ذكرياتي مع الحكم الدولي الراحل صلاح محمد كريم

                                                               

                                         عباس العلوي

         

      ذكرياتي مع الحكم الدولي الراحل صلاح محمد كريم

       

          ستبقى خالدا في سويداء قلبي ايها الكردي العراقي العزيز   

  
 

اختطفت يد المنون مؤخرا علما من اعلام الرياضة العراقية / الكابتن صلاح محمد كريم مفخرة التحكيم العراقي في كرة القدم في حادث مرور مؤسف على طريق بغداد السليمانية مع ثلة من الرواد الذين رفعوا اسم العراق عاليا في المحافل الدولية / نسأل الله ان يكرم مثواهم في دار القرار
الكابتن الراحل صلاح / رياضي مبدع خدم كرة القدم العراقية طوال حياته / بدأ مهنة التحكيم عام 1968 وحصل على الشارة الدولية عام 1980 قاد العديد من المباريات بنجاح باهرعربيا وآسيويا ودوليا  / نال العديد من الجوائز الكبرى / وما أن اعتزل التحكيم قام برعاية الرياضة في كردستان من موقع اداري وآخر منصب شغله قبل الرحيل هو نائب رئيس اللجنة الاولمبية في كردستان / وقد تناول الدكتور عبد القادر زينل الشخصية الرياضية المعروفة سيرة حياته كاملة في < مجلة  الكاردينيا > يمكن الرجوع اليها .

شخصيا لم أكن اعرف الفقيد سابقا بحكم تواجدي لأكثر من اربعة عقود خارج العراق / الصدفة وحدها هي التي صنعت صداقة حميمية بين طرفين لايعرف احدهما الآخر / قبل خمس سنوات تقريبا كنت في زيارة الى بغداد بدعوة من مجلس محافظة بغداد / كان مقر اقامتي في فندق المنصور ميليا / تخلل فترة الضيافة التي انا فيها / انتخاب رئاسات جديدة لمختلف الالعاب ومنها اتحاد كرة القدم العراقي في احدى قاعات الفندق / استغرقت ثلاثة اسابيع تقريبا / حضر فيها رموز الرياضة العراقية من القدماء والجدد / التقيت لاول مرة بالبطل العراقي في كمال الاجسام على الكيار وقد اطلعني على ارشيفه  من صور وجرائد ومجلات توثق بطولاته العالمية والعربية ايام زمان / وصاحب الرأس الذهبية اللاعب الراحل طارق عزيز الذي تحدث عن مشواره الطويل في كرة القدم وبعض المقالب التي حصلت له بعيدا عن اجهزة الاعلام / وعملاق الكرة العراقية الرائع علي كاظم / وصخرة الدفاع العراقي صاحب خزعل / ولاعب كرة السلة الشهير محمد عربو / وعدد آخر من نجوم الكرة والعاب القوى والسباحة الحاصلين على جوائز عربية وقارية / ساعدني في التعرف عليهم الاخ  جزائر السهلاني المدير التنفيذي في اللجنة الاولمبية حاليا / ومن محاسن الصدف ايضا التقيت بشيخ المدربين الراحل عمو بابا / كان وقتها مثقلا بالمتاعب الصحية / شكى لي معاناته من مرض السكري وقد اصبح الآن في مرحلة متقدمة تهدد حياته / مازلت اتذكرعبارته البليغة التي قالها لي :

رصيدي في الحياة خدمة العراق وحب الناس !

في صباح اليوم التالي جئت لتناول الافطار في مطعم الفندق الكبير المزدحم بالنزلاء / سمعت مناديا يهتف بأسمي : تعال هنا معنا / واذا به الاستاذ ناجح حمود رئيس اتحاد الكرة العراقي والى جنبه السيد محمد جواد الصائغ وأثنين آخرين من اعضاء الاتحاد / جلست الى جنبهم وسط ترحيب اخوي بالغ / وخلال تناول الافطار دخل علينا الكابتن الراحل صلاح وقد قدم توا الى الفندق / بداية الحديث فاجأني الرجل حينما شد على يدي بحرارة وقال : كنت يااستاذ عباس رائعا في اللقاء الذي اجرته معك الفضائية العراقية مؤخرا / من هنا بدأ المشوار الاول لعلاقة متينة / مازال صدى ذكرياتها تسري بقوة في عروق بدني !

صادف ذات مرّة كنت انتظر احد المسؤولين بعد الظهر في بهو الفندق واذا بالكابتن الراحل صلاح جاء من الجهة المعاكسة بعد اجتماع طويل له مع اللجنة المنظمة للأنتخابات / اخذ يربت على كتفي قائلا : ما رأيك ان نقضي اليوم امسية جميلة في احد مطاعم بغداد ونتحدث بهدوء ؟ سررت جدا لهذه الالتفاتة الطيبة من هذا الرجل الرائع  / وبحدود الساعة التاسعة مساء رافقته بسيارته الخاصة الى مطعم فاخر في الجادرية / جلسنا سوية اكثر من ثلاث ساعات / جرى بيننا حديث اخوي كان عبارة عن بطاقة تعارف بين طرفين ابعدتهم الجغرافيا وجمعتهم المواطنه في صدفة فريدة قل نظيرها / تحدث كل واحد منا عن مشوار حياته بما فيه من اخفاق ونجاح / اجاب على اسألتي العامة والاخرى المتعلقة بخفايا كرة القدم وشجون الرياضة العراقية بمنطق الرجل المحترف والاداري المقتدر! قبل ان نغادر المكان/ سألني الكابتن الراحل :  متى اخر مرة زرت فيها السليمانية ؟ اجبته على الفور / قبل 46 عاما حينما كنت صبيا صغيرا قبل ان اغادر العراق ! ابتسم الرجل ابتسامة مؤثرة بليغة وقال : كيف حصل كل ذلك ؟ ارجو في هذه المرّة ان لاتعود الى السويد قبل ان تزور السليمانية وسأتشرف بكل محبة على استضافتك فيها اذا رغبت / فرحت لهذه الدعوة التي لم اكن اتوقعها واتفقنا ان يكون موعد الزيارة بعد انتهاء الانتخابات / أي بعد اسبوع او عشرة ايام من هذا التاريخ / قال رحمه الله : سأعمل لك منهاج حافل خلال الايام التى ستقضيها في السليمانية

        

الفقيد الراحل صاحب خلق رياضي رفيع / كريم النفس / حلو الحديث /سهل التعامل / قوي المراس / ثري التجربة / كثير الاصدقاء / يحترمه خصومه ومريدوه على حد سواء /صمّام امان كثيرا مايُطفىء حرائق الخلافات الرياضية التي تحصل دوريا مابين بغداد وكردستان / جوكر / دائم الحركة مشغول بمهام عمله طوال الوقت / ولا ابالغ اذا قلت انه لاينام في اليوم اكثر من اربع ساعات !

انتهت الانتخابات بعدها بيومين اتصل بي هاتفيا من السليمانية / قال : انا جاهز الآن لأستقبالك / ثم سألني : هل ترغب المجيىء بالطائرة ام بالسيارة ؟ قلت له احبذ ان يكون بالسيارة وهي فرصة كبيرة لي ان اشاهد في طريقي المناظر الطبيعية العراقية التي حُرمت منها زمنا طويلا / قال : غدا سأبعث لك تكسي خاص / سيكون في باب الفندق تمام الساعة الثامنة صباحا

استغرقت الرحلة البرية المتعبة اكثر من 9 ساعات  بسبب كثرة السيطرات الامنية والتفتيش طوال الطريق وكان رحمه الله بين حين وآخر يتصل بي هاتفيا ليطمأن عليّ / ما ان شارفنا المدينة العريقة التي تقع على ارتفاع 2895 قدم عن سطح البحر /  قادني السائق الى فندق سياحي جميل تم الحجز فيه / بعد ساعة ونصف تقريبا وصل الكابتن صلاح وما ان التقاني قال : يااخ عباس اهلا ومرحبا بك في السليمانية / هيا بنا الآن نأخذ جولة مسائية /  خلال التجوال ذهلت لمارأيت / كنت اتصور ان السليمانية حالها لايزيد عن اي محافظة عراقية بائسة في الفرات الاوسط او الجنوب واذا بي ارى شوارع حديثة وأنارة جميلة وابراج عالية وفنادق راقية ومولات تجارية لاتختلف بشيىء عن المدن الاوربية / وقفت بنا السيارة امام مطعم فيه ذوق رفيع وخدمة ممتازة / تناولنا سوية طعام العشاء ثم انطلق بنا الى نادي البولنغ / يتكون من بناية حديثة جميلة افتتحت مؤخرا تحوي على صالة كبيرة للعبة البولنغ وكافتريا كبيرة تزدحم بالزائرين من مختلف طبقات المجتمع / طال بنا الجلوس حتى ساعة متأخرة من الليل وقبل ان نغادر المكان سألني : هل تريد ان تلتقي السيد المحافظ / قلت له نعم وسأكون سعيد / قال اذن غدا الساعة التاسعة صباحا سنذهب سوية اليه !

التقانا السيد المحافظ بحفاوة بالغة وهو رجل اداري ضليع تميز بخفة الدم مازحني قائلا : شلون 46 سنة ماتزور السليمانية / لازم انبقيك عدنا اقل شي شهر؟! حدثته قليلا عن حياتنا في السويد وقدمت له دراسة اكاديمية كنت قد اعددتها سابقا عن الاستثمار التجاري / أُعجب بها وترجاني ان نزور رئيس غرفة التجارة وهو في انتظارنا الآن بغية الاستفادة منها / وعلى الفور اتجهنا لمبنى غرفة التجارة والتقينا رئيسها الشاب الوسيم المهذب وكان على دراية بمحاضرتي عن الاستثمار التي القيتها مؤخرا في بغداد وقد نقلت عدسات الفضائيات جانبا منها / رحب بنا ترحيبا اعجز عن وصفه وطلب من الكابتن الراحل صلاح ان يوافق على ان اكون في ضيافتهم مدة 48 ساعة / وحينما تمت الموافقة / خصص لي رئيس الغرفة سيارة وسائق ومرافق / انطلقنا الى مبنى هيئة الاستثمار الحكومية وكان رئيسها في انتظاري / حدثني عن الاستثمار في كردستان بشكل عام والسليمانية بشكل خاص / وعرض عليّ ان ازورالمشاريع والمرافق التي تم تشيدها وهي من منجزات هيئة الاستثمار / كما طلب مني ان القي محاضرة عن الاستثمار بالقاعة الكبرى في عطلة نهاية الاسبوع  لكن للاسف لم يسعفني الوقت بسبب قرب عودتي الى السويد

حان وقت الغذاء اصطحبني مرافقي الى فندق خمسة نجوم تزيّن مدخل الاستقبال فيه صورة كبيرة للرئيس مام جلال مع السيد فاروق مصطفى رسول رئيس مجلس ادارة < اسيا سيل > جلسنا في المطعم الجميل / قضينا فيه مايقرب الساعتين / توجهنا الى مركز البحوث والدراسات وبعدها الى كلية الاقتصاد في جامعة السليمانية /التقيت بالسيد العميد مع مجموعة من الاساتذة الكرام استغرق عدة ساعات شعرت على اثرها بالتعب / طلبت من المرافق بعد هذا المشوار الطويل ان يوصلني الى الفندق الذي اقيم فيه على امل ان يعود لي بعد الساعة الثامنة مساء ! ما ان وصلت اتصل بي هاتفيا الكابتن الراحل صلاح مستفسرا عن احوالي واخبرته بتفاصيل ما جرى من لقاءات حافلة

في بدء الجولة المسائية طلبت ان ازور قناة الفيحاء التي اتخذت من السليمانية مقرا لها / وما ان دخلت المبنى استقبلني الاعلامي الرائع ابو فراس الحمداني بترحيب بالغ / قال : ارجوك ان تحضر اليوم في برنامج محمد الطائي < فضاء الحرية > في بث مباشر / الحقيقة فاجأتني هذه الدعوة لآني كنت مرهقا ووقتي كان ضيقا / استجبت بحكم العلاقة الاخوية التي تربطني مع المشرفين على القناة

في صباح اليوم التالي جاءني الكابتن الراحل صلاح وتناول معي افطار الصباح/ سالني ان كنت احتاج الى شيىء / قلت الف شكر ثم غادر / برنامجنا لهذا اليوم خصص لزيارة المشاريع المتميزة التي تم تشيدها عن طريق الاستثمار / ابتدأنا بزيارة فندق عملاق بعشرات الطبقات تحت البناء على وشك ان يكتمل في السنة المقبلة / ربما هو اكبر فندق في العراق يقع على تل في منطقة هادئة جميلة في ضواحي العاصمة الثقافية لكردستان / ثم زرنا القرية الايطالية وبعدها القرية الالمانية وهو مجمعات سكنية جميلة استمد طرازها المعمارى من تراث تلك الدولتين / حط بنا المقام في اكبر مجمع سكني من مئات البيوت لذوي الدخل المحدود شارف على الانتهاء / وخلال هذا اليوم الطويل زرنا العديد من المولات الحديثة التي تضاهي مثيلاتها في اوربا وبعض المنشآت الأخرى التي يصعب عليّ تعدادها في هذه العجالة / وبذلك انتهت فترة الضيافة لغرفة التجارة

في صباح اليوم الاخير جاءني الراحل الكابتن صلاح / قال : هيا بنا الآن في جولة طويلة في الاقضية والنواحي المحيطة بمدينة السليمانية / اريدك ان تعود للسويد وقد شاهدت كل شيىء عندنا

كان يقود سيارته ذات الدفع الرباعي وانا جالس الى جنبه نتحدث بمختلف الاحاديث طوال الطريق / سرنا خلال النهار مايقرب من 200 كيلومتر بين السهول والوديان حتى بلغنا جبلا شاهقا جدا كدت ارى الناس من بعيد كالعصافير / تناولنا طعام الغذاء بحدود الساعة الرابعة في مطعم شُيّد بطريقة فريدة على سفح جبل يتمتع الجالس فيه بالمناظر الطبيعية الخلابة / بالنسبة لي كانت رحلة العمر التي لاتنسى / رجعنا بحدود الساعة التاسعة والنصف مساء الى الفندق واتفقنا غدا صباحا سيكون موعد العودة الى بغداد

جاءني الفقيد الراحل صباحا وقد حزمت حقائبي ليودعني / وما كنت ادري انه سيكون الوداع الأخير وإن قدر الموت سيخطف منا أعز الناس في رحلة ابدية لاعودة فيها ولاحول ولاقوة الا بالله

                                        

عزيزي حبيب القلب / الكابتن صلاح محمد كريم

لاأدري بأي كلمات ارثيك بعد ان طوى جسدك الطاهرالثرى / يشهد الله الألم يعتصر قلبي /اعجز عن وصف خصالك الطيبة / ومواقفك النبيلة / وضيافتك الكريمة / صوتك الرخيم مازال يرن في اذني / احبّك الناس كل الناس / خسرك العراق كل العراق / يالهفي على عائلتك الكريمة التي فقدت اباها بطرفة عين / عزائي لها ولكل محبيك / وانا لله وانا اليه راجعون

ومن حسرة قلبي /دعني ايها الحبيب اردد الآن ماقاله الشاعر ابو الحسن التهامي

حكم المنية في البرية جارِ ***** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا ***** حتى يُرى خبراً من الأخبار
طُبعتْ على كدر وأنت تريدها ***** صفواً من الأقذار والأكدار
ومُكلّفُ الأيام ضد طباعها ***** مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ***** تبني الرجاء على شفيرٍ هار
فالعيش نوم والمنية يقظة ***** والمرء بينهما خيالٌ سار

في خاتمة المطاف / اود ان اذكر للقارىء الكريم ان الصور الفوتغرافية التي توثق كل المشاهد والاشخاص التي ورد ذكرهم في هذا المقال كانت مخزونه في الهاتف الذي ضاع مني قبل عامين وضاع معه كل الآرشيف المذكور وحسبي الله على قدَر الايام والحظ الردي !

السويد في 22 / 6 / 2016

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع