الدفاع الحالية بين باب المعظم والميدان.

وفي صيف سنة 1914 قامت الحرب العالمية الأولى، فدعت الحكومة العثمانية في بغداد من يستطيع حمل السلاح إلى الانخراط في الجيش واستعانت حكومة ولاية بغداد بالموصلِيّ في رفع الروح المعنوية عن طريق الأناشيد الحماسية لنظمها وتلحينها.

يروي الحاج ناجي زين الدين إنه كان تلميذاً في حينه في مدرسة السلطاني، وهي مدرسة عثمانية تأسست سنة 1890م، أنه قد زار الموصلِيّ المدرسة وكان مديرها السيد نوري البرزنجي. فألقى الموصلِيّ محاضرة على الطلاب في الأنغام وأنواعها، واختتم محاضرته بنشيد من نظمه وتلحينه من نغم الرست في تمجيد الجيش مطلعه:

عسكرنا (سفربر) ... هلل ثم كبَّر
نرجو له أن يُنصر
يا رب.. يا رب

وخلال حفلة أقامها الموصلِيّ بذكرى المولد النبوي الشريف في دار العلّامة الأستاذ عبد الوهاب النائب في محلة الفضل تعرَّف الموصلِيّ على مطرب العراق الأول المرحوم محمد القبانچي (1904-1989)، وكان وقتها شابا خجولا في أول الطريق نحو الغناء. وبعد أن أنشد الموصلِيّ طلب من القبانچي المشاركة بما يحفظ من المقامات، وكان حاضرا بصفة مستمع مع ابن عمه عبد الرحمن شرف، فأعجب به المُلا عثمان وأجرى معه حوارا مطولا وختمه بجملة مفيدة (اذهب يا محمد.. أمسك بالطريق فهي واسعة).

مضت على المُلا عثمان أربع سنوات في بغداد، وكان صديقا ودودا لأهل بغداد وله من بينهم أصدقاء كثرة من أعيان المدينة كالشيخ العلامة عبد الوهاب النائب وأستاذه السيد محمود شكري الالوسي الذي درس عليه علوم العربية قبل سفره إلى استانبول.

من المآثر التي عُرف بها عثمان الموصلِيّ حبه لوطنه وإسهامه في مقاومة الاحتلال البريطاني. وكان يشترك مع المدافعين عن هذا الوطن بخطبه التي يلقيها في الحشود المتظاهرة في الجوامع مما يدل على روحه الأصلة وشعوره بالمسؤولية تجاه بلاده.

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وانتهت بسقوط الخلافة العثمانية احتل الإنكليز العراق واحكموا سيطرتهم عليه مما أدى إلى قيام ثورة العشرين سنة ١٩٢٠، وكان الثوار يجتمعون في جامع الحيدرخانه للاستماع إلى المُلا عثمان وهو يخطب فيهم ويحرضهم على الجهاد فيخرجون في مظاهرات عارمة أزعجت الإنكليز.

وبعد أن انتهت ثورة العشرين اعتكف الموصلِيّ في غرفته في جامع الخفافين ببغداد وقد زاره فيها الملك فيصل الأول.

                  

وفي 30 كانون الثاني سنة 1923م، ويصادف يوم ثلاثاء، لبى المُلا عثمان الموصلِيّ نداء ربه عن عمر يناهز التاسعة والستون وهو بحضن تلميذه الشيخ عبد الفتاح معروف (1891-1989)، وقد دُفن في مقبرة الغزالي في جانب الرصافة.

لقد رثاه الشاعر والصحفي البغدادي عبد الرحمن بن بطّي البنّاء (1882-1955) بقصيده بعد وفاته مؤكدا على ما يتمتع به هذا الرجل النابعة في فنه وأدبه، ووزنه السياسي وفكره ودوره الوطني والقومي، ومطلع القصيدة:

رحلتَ والصدر بالإيمان ملآنُ ... في ذمةِ الله شيخ العلم عثمانُ
على المنابر تدعو أمة "عجزت" ... عن شرح قصتها شيب وشبانُ
كأنما القوم قد ماتت عواطفهم ... حيث المنابر عند القوم عيدانُ

وفي يوم الثلاثاء الموافق 30 كانون الثاني سنة 2023م، ستصادف الذكرى المئوية لوفاة المُلا عثمان الموصلِيّ؛ رحمه الله واسكنه فسيح جناته.. فقد كان عالما وفنانا وأديبا لن يتكرر.

https://www.youtube.com/watch?v=Ji1gEQ08QV0

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1007 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع