برهان كركوتلي ... الفنان ... الإنسان ...الثائر

                                     

                       د. ضرغام الدباغ

عام 1932 ولد برهان كركوتلي لأول مرة في دمشق، ولكنه ولد بعد ذلك مرات عديدة، ليست من ضمنها تلك التي نجا فيها من موت محقق إثر تعرضه لحادث سير، ولكنه ولد يوم وجد أسلوبه في العمل الفني، وولد مرة أخرى يوم انتمى للثورة، ومرة أيضاً يوم وجد الجمال في الثورة، ومرة أخرى عندما وجد انتماؤه النهائي للشعب، ولكن برهان لم يمت قط، ولن يموت.

كان برهان في السادسة عشر من عمره يوم حلت كارثة فلسطين، يافعاً ساخناً يضج قلبه وعقله صوراً وتعابير وغضب... وكانت فلسطين جرحاً فاغر فاه، فهل من المستغرب أن يقذف شاب حالم، غاضب بنفسه في جوف هذا الجرح البركان ؟

وتبدأ رحلة برهان، وينمو الشاب ويكبر مع كبر الجرح واتساع المأساة، وعندما درس في القاهرة في الخمسينات، اعترف بنفسه، انه لم يكن قد وجد نفسه بعد ! تأثر عن بعد بالفن المكسيكي وبالفنان سيكوايرس، وهو لا ينكر ذلك، ولكنه يضيف، إني نظرت إليه بعيون وروح عربية. وذلك قبل أن يذهب على المكسيك بحوالي ربع قرن. كان يريد الذهاب للمكسيك من أجل الدراسة في أكاديمية الفن المكسيكية، ولكنه لم يفعل ذلك، أو لنقل أن الظروف قذفت به إلى مصير آخر، ولكن طريق كركوتلي الفني كان قد رسم قبل ذلك.

في القاهرة حيث كان يدرس الفن، وقد أنجز هذه الدراسة، ولكنه لم يصبح فناناً بعد، ومن اجل ذلك كان لابد من ولادة أخرى، ولم يضل طالب الفن الشاب كثيراً، فهو كان قد وجد ذلك في الانتماء النضالي / الفني، كان وفياً للجرح الذي كان قد رآه بأم عينه وقاسى آلامه.    

أكمل دراسته في ألمانيا ومدريد، وزار عدة بلدان منها لبنان، والمغرب، وهو مثل كل الفنانين في كل العصور يخزن الصور في ذاكرته ويستنكه معاناة من يصادفهم، وفيما عدا الأربعين سنة التي أمضاها في ألمانيا، أمضى 18 شهراً في المكسيك وفنزويلا، ترى مالذي أخذه إلى هناك، ليمضي هذه الفترة الطويلة هناك ؟ غير تذوق نكهه الحياة الإنسانية والغوص في أعماق العذاب الإنساني، وماذا يمكن لفنان قادم من بطن الجراح والآلام سوى أن يحتضن المعاناة في عيون الأطفال وجباه الرجال والنساء وزخارف وتهاويل لا يتفاعل معها إلا رجل يرتدي عباءة دمشقية قادم من قلب الأشياء والزمن.

درس برهان ومارس الرسم والكرافيك الكاريكاتير كما مارس الكتابة والقصة. وكانت موضوعات الثورة الفلسطينية منذ الستينات هي ال Motivation الذي عمل له الكركوتلي ومثل هاجسه الفني والشخصي معاً. وهو انتماء أصيل ترى مالذي يمكن أن ينفعل الإنسان به والنار تشتعل بثيابه ؟

ومع تعمق نضج الكركوتلي، كان الوعي يبلور لديه عوالم جديدة من الاكتشافات الذاتية ومفاهيم جديدة من الفن السياسي، كان يفكر كثيراً كيف يمكنه أن يدفع قضية الفن والثورة معاً ؟ كيف يمكنه أن يمنح مفاهيم الأدب والفن الملتزم أبعاداً جديدة ؟ وهل يمكنه أن ينجح في ذلك ؟ فهو في ذلك فنان ثائر ممتلئ غضباً يمسك بريشته ويملأ الجدران صخباً بالألوان، يحلم هنا، ويفجر ثورة هناك، ويدع مهمة فهم ذلك وتأطيره للنقاد وفلاسفة الفن والصحافة الفنية.

وبرغم أن برهان أنه غادر بلاده العربية الشرقية منذ أربعين عاماً، بيد أنه ظل شرقياً جداً وعربياً جداً. فيقول عنه صديقه الناقد الألماني هارالد بوك : كان واضحاً في وعيه للتهاويل العربية، وفن الأرابيسك، ذلك الذي أصبح نمطه المميز بأسلوب فني راقٍ، في الوجوه الشرقية والأشكال، في لوحاته وفي البوسترات التي كانت مفهومة لكل من يشاهدها، بما يمثل إسهامة بارزة في الفن العربي المعاصر. برهان كان مسكوناً بهواجس الفن بألوانه والجماهير والثورة، كان فناناً ذو وعي سياسي عالٍ. Burhan war ein hochpolitischer Künstler.

الفن للحياة، كانت النظرية التي اشهرها الفن الملتزم التقدمي الفن للحياة والمجتمع، بوجه نظريات الفن للفن اليمينية. والكركوتلي كان مأخوذاً منبهراً بالفن الشعبي، بالصور الرائعة لحكواتية المقاهي الشعبية في دمشق ومراكش، كان أمراً محسوماً وقد منح نفسه للقضية، كأنه بذلك يريد أن يعلن ذلك وأن يقول: أنا برهان كركوتلي، ولن أكون غير ذلك !

قرأت عن برهان كركوتلي، وقرأت له مقابلات، ومؤسف أن لا يكون معنا. لأطرح عليه المزيد من الأسئلة، كان برهان يطرح الأسئلة ويجيب عليها، فلابد أنه تشغل باله كثيراً بل تؤرقه، وهل يعمل الفنان دون أرق وقلق.

 أسئلة كثيرة ؟، يحاول الإجابة عليها أو على بعضها في العلاقة بين الجمال والثورة.  

يجيب برهان كركوتلي ضاحكاً صحفية سألته مرة كيف يفهم الجمال. الجمال هو عندما أشاهد شيئاً بجمال المرأة الحسناء. ويقول في مرة أخرى لصحفي: إني اكره القبح. والقبح في نظره : الفقر أولاً، القمع، الاستعمار، التميز العنصري، الفاشية، الديكتاتورية، الحروب، والعنف.

أراد برهان أن يقول إن العالم بدون هذه البثور القبيحة أكثر جمالاً. أراد برهان أن يقول أن الثورة هي مقاومة لذاك القبح، وبذلك فهي شيء جميل. وما لم يقم المقموعون بالثورة فهم يستحقون أن يعاملوا معاملة العبيد. ولأننا منتمون إلى ذات الخندق، يسعدني أن أقولها عن أخي برهان الكركوتلي.

يقول الفنان الألماني جورج بالتسين : إنه رومانسي في ضميره، شاعر في المقاومة، رسام في الثورة، ورسام الشعب.

يمكن أن نقول الكثير عن برهان كركوتلي، الفنان السوري، والفلسطيني النضال والباعث الفني، العربي المشرقي. نحن هنا نحي ذكراه ...

سلام عليك يا برهان، من محبيك وأصدقائك ومواطنيك، ومن الثورة   ......

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع