خفايا ودلالات - زعيم الشرطة بشير أحمد السلمان ١٩٢٠- ١٩٧٣

                                                         

                             أ.د. سيّار الجميل

      

خفايا ودلالات - زعيم الشرطة بشير أحمد السلمان 1920- 1973
خدم العراق بمهنيّة عالية ونزاهة كبيرة وكانت نهايته مأساة تراجيدية مؤلمة على يد ابو طبر !

مقدمة

عرفته منذ صغري اذ كان صديقا حميما وقريبا لوالدي ، وكلما حلّ بالموصل يزورنا في البيت ، فهو وهو ابن خالته ، وعندما توفي والدي عام 1968، وجدت بشير قادما الينا وهو يبكي بكاء صعبا وينحب على فقدان أعز اصدقائه .. كان بشير رجلا انيقا في كلامه ورائعا في حديثه ويعتني بملبسه وسليم تصرفاته ، وكان مدير شرطة محترف له مكانته في الدولة التي خدمها طوال حياته القصيرة ، وكان صاحب كلمة مسموعة وله ثقافته الواسعة ومتابعته للشأن العام.. كان متواضعا وسمحا يداعب الصغار ويحترم الكبار .. وكان ضابطا محترفا ومهابا وكان نزيها ونظيفا .. وقد اعتمدت عليه الحكومة العراقية في مواقف عدة واماكن متنوعة من العراق ..
ولد في الموصل في اسرة آل السلمان المعروفة التي برز فيها اخوه الأكبر الاستاذ محمد علي السلمان خبير الدباغة الموصلية الذي درس في المانيا وكان احد رجال الاعمال المعروفين .. بشير ولد عام 1920 ودرس في مدارس الموصل وانخرط في كلية الشرطة ببغداد وتخرج ضابط شرطة وتدرب ببغداد لأكثر من دورة أمنية وبرزت قدراته الممتازة مما جعله موضع ثقة الدولة وقت ذاك ، وشغل منصب معاون مركز شرطة حمام العليل وكان ذلك في اواخر الأربعينات ، وكان رحمه الله محبوبا جدا من أهالي حمام العليل نظرا لكياسته ..
معاون شرطة قضاء دهوك وقصته مع ديوالي أغا
ثم نقل الى معاونية شرطة قضاء دهوك في أوائل الخمسينات وكان معاون شرطة بنجمتين ( ملازم اول) وقد احبه اهل دهوك كثيرا لبساطته واريحيته ، اذ كان يخرج في المدينة مشيًا على الأقدام ويمر بسوقها كلّ يوم ، وكان إصحاب المحلات آلتي يمر عليها يخرجون من محلاتهم تحية واحتراما له كردا وآثوريين .. وينقل لي الصديق الاستاذ نذير الكتبي ( وهو ابن اخت بشير السلمان ) قائلا : " وهنا اود ان اسرد حادثة سمعتها من الشيخ ديوالي أغا وهو احد كبار اغوات دهوك من الكرد البهدينان ، وقد التقيت به في بغداد ، وعندما عرفني وعلم ان بشير السلمان هو خالي أخذ يضحك ، وقال لي :

هل بشير هو خالك( كان ذلك بعد ان قتل بشير من قبل ابو طبر) قلت له : نعم هو خالي. قال لي سوف أقصّ لك حادثة وقعت لي مع خالك الذي كان معاون مركز الشرطة في دهوك ، اذ كنت في يوم من الايام جالسا في بيتي ، قال : دخل عليّ ضابط شرطة بنجمتين ، وسألني : هل انت ديوالي أغا ؟ أستغربت من طريقة حديثه ، وكنت احسب انه جاء ليطلب مني مساعدة او وساطة. قلت له : نعم تفضل . قال لي : انا عندي أمر من وزير الداخلية ( كان المرحوم سعيد قزاز وزيرا للداخلية عام 1954) باعتقالك ! هنآ راودني الضحك وقلت له ليش ما إجا وزير الداخلية بنفسه ليعتقلني . يقول ديوالي أغا : قال لي خالك بشير : انا انوب عنه . يقول ديوالي - رحمه الله - : قلت لخالك والله لو إجا وزير الداخلية وأبونو ما يقدرون يعتقلوني ، ولكن الخاطرك راح اسلم نفسي لانك ضابط شجاع ، وانا راح التقي مع وزير الداخلية وابلغه انه لولا هذا الضابط الوسيم والشجاع لما سلمت نفسي! وقد تحققت ان سعيد قزاز وزير الداخلية فعلا كان يعتمد على بشير السلمان وعلى امثاله من ضباط الشرطة المحترفين في فرض الامن والاستقرار في مناطق جغرافية بعينها .
مدير الشعبة الخاصة في البصرة
لا اعرف اين كانت مناصبه حتى 14 تموز / يوليو 1958 ، ولكن لم يتدّخل بالشؤون السياسية قط ، ولكن بعد قيام حركة الشواف في الموصل ، تم نقل بشير السلمان الى مدينة البصرة وعين ضابط شرطة في الشعبة الخاصة او مديرية الامن لإنه كان ضابط شرطة محسوبا على النظام الملكي او لان ضباط الثورة لم يأتمنوا الى بعض ضباط جهاز الشرطة لأنهم يعتبرونه بالذات موال للنظام الملكي في العراق ، ولكن ليس لدينا اية معلومات عن الفترة التي عاشها في البصرة ولكنه كان يقيم في فندق شط العرب وهو فندق فاخر وموقعه جيد ، ولكن اصوات البواخر كانت مزعجة جدا في الليل والنهار .. وبعد ان خدم فيً البصرة فترة من الزمن وساهم في استتباب الأمن وضبطه للاضطرابات المزمنة .
مدير شرطة كركوك
تم نقله ألى لواء كركوك كمدير عام لشرطة اللواء في كركوك ، وكان ذلك في عام 1961 ، وبقي يمارس عمله في منصبه على افضل ما يكون وضبطه للاوضاع الصعبة التي عاشتها كركوك بعد الموصل .. اتذكر اننا في طريق رجعتنا من بغداد الى الموصل بالسيارة من خلال طريق كركوك توقفنا للسلام عليه ، وكان يمارس عمله في دائرته ، فاخذونا الى غرفته التي يقيم فيها قرب دائرته وفيها سرير منامه ومستلزمات حياته البسيطة . وقد استقبلنا فيها بترحاب كبير وجلب لنا غداء من احد المطاعم واخرج من ثلاجته الصغيرة انواعا من الفواكه ، وودعناه بعد ان شكرناه على ضيافته .. كان جنتلمانا حقيقيا اذ يحسن استقبال الناس ، ويتمتع الرجل باخلاقيات عالية في الحديث فهو عفيف اللسان ومتفاءل بالخير دوما ، وكان حديثه عالي المستوى وهو يرسم الابتسامة على سحنته دوما .
مدير شرطة اربيل
بعد ذلك ، تم نقله مديرا عاما لشرطة لواء اربيل وذلك في عام 1967 و 1968 اذ بقي في منصبه حتى العام 1970 حيث تمّ نقله الى مديرية الشرطة العامة في بغداد. تمهيدًا لاحالته على التقاعد بعد ان أخذ حزب البعث العربي الاشتراكي يسيطر على أجهزة الدولة اثر قيامهم بالانقلاب على حكم الرئيس عبد الرحمن عارف في 17- 30 تموز / يوليو عام1968 وإعتمادهم على العناصر الحزبية لتولي المناصب حتى ولو كانوا بلا كفاءة ولا خبرة ، وبقي زعيم الشرطة بشير السلمان في المكان نفسه حتى أحيل على التقاعد في نهاية عام 1971 . بعد احالته على التقاعد وهو في حدود الخمسين من العمر ، سكن هو وزوجته السيدة بشرى الحاج احمد، المدرّسة في مدرسة الازدهار ( وهي اخت الأستاذ جميل افندي الحاج احمد واخت الشهيد الرئيس الاول (الرائد) يونس الحاج احمد الذي قتل في الموصل بعد فشل حركة الشواف في 8 اذار/ مارس 1959 ) وكذلك كان يسكن معهما إبنهما الوحيد أحمد ( 12 سنة ) .
تراجيديا مصرعه مع عائلته
كانت له داره التي بناها في مدينة الشرطة الأولى ببغداد .. ففي ليلة يوم 4/9/1973 ارتكبت جريمة قتل مروعة لزعيم الشرطة المتقاعد بشير أحمد السلمان وعائلته بمدينة الشرطة الأولى (قرب النفق) حيث دخل ابو طبر واسمه الحقيقي حاتم كاظم هضم الدار مع ابن شقيقته (حسين) بعد ان تسلقا الجدار إلى الدار المجاورة وبقيا بحديقة الدار منذ الواحدة ظهراً حتى الثانية بعد منتصف الليل ومن خلال دار الجيران تسلق ابو طبر الجدار عن طريق السخان ثم فتحة التبريد لسطح دار المجني عليه (بشير) وعائلته وكانوا نائمين في سطح الدار بسبب حر الصيف . وبعد أن تأكد من نومهم جميعا ، بدأ بقتلهم مبتدءاً بـ (بشير) حيث ضربه على رأسه بالطبر ، ثم ضرب زوجة بشير بشرى أحمد خليل ، ثم قتل ابنهما الوحيد أحمد وهو تلميذ في الصف الرابع الابتدائي ، وقتل ضيفهم وقريبهم الشاب إحسان جميل احمد (21 سنة) وكان طالب جامعة وهو ابن شقيق الزوجة بشرى .. وبعد قتلهم جميعا انزل جثثهم مع ابن اخته حسين من السطح الى داخل الدار ووضعوهم في بانيو الحمام . أما جثة الزوجة فقد وضعوها على سرير المنام ثم نقلا المسروقات من المصوغات الذهبية بسيارة المجني عليه وكانت من نوع بونتياك اميركي موديل عام 1958 ووصلا الى دارهما ، ومن ثم قاما بترك السيارة خلف مستشفى اليرموك واختفيا عن الأعين .
ابو طبر وردود الفعل والقاء القبض عليه وشنقه
لقد وقفت على معلومات واخبار حول جريمة ابو طبر هذه بالذات ومنها ملتبس ومنها له علاقة شخصية وخصوصا ان القاتل عمل محاسبا في كركوك واتهم بالاختلاس ، وقد قبض عليه اثناء كان بشير السلمان مدير شرطة كركوك، وفصل منها لتسببه في إحداث أضرار بأموال الدولة.. وحكمت عليه محكمة كركوك بالسجن لمدة سنتين ونصف... ومنها ما يتعلق بالحدث وتدبيره من قبل النظام السياسي الحاكم خصوصا وان بعض عناصر النظام كان قد حقق معها مدير الشرطة بشير السلمان ، وان حاتم هضم كان مجرد اداة لتنفيذ الجريمة ، اذ ان اتهامات مباشرة للمخابرات العراقية أنها السبب وراء هذه الحوادث، حتى تتخلص من بعض المعارضين او المغضوب عليهم منذ ايام ما يسمونه بالنضال السلبي . وثمة من قال بأن حاتم ابو طبر كان عضوا في منظمة حنين الاجرامية ! ولكن الرواية الرسمية تقول العكس ذلك ان ابا طبر مجرم متأصّل في الاجرام ، وأنه اثار ضجة رعب مبرمجة في عموم بغداد عام 1973 .. وقد سمعت مؤخرا ان من قام بالتحقيق مع ابو طبر بعد القاء القبض عليه بعد الشك في امره هو عميد الشرطة المعروف فيصل محجوب – رحمه الله - الذي نجح في استدراج المتهم بعد ان عرف انه المجرم من كفلات الذهب للقميص الذي يرتديه ، وهي تعود اصلا للمغدور بشير السلمان .. وبعد ان وجهت له الاتهامات اعترف بجرائمه ومنها جريمته بقتل بشير السلمان وعائلته .. وقد اتصل العميد محجوب بالرئيس احمد حسن البكر وأعلمه بذلك ، فسيق ابو طبر مع المجرمين المشاركين في جرائمه الى المحكمة ليحاكموا وينفذ فيهم حكم الاعدام شنقا حتى الموت . يحدثّني الاستاذ نذير الكتبي بقوله : " ولما بدأت الانباء تنتشر عن الجرائم المروعة والتي كأن تقع في بغداد قبل ان ينال المجرم ابو طبر من بشير وعائلته ، كان يقول : علىً الحكومة اعلان هذه الجرائم على الراديو والتلفزيون والصحف المحلية حتى يأخذ الناس حذرهم " ، ولكن لم يعلم المسكين آن الحكومة العراقية نفذت ما كان يطلبه بعدما وقعت الجريمة فيه وفي عائلته " !
رحم الله زعيم الشرطة بشير احمد السلمان ورحم اسرته التي قتلت معه ظلما وعدوانا .. رحمة واسعة ، وستبقى نهاية الرجل المريرة علامة بارزة في تاريخ المجتمع العراقي وذاكرته ابان القرن العشرين .

ملاحظة : اتقدّم بالشكر الجزيل الى الصديق الاستاذ نذير اسماعيل الكتبي الذي زودني بالمعلومات عن خاله المرحوم بشير السلمان ..
الصور المرفقة :
صورة المرحوم زعيم الشرطة بشير احمد السلمان .
صورته امام سيارته البونتياك موديل 1958 والتي هرب بها ابو طبر بعد جريمته .
صورته المدنية .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

462 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع