لا عزاء للذين راهنوا على مؤتمر وارسو

                                                   

                               عوني القلمجي

لا عزاء للذين راهنوا على مؤتمر وارسو

أن يراهن المغلوب على امره من عامة الناس في العراق، على مؤتمر وارسو الدولي وقائدته امريكا المحتلة، للخلاص من ايران، جراء ما ارتكبته ميليشياتها المسلحة من جرائم ومجازر وموبقات يندى لها الجبين، فهذا امر يمكن قبوله على مضض، فمثل هذا المغلوب كمثل الغريق الذي يتعلق بقشة، لكن أن تنساق شخصيات سياسية وثقافية، ومنظمات معادية للاحتلال وراء هذا الوهم، فهذه كارثة سياسية واخلاقية فعلا وخروج عن الثوابت الوطنية.
ولتبرير هذا الفعل المشين، اضفى هؤلاء هائلة كبيره على هذا المؤتمر، واعتبروا قائده دونالد ترامب بمثابة علامة الظهور، التي تسبق الهجوم على ايران واقتلاع جذورها في العراق ومن منطقتنا العربية، وانهاء معاناة الخلق من شرورها واثامها، في حين اكدت الاحداث والوقائع العنيدة، بان امريكا المحتلة التي تقود هذا المؤتمر هي من تعاونت مع ايران لاحتلال العراق، وهي التي سمحت لها بمد هيمنتها على العراق، وهي التي افسحت المجال امام مليشياتها المسلحة، لتمزيق وحدة العراق الوطنية ونسيجه الاجتماعي وزجه في حروب طائفية مقيتة طويلة الامد، بعد ان اخذت امريكا على عاتقها تدمير الدولة العراقية وبناها التحتية وتحويلها الى دولة عصابات ومجرمين وحرامية.
ولكن هذا ليس كل شيء، فبالاضافة الى ما تقدم، فامريكا لم تزل تسعى الى بقاء ايران قوية عسكريا، لتتمكن من لعب دور البعبع التي تخشاه دول المنطقة عموما وامارات الخليج العربي خصوصا، ليجري الوصول الى اجبار هذه الدويلات على طلب الحماية الامريكية من الخطر الايراني المفترض، مقابل استنزاف ثرواتها واموالها، وهذا ما يفسر عدم السماح لهذه الدويلات والامارات العشائرية ببناء قوة عسكرية مؤثرة، تستطيع من خلالها الدفاع عنها نفسها، رغم الامكانات المالية والثروة التي بحوزتها، على عكس بعض الدول التي تفتقر الى الثروة وتمتلك في نفس الوقت قوة عسكرية هائلة مثل فيتنام والكيان الصهيوني، بحيث تكون قادرة على الدفاع عن نفسها دون طلب حماية من دول اخرى. هذه النظرية الامريكية التي يطلق عليها اسم "تجارة التهديد والحماية" قد استوحتها من عصابات المافيا التي تهدد ضحاياها من ناحية، فاذا دفعوا لها منحتهم الحماية من الناحية الثانية، وقد شملت هذه التجارة في عقود سابقة دول اوربية مثل المانيا حيث باعتها امريكا الحماية قبل توحيدها من خطر الاتحاد السوفيتي انذاك، وكذلك اليابان التي لم تستطع لاسباب تاريخية معينة بناء القوة المسلحة التي تسمح لها بالدفاع عن نفسها من دون مساعدة امريكا.
بعبارة اكثر وضوحا، فان ايران اصبحت عضوا فاعلا في ترجمة هذه النظرية المافياوية، بل وتمثل نموذجا متطورا ومركبا لهذه النظرية في منطقة الشرق الاوسط. وبالتالي، واقولها من دون تردد، بان امريكا لم تفكر ولن تفكر، في انهاء التواجد الايراني في العراق، ولا استبعاد احزابها او مريديها، ولا حتى مليشياتها المسلحة، مادام مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا لم ينته بعد . ولنا في تصريحات جوي هود القائم بالاعمال الامريكي في بغداد خير دليل على ذلك، حيث اكد بعبارات صريحة واضحة يوم امس الثلاثاء 19 شباط/ فبراير، "أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يريد الحرب مع إيران مطلقا، او استخدام الأجواء أو الأراضي العراقية للهجوم على أي مكان أو أية دولة". لينتهي بالثناء على الحشد الشعبي لبطولاته في محاربة داعش". ولا يغير من هذه الحقيقة حدوث خلافات بين امريكا وايران في هذه المنطقة او تلك، فهذه لا نصيب لها فيما يخص العراق تحديدا.
سيردد هؤلاء، كما تردد الببغاء مقولة "ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، وانما هناك مصالح دائمة". وان طهران تجاوزت حدودها المرسومة وتمكنت من نيل حصة اكبر في العراق على حساب حصتها، وان امريكا قد ادركت هذا الواقع الجديد فاحمرت عيناها غضبا وتطاير منها الشرر، لكن ذلك كله لن يصل الى حد فض الشراكة، او حتى اطلاق رصاصة واحدة باتجاه ايران، وانما فقط من اجل اعادة ملالي طهران الى رشدهم. فاي متابع للشان العراقي بالذات، يدرك بان المصالح التي تجمعهما في العراق، لم تزل قائمة، وستبقى مادام مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا لم يتحقق بعد بالكامل، ومازل الشعب العراقي بالمقابل، يقاتل من اجل تحرير نفسه من كلا البلدين المحتلين، واستعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية، وانتزاع حقوقه المشروعة كاملة غير منقوصة. واذا كان الامر ليس كذلك، فبماذا بالله عليكم ان نفسررعاية امريكا وايران سوية للعملية السياسية وحمايتها من السقوط وعدم المساس بنظامها والتحكم باليتها وحماية نظامها المبني على اساس المحاصصة الطائفية والعرقية والسرقات والنهب؟ اليس هم من يشكلون الحكومات ويعينون وزارئها ويرسمون سياساتها؟ واذا كان هناك من خلافات وصل حد المواجهة كما تدعون؟ فبماذا نفسر اذن اتفاق قاسم سليماني ممثل طهران وماكغورك ممثل امريكا على تنصيب عادل عبد المهدي المستقل، رئيس للحكومة العراقية، واقصاء ما يسمى بالكتلة الاكبر عن "استحقاقها الانتخابي" بتشكيل الحكومة؟ الم يجر اتفاق ايضا بين الرجلين على تنصيب محمد الحلبوسي رئيسا للبرلمان وبرهم صالح رئيسا للجمهورية؟، ثم هل انكر كلاهما، سليماني وماكغورك هذه الحقائق الدامغة؟ ام ان نشاطهما في هذا الخصوص كان يجري امام العالم بالصوت والصورة دون حياء او خجل؟
لندع هؤلاء يستمتعون بسماع طبول الحرب ضد ايران، لانها طبول جوفاء لا تقلق منام عصفور. فما هو مراد من هذا المؤتمر تحديدا، ليس راس ايران ولا حتى المساس بشعره منه، وانما راس الشعب الفلسطيني من خلال تصفية قضيته نهائيا على يد هذا المؤتمر، تحت عنوان صفقة القرن، وانهاء الصراع العربي الصهيوني، الذي بدات خطواته الاولى في زيارة انور السادات المشؤومة الى القدس المحتلة والاعتراف بالعدو الصهيوني ثم ذهاب ياسر عرفات على هدى السادات في اتفاقية اوسلوا 1993، وما تلاها من علاقات مع معظم حكام الردة العرب، سواء كان بعضها سريا او بعضها الاخر علنيا. فليس غريبا ان يركز المؤتمر على الوفد الاسرائيلي ووفود الدول العربية، وابراز التوجه السلمي بينهم والاعلان بصراحة ووضوح عن حق العدو في الدفاع عن نفسه، في حين لم يصدر عن المؤتمر العتيد اية اجراءات جادة ضد ايران، او اعلان موقف صريح وواضح للوقوف بوجه تمددها في العديد من دول المنطقة، وخاصة في العراق، الامر الذي دعا الى لجوء امريكا الى تغيير اسم المؤتمر وشعاراته القتالية، من شعار محاربة الارهاب والدول الراعية له، الى تسمية جديدة تحت عنوان "مؤتمر وارسو للسلام والامن في الشرق الاوسط".
هذه الحقيقة قد تبين لنا خيطها الابيض من خيطها الاسود من مؤتمر وارسو، من خلال التعرف على الهدف المركزي الذي عقد المؤتمر من اجله، والذي ينحصر اساسا في تغيير المعادلة القائمة في الشرق الأوسط ، بين الكيان الصهيوني وحكام الردة العرب، وذلك من خلال تحويل هذا الكيان المعتدي، الى دولة صديقة يعتمد عليها في اقامة منظومة الشرق الاوسط الجديد، التي روج لها ثعلب السياسة الصهيونية شمعون بيريس، واعتباره قطب الرحى في قيادته ووضع خططه، وتشكيل الأحلاف بناء على إعادة تعريف مكونات المنطقة، بل اعتباره قطب الرحى في قيادته ووضع خططه، وتشكيل الأحلاف الجديدة في المنطقة، في مقابل حلول بائسة للقضية الفلسطينية، وفق صفقة اطلق عليها صفقة القرن، خلاصتها اعتراف كامل من قبل الدول العربية بالكيان الصهيوني والتنازل عن القدس كاملة، واسقاط حق العودة للاجئين وتوطينهم في مصر والاردن ولبنان. مقابل الاعتراف بسلطة محمود عباس في اجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة والتي تبلغ مساحة شكليا 22% في حين تبلغ على ارض الواقع 12%.
هذا هو واقع الحال، على الرغم من كل "الهيصة" المفتعلة حول العبارات الخجولة التي وردت في تصريحات كبار قادة المؤتمر، من قبيل رفض الارهاب والراعين له وانهاء الفوضى في المنطقة والعالم، ومنع التدخل الايراني في الشؤون الداخلية للبلدان الاخرى. اما خوف الملالي المصطنع من نتائج هذا المؤتمر، والذي عبر عنه وزير خارجية النظام محمد جواد ظريف، بقوله "ان ايران لاتشكل تهديدا لأي بلد" وان "ايران تسعى لبناء علاقات جيدة مع الجميع" فهذا الخوف المصطنع يؤكد خبث السياسة الايرانية على مدى قرون طويلة من الزمن، بصرف النظر عن الحاكم اذا كان معمما او يرتدي البدلة او المعطف. خاصة وان ملالي طهران يعرفون البير وغطاه او كما نقول في اللهجة العراقية الدارجة، "دافني سوه"
اذا كان ذلك صحيحا، فاننا مطالبون اكثر من اي وقت مضى بنبذ جميع هذه المراهنات الساذجة، او اللجوء الى مقولات من قبيل عدو عدوي صديقي او السياسة فن الممكن، او لنكن واقعيين، أو التصرف بالعقل وليس بالعواطف، فهذه يراد منها اشاعة الاوهام في عقول الناس وزرع روح الهزيمة بينهم ليجري التعويل على الاجنبي بدل الاعتماد على الذات. واذا كان لمثل هذه المقولات مكان لها في ظروف معينة، فينبغي في كل الاحوال، ان لا تكون على حساب الثوابت الوطنية التي من ابرزها الاعتماد على الشعب وقواه الذاتية مهما كانت متواضعة، كطريق وحيد للخلاص من كل محتل ايا كانت هويته وجنسيته، عربية كانت ام اجنبية، وليس الاستعانة بهذا المحتل ليكون عونا لنا ضد المحتل الاخر، مهما كانت الذرائع والتبريرات.
عوني القلمجي
21/2/2019

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

786 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع