عوني القلمجي
الموصل : تحرير ام ابادة جماعية؟
تعد جريمة ابادة الموصل، التي تجري تحت كذبة التحرير، والتي لم تنته فصولها بعد، حلقة اخرى من حلقات مخطط تدمير المدن العراقية الواحدة تلو الاخرى، وصولا الى تدمير المجتمع، وتحطيم كل قيم التضامن وعلاقات الموده بين الناس وبناء نظام الحواجز المادية والنفسية والدينية. وقد وضع هذا المخطط موضع التنفيذ، جراء فشل المخططات، التي اعتمدت على تحطيم الدولة العراقية ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، من خلال تسريح الجيش وحل اجهزة الدولة الامنية، والسماح للمليشيات المسلحة بالانتشار في طول البلاد وعرضها، واشاعة الفساد والسرقات والرشوة، لتتوج كل ذلك باقامة نظام على اسس المحاصصة الطائفية والعرقية، تيمنا بمقولة بعض علماء الاجتماع، بانه "اذا سادت الطائفية غاب الوطن واذا فرض الوطن نفسه توارت الطائفية".
على هذا الاساس جرى هدم مدينة الفلوجة والرمادي وتكريت وبيجي. وعلى هذا الاساس ايضا، يجري هدم مدينة الموصل، بطريقة اكثر عنفا ووحشية من المدن الاخرى. واذا استطاعت امريكا وحلفائها واعلامها من تمرير كذبة تحرير المدن من داعش طيلة الفترة السابقة، فانها هنا لن تتمكن من تغطية الشمس بالغربال، مهما خلطت الاوراق، او اختلقت المبررات، او حملت المسؤولية على عاتق هذه الجهة او تلك. ليس هذا فحسب وانما لن تتمكن ايضا من التستر بعد الان على علاقات التعاون والتنسيق، في هذا الخصوص، بين امريكا وملالي طهران من جهة، وبينها وبين داعش والمليشيات الاخرى من جهة ثانية.
نعم يحتاج هذا الاتهام الى مرافعة منطقية تستند الى حقائق ووقائع. وساقدم الموصل نفسها كدليل، كونها تغني عن الادلة الاخرى. فما حدث واضح وجلي. حيث جرت السيطرة على المدينة من قبل بضع مئات من الدواعش، باستعراض مهيب وباعلام سوداء وسيارات ناصعة البيضاء، تحت سمع وبصر قوات التحالف الذي يضم 60 دولة على راسها امريكا. وتحت رصد جوي يرى ثقب النملة في الارض. ولولا العيب والفضيحة، لالقت الطائرات الامريكية عليهم الورود والزهور. ليس هذا فحسب، وانما امرت عميلها المزدوج نوري المالكي باصدار اوامر بانسحاب، او هروب جميع قواته العسكرية المتمركزة في تلك المنطقة، والتي يبلغ تعدادها اكثر من ثلاثة فرق عسكرية، وتسليم جميع الاسلحة والمعدات للدواعش. وهذا ما يفسر عدم محاسبة او معاقبة قادة هذه الفرق، او ما دونهم من الضباط؟ او حتى واحدا منهم وتقديمه كبش فداء لستر الفضيحة، بل على العكس من ذلك فقد جرى تكريمهم بمناصب اخرى؟ ثم الم يعترف بعض هؤلاء القادة علنا بان المالكي هو من اصدر لهم امرا بالانسحاب.
دعونا نسترسل اكثر، فالسماح لداعش بالسيطرة على الموصل لفترة قصيرة، لا تبرر هدم المدينة لطردهم. اذ يكفي في هذه الحالة عملية عسكرية واحدة لقوات التحالف، لا تستغرق سوى ساعات او ايام. خاصة وان عددهم حين ذاك لا يتجاوز المئات. ولذلك سمحت امريكا وقوات التحالف الستين للدواعش بالبقاء اكثر من سنتين، ليتمكنوا من تنظيم قواتهم وزيادة عدتها وعديدها، وبناء مواقعهم العسكرية، واقامة خطوطهم الدفاعية، وحفر الانفاق الضخمة، واقامة مصانع للسيارات المفخخة. بالمقابل فقد هيأة امريكا للدواعش حاضنة شعبية عريضة، من خلال تشجيع حكومة الاحتلال على استخدام كافة الوسائل، من قوة واذلال وتعذيب واختطاف ضد ابناء المدينة، لكي يقبلوا باي جهة تدعي تخليصهم من نظام العمالة في بغداد، وفق مقولة عدو عدوي صديقي. ليس هذا فحسب، وانما سحبت هذه الحكومة كل الاسلحة الموجودة في البيوت، بما فيها السلاح الشخصي، حتى يقفوا عاجزين عن الدفاع عن مدينتهم وحتى انفسهم، ويقبلوا في نهاية المطاف، بالامر الواقع. وهذا ما حدث فعلا. اذ لم تجر اية مقاومة من قبل سكان المدينة ضد هذه المنظمة الارهابية التكفيرية.
لم يبق امام هذه المؤامرة سوى حلقتها الاخيرة التي تهدف الى تهيئة عقول الناس لاستقبال دمار المدينة باعصاب باردة. فبدا العزف على قوة داعش وتهويل شجاعة مقاتليها واستعدادهم للانتحار والتغني ببطولاتهم والتغزل بقاماتهم الممشوقة ولغتهم الفصيحة وعلومهم الاكترونية والتكنلوجية. بالمقابل جرى ايضا تضخيم دور ضباط الجيش العراقي السابق الذين يديرون معارك داعش، والذين يتمتعون بخبرة واسعة في شؤون القتال. اما خطوط داعش الدفاعية، فجعلوا منها اسطورة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، بحيث اصبحت امامها جميع خطوط الدفاع المشهورة في العالم واهنة كبيوت العنكبوت. مثل خط ماجينو في فرنسا وخط بارليف في الضفة الشرقية من قناة السويس في مصر. ناهيك عن ترويج كذبة امتلاك داعش لاسلحة دمار شامل او اسلحة محرمة. وكل ذلك من اجل بلوغ نتيجة واحدة مفادها، ان معركة تحرير الموصل من الدواعش، معقدة وصعبة وطويلة، ومن الصعب تحقيق النصر فيها، وفي نفس الوقت، تجنب الهدم وتقديم الخسائر البشرية داخل المدينة. وهذا ما حدث فعلا. فقد اصبح حال مدينة الموصل اشبه بحالة مدينة الفلوجة والرمادي وتكريت وبيجي، بل واكثر. حيث عملية الهدم لم تزل مستمرة وقتل البشر بوحشية لا مثيل لها، ونزوح الناجين منها في ظروف صعبة للغاية لا تتحملها الحيوانات البرية، والذي تجاوز عددهم اكثر من نصف سكان المدينة.
ولكن هذا ليس كل شيء، فامريكا وحتى تظهر نفسها المنقذ والمحرر، وفي نفس الوقت الحريصة على تقليل الخسائر المادية والبشرية، قدم ملالي طهران المساعدة اللازمة لها. فقد اخذت مليشيات ايران وحشدها الطائفي على عاتقهم استكمال ما عجزت عن هدمه الطائرات الامريكية من المدينة. حيث كانت هذه المليشيات تدخل كل حي يخرج منه الدواعش لتهدم ما تبقى منها، وتقتل من اصر على البقاء فيها من المدنيين. اما الاحياء الكبيرة التي لم يتمكن الحشد الطائفي من هدمها، فهذه تكفلت بها الحكومة. حيث زود جيشها، الطائرات الامريكية باحداثيات هذه المناطق، على انها مناطق لتحشدات داعش. وقد نجد نموذجا عنها في قتل اكثر من 200 انسان دفعة واحدة. نتيجة لمثل هذه الاحداثيات التي وصفت بالخاطئة.
على الرغم من كل هذه الحقائق، اعترف بان هؤلاء القتلة قد نجحوا، الى حد ما، في تمرير اغنية قادمون يانينوى، او موال تحرير الموصل من داعش. واجادوا في عرض المسرحية التي نالت استحسان الحضور. وخاصة الفصل الذي ظهرت فيه داعش قوة لا تقهر، وان ثمن تحرير الموصل لابد، والحالة هذه، ان يكون غاليا، والدمار كبيرا والنزوح شر لابد منه، مثلما اجادوا في فصل اخر ظهر فيه الحشد الطائفي اشبه بفرق الانقاذ الانسانية التي تقدم المساعدة للمنكوبين، وظهر قادته اكثر حنانا من ماما تريزا. والحضور طبعا لن يتركوا القاعة قبل الفصل الاخير لمشاهدة خروج الدواعش بسلام عبر ممرات امنة قد حددت مسبقا، مثلما دخلوها بسلام، وعبر ممرات امنة حددت مسبقا ايضا. بالضبط كما دخلت داعش وخرجت في الفلوجة والرمادي وتكريت، حيث لم نر جثة داعشي على الارض، ولا اسرى في السجون. باختصار شديد لم يزل قطاع واسع من الناس يقبلون بكلمات الحق التي يراد بها باطل. من قبيل التحرير او الحرية او الاستقلال لا يتحقق الا بالدماء الزكية.
هل سيستمر نجاح مثل هذه المسرحيات الماساوية والدموية في المستقبل القريب؟ ام ان داعش وماعش سينتهي دورها بعد "تحرير" الموصل، كما وعد المجرمون؟
امريكا مصرة اكثر مما مضى على انجاز مهمة تدمير العراق، وما نسمعه من الرئيس الامريكي دونالد ترامب، ليس سوى اكاذيب مضلله لامتصاص نقمة العراقيين والاستغناء عن التظاهرات والمطالبة بالاصلاح. فعمكم ترامب سيقوم بها. وعلى هذا الاساس ستكون امريكا بحاجة الى داعش بشكلها الحالي او بلباس اخر. مثلما هي حاجة ايران الى بقاء الحشد والمليشيات الاخرى. فداعش بالنسبة لامريكا اشبه بعصا موسى. فهي تتوكا عليها لزعزعة امن واستقرار دول المنطقة ليسهل عليها ابتزازها، وتهش بها غنمها من حكومات المنطقة اذا حاولت احداها التنصل عن واجباتها، او اذا تاخرت في تنفيذ طلب من طلباتها. ولها فيها مارب اخرى تخص حروبها بالوكالة ضد من تشاء. اما تركيا فقد حققت لها داعش ما كانت تحلم به فبذريعة محاربتها اقتربت من مدينة الموصل، وبنت قواعد عسكرية لها بالقرب منها بانتظار ضمها الى دولتها. في حين تسعى السعودية وسوريا والاردن وامارة الكويت وبما ملكت من القوة ورباط الخيل، الى اضعاف العراق الى اقصى درجة . وداعش هي القادرة على فعل ذلك من خلال استنزاف ما تبقى من طاقاته المادية والبشرية.
اما ايران فهي الاخرى بحاجة الى ميليشياتها، العاقلة منها والوقحة، فهي اشبه بحصان طروادة. اذ بواسطتها توسعت مناطق نفوذها في العراق. وعن طريقها امنت القسم الاكبر من الطريق الذي يصلها بسورية، والمتدد من خانقين الى كلار وكفري وكركوك ومخمور والموصل وتلعفر، وصولا الى سنجار. وبفضلها بنت ايران دولة خاصة بها داخل الدولة العراقية، رغم انصياع قادتها لملالي طهران. وبقوتها تفرك اذن اتباعها، اذا حاول طرف منها التمرد عليها، او جاوز حدوده، كما حصل مع مقتدى الصدر حين طالب تياره بخروج ايران من العراق، عبر شعار ايران بره بره وبغداد حرة حرة. او من قبل اعدائها مثل تيار الصرخي التي تكفلت هذه المليشيات بمحاربته والحد من خطورته.
واخيرا فان الحكومة العراقية الطائفية، التي تحكم باسم الشيعة والشيعة منها براء، فهي اشد حرصا من غيرها على بقاء داعش. اذ من دونها لا تستطيع كسب شيعة العراق الى جانبها. خاصة بعد الانتفاضة الشعبية ضدها. فليس غريبا والحالة هذه التركيز على داعش وخطورتها وامكانية دخولها بغداد وصولا الى الامكان المقدسة وهدم اضرحتها ومراقدها. بمعنى اخر فوجود داعش على قيد الحياة، يمكنها من مخاطبة الشيعة البسطاء، بان عدوكم يقف خلف الباب ويريد قتلكم وهدم مقدساتكم، وبالتالي ما عليكم ايها الشيعة سوى الالتفاف حول الحكومة والانضواء تحت لوائها.
تحرير المدن وهزيمة داعش وماعش واعادة بناء البلد وتحقيق استقلاله وسيادته الوطنية، لن يتم من خلال امريكا او الجامعة العربية او هيئة الامم، وانما يتحقق ذلك من خلال انتفاضة شعبية مسلحة تنهي الاحتلال الامريكي والايراني، وجميع المليشيات المسلحة، وتسقط عمليتهم السياسية وتمزق دستورتهم الملغوم وتشكل حكومة وطنية مرجعها الشعب العراقي، لتعيد للعراق استقلاله وسيادته ووحدته الوطنية. هذه هي الحقيقة التي لا ياتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها.
نعم واقولها بكل ثقة، شعبنا قادر على انجاز هذه المهمام رغم صعوبتها. فهذا الشعب سيبقى موحدا وسيقاتل المحتل وعملائه بكل الوسائل، ولن يقدر المحتل ولا ميليشيات داعش، التي انتحلت اسم السنة، ولا ميليشيات ايران التي انتحلت اسم الشيعة، على شرخ هذه الوحدة الصلبة. فمكونات هذا الشعب العظيم، السياسية والمذهبية والدينية والقومية عاشت بجو من التاخي والالفة والمحبة قرون طويلة من الزمن. واذا تحقق مثل هذا الهدف، لا سمح الله، فلن يكون سوى حادث مؤقت سرعان ما يجري التغلب عليه، بفعل رسوخ هذه الوحدة في ضمير ووجدان جميع العراقيين.
عوني القلمجي
26/3/2017
702 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع