الدولاب قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة

                                          

                     بقلم/ حامد خيري الحيدر

    

الدولاب
قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
مهداة لشغيلة العالم في يومهم الأغر

ضرب (أشكيبال) بقدمه محور الدولاب الخشبي بقوة، صائحاً بصوته الجهوري الذي يصل حتى طارف السوق عبارته التي يرددها كل يوم عند بدئه العمل (ستظل تدور أيها الدولاب)، وبذات الوقت راحت يداه بحركةٍ موازية لأقدامه  تعاملان كتلة الطين الشوهاء التي أخذت تتلوى بشكل لولبي أنسيابي مطاوعة أصابعه لتغير شكلها كما يريد. هو كذلك منذ شبابه يعمل صانعاً للفخار في حانوته الصغير هذا بسوق الحرفيين في (نيبور)1، الذي ما أن تعلن أنوار الصباح أطلالة يومه الجديد حتى تبدأ الحركة فيه بشكلٍ تصاعدي متماثل، بين مرور المتبضعين وهتافات البائعين مروّجين بصوت عال لبضائعهم، يقابلها مضاربات المشترين ومساوماتهم التي قد تصل أحياناً للعراك.. (سلة التمر بشيقل)2.... (جرة الحليب بربع شيقل).... (أربع دجاجات بثلاث شيقلات).... (جرة النبيذ بشيقلين).... لتمر بين الناس ثلة من الجنود بأثوابهم القصيرة وخوذهم الجلدية، متسلحين بسيوفهم البرونزية وهراواتهم الخشبية ذات الرؤوس الكروية النحاسية، ينضرون الى هذا وذاك محذرين الجميع من أحداث أية مشاكل أو مشاجرات تخلّ بالنظام العام قد تحدث نتيجة تلك المساومات..  هكذا كان الحال ذلك اليوم مثل باقي الأيام التي أعتادتها المدينة، لكنه بالنسبة ل(أشكيبال) لم يكن رتيباً أو عادياً في حياته، ولا كما عهده من أيامه الماضية وهمومها ... أنه ينتظر ولادة حفيده الأول لأبنه البكر، لذا بدا قلقاً مضطرباً منذ استيقاظه المبكر عند الفجر... بينما هو مواصلاً عمله موجهاً نظره الى حركة الناس خارج حانوته المليء بالجرار الفخارية، شرد ذهنه الى المستقبل بعدما كان جلّ تفكيره بما مر به من سابق السنين وحاضره المُتعَب، فلم يشعر بشروده قد جعله يتوقف عن تدوير الدولاب الذي أخذت سرعته بالتباطؤ شيئاً فشيئاً حتى سكن كلياً، كأنه يعلن توقف الحياة وأفول مستقبلها... (يا ترى هل سيجلب الوليد الجديد معه شيئاً من الأمل لهذه الحياة التعسة، بعد أن تسلط على مجرياتها بطانة الأمراء والمنافقون المرابون والدجالون من الكهنة، ليزداد ثرائهم من خيرات المدينة بينما غدى الشغيلة والصناع وما شاكلهم من البائسين في أدنى درجات الفقر؟).... أنتبه من شروده كأن بعوضة قرصته ليستذكر الحاجات التي أوصته زوجته بجلبها معه من السوق لهذه المناسبة... سلتا تمر، ثلاث جرار نبيذ وجرتي زيت سمسم، عشر دجاجات، خمس أوقيات3 لحم، ست....، ثلاث....، ثلاث........ آه أيتها الحقيرة هل تريدين أن أجلب السوق كله من أجل ذلك المولود اللعين، ثم من أين لي حتى أجلب كل هذا؟ قطع تفكيره تحية صديقيه القديمين في السوق.. الحداد (كنداش) والسَلاّل (سمبار)..
_ صباحك سعيد أيها الجد العجوز.
_ من أين تأتي السعادة وأنا كل يوم لا أصبّح إلا بوجوهكم الكالحة.
لقد تعودا على سلاطة لسان صديقهما العجوز ذو الجسم النحيل والوجه الدميم، حتى كان يومهما يغدو ثقيلاً مملاً من دون سماع شيء منها.. ثم بعد أن أخذا مقعديهما جانب (أشكيبال) الذي لم يتوقف عن العمل وتدوير دولابه.. بادره (سمبار)..
_ نسائنا ذهبن الى بيتك للمساعدة، مالنا نراك شاردا مضطرباً ووجهك معّكراً منذ الصباح، الست فرحاً بقدوم حفيدك المنتظر؟
_ لماذا أفرح وأنا أخسر كل تلك الخسائر، وبماذا سينفعني قدوم ذلك المولود سوى أنه سيزيد عدد البائسين رقماً جديداً.
رد (كنداش).. من يدري يا صديقي ربما مع قدوم هذا الجيل يتغير الحال فيأتي معه شيئاً من الخير. فالدنيا تدور مثل دولابك هذا.
_ لا شيء سيتغير في هذه الدنيا، الحال سيبقى هو الحال، أما هذا الدولاب العتيق فسيظل مثل صاحبه يدور دوماً حول نفسه دون أن يخطو خطوة واحدة الى الأمام.
_ لكنه لا يعود الى الوراء كحال مدينتنا الخربة هذه، هذا بحد ذاته يجب أن يعطيك شيئاً من التفاؤل للمستقبل.. أما أنا فمنذ أن أصبحت حداداً عرفت أن أصلب الأشياء لابد أن تتغير على السندان.
قطع حديثهم الأبن الصغير لجار (أشكيبال) الذي جاء راكضاً بسرعة مخاطباً اياه بلسان مُتأتأ (ت..قو..ل  زو..جتك  أن  الو..لادة   مُت..عسّرة  وقد  تتأ..خر). ثم هرول راكضاً كالسهم... اللعنة كل شيء مُتعسّر اليوم حتى لسان هذا الصغير.. قال (أشكيبال)، ثم ما لبث أن عاد الصَبي مرة ثانية بنفس سرعته قائلاً.. (لقد  نس..يت  تقو..ل  ز..وجتك  أ..نك  ست..عط..يني  حب..ات  ت..مر  بعد..د  أصا..بع  يد..يك  أذا  ما  جل..بت  لك   البشا..رة).. ليصرخ به (أشكيبال) دون وعي.. أغرب عن وجهي أيها الصعلوك قبل أن أقطع أذنيك وحتى أصابع  يدي.. أنا بأية حال وأنت تريد مني تمراً... أخذ رفيقاه يهدئوه من عصبيته واضطرابه الذي ازداد أكثر بعد الذي سمعه.
عندها طرق سمعهم من بعيد صوت يعرفونه جيداً متنقلاً من حانوت لآخر مردداً (ليحرسكم أنليل)4 .. (لتحميكم الآلهة)... سألهم (سمبار).. هل سمعتموه؟ .. أنه (سنشار) الكاهن.
_ من يكون غيره.. قالها (أشكيبال).. تباً لهذا اللوطي الدجّال، يستجدي العطايا منذ الصباح من المخدوعين والمغفلين كي تحميهم تلك الآلهة الغبية، (ليحميكم أنليل).. (ليحرسكم أنليل)... اللعنة عليه وعلى (أنليله).
رد (سمبار) مبتسماً.. يقولون أنه تاب منذ زمن بعد أن عرف طريق الآلهة وأصبح كاهناً من الرتب العليا. اليوم غدا في نظر الناس من ذوي المقامات المرموقة كونه يعمل في خدمة المعبد ويجمع العطايا للأمير وحاشيته المتخمة.
_ هذا أذا تمكن أن يتوب.. قال (كنداش) ضاحكاً.. لو كان قد عرف طريق الشياطين كنت سأصدق توبته أما الآلهة فلا.. صدقاني أن اللوطي أذا تاب فأنه يصبح أما تاجراً أو كاهناً، وقد يُجعل أميراً أحياناً.. فهذا المخادع وأمثاله يظنون واهمين أن الدين والمال أو المركز الهام يُنسي الناس ماضيهم المُقرف. لكن أكاذيبهم لم تعد تنطلي على أحد بعد أن عرف الجميع ريائهم وغاياتهم الدنيئة.
_ قاطعهم (أشكيبال).. أن أكثر ما يدعو للسخرية أن هؤلاء يدّعون دوماً أن تلك الآلهة اللعينة هي التي منحتهم كل هذا، ليبرروا  وجودهم  ويخدعوا الناس كي ينسوا ذلك الماضي،  مستغلين بساطة وسذاجة تفكيرهم. لكنهم في الحقيقة يُفسدون مجتمعاتهم ويمتصون دماء أبنائها  انتقاماً لذلك النقص الذي يظلون على الدوام يشعرون به، ليثبتوا أنهم هم الأكثر وطائه في أية مجتمع، وهم على أية حال لا يختلفون بشيء عن اسراب الجراد التي تقضي على الحقول الخضراء.
عندها وصل الكاهن مدخل الحانوت.. ظّل واقفاً تحت السقيفة الخشبية التي تتقدمه ثم صاح.. مبارك حفيدك يا (أشكيبال)، عسى أن يحميه (أنليل) ويمنحه بركته.
_ ليحتفظ  ببركته لنفسه  لسنا بحاجة لها. ثم ألا تنتظر قليلاً أيها  النصف رجل حتى يأتي ذلك المولود البائس أولاً ثم تأتي لتمد يدك كالشحاذين، أم أنك هكذا دوماً تأتي قبل الحصاد مثل الغربان السوداء.
_ لماذا أنا كاهن أذاً؟ لا تظن أنك بتهكمك المعتاد هذا ستجعلني أنسى اليوم هدية الأله.
هنا أخذ (أشكيبال) يضغط بشدة على عنق الجرة التي كان يصنعها متخيلاً اياها رقبة الكاهن، حتى غدت بحجم الأصبع.. (ومن يدري ماذا سيكون هذا المولود لو باركته آلهتك، فأراً أم أرنباً لا أحد يعرف... ربما قرداً مثلك).
ضحك (سنشار).. سأعود لاحقاً عندما يأتي المولود، لا تنسى أن تجّهز الهدية... ثم غادر المكان الى حانوت آخر صائحاً .. ليحميكم (أنليل).. لتحميكم (الآلهة)...
_ بالمناسبة يا (أشكيبال) ماذا تتمنى أن يكون المولود صَبياً أم بنتاً.. قال (سمبار)؟
فأجابه بسرعة و دون أن يفكر.... بالطبع بنتاً.
_ أنك دوماً ترغب بعكس ما يريد الناس.. لماذا بنت؟
_ أجابه ناظراً الى نفسه.. لا أريد أن تتكرر هذه المأساة ثانية.. ثم مهما كان رأيكم فالبنت أكثر حنيناً على أهلها وتساعدهم في عمل البيت، أما الولد.. اللعنة عليه.. فهو ما أن تنمو لحيته حتى يبدأ بعناد أبيه ويقضي معظم وقته بمرافقة بغايا المعبد5. وقد تحدث الكارثة الكبرى فيصبح كاهناً مثل المخادع (سنشار).
فيما هم بحديثهم حول أفضلية الصبية والبنات، سمعوا عند الحانوت المجاور ضحكة ً عالية، كشفت بيُسر عن صاحبتها.. أنها الغانية (سُمانو).. التي ما أن تأخذ الحوانيت بفتح أبوابها حتى تبدأ بالتجوال بينها مروّجة ً ل(بضاعتها).. فما أن سمعها (أشكيبال) حتى ضرب جبهته بيده الملطخة بطين الجرار قائلاً.. اكتملت، لم يعد ينقصني اليوم إلا هذه التافهة.
وما أن وصلت عندهم حتى خاطبت (أشكيبال).. ها أيها العجوز (ألا تريد اليوم أن تنسى شيئاً من تعبك)؟
_ أسمعي أيتها البلهاء.. بدلاً من تتعبي قدميك بالتجوال هنا وهناك عارضة ً نفسك للجميع.. لما لا تبحثين عن أبله ما لتتزوجيه؟
 _ هل تعرف أحدهم؟ أن زبائني جميعهم من البلهاء.
_ ما رأيك بذلك الكاهن اللوطي؟ .. أنكما مناسبين لبعضكما تماماً كالقِدرة وغطائها.
_ تقصد الكريه (سنشار)؟ هل خلت المدينة من الرجال، حتى أرضى بذلك المخادع؟ أنه حقاً يزكم الأنوف.
_ من غيره.. يُقال لو تزوج لوطياً من غانية فأنهم سينجبون إله.
_ إله؟ يا لحظي العاثر متى أتخلص من تلك الآلهة المجنونة...
_ نعم إله.. لأنه سيتحكم بمصائرنا، وبدورنا نقوم بشتمه صباح مساء.
لم تجبه بل أكتفت بأطلاق ضحكتها المجلجلة مفارقة الحانوت لتبحث عن (رزقها) في مكان آخر وسط ضحكات رفيقيه.. سائليه بوقت واحد.. الآن يا (أشكيبال) هل ما زلت عند رأيك في البنات؟ لم يرد بل أكتفى بتدوير دولابه مواصلاً عمله، متمتماً بصوتٍ خافت.. (أنها على أية حال أشرف الف مرة من اولئك الأراذل الذين تسيدوا مدينتنا في هذا الزمن الأغبر).
جاءهم الصبي الصغير مرة أخرى راكضاً أسرع من السابق و هو يصيح .... (أعط..ني  الت..مر  أ..يها  العجو..ز  ل..قد  و..لدت  ل..كم  بن..تاً،  تق..ول  زو..جتك  أن..ها  جم..يلة  ووووو).
_هل خرست أيها الجرو، ماذا بعد؟
_ (ت..قو..ل  زو..جتك  أن  الموّ..لدة  ق..د  كشف..ت على  زو..جة  أب..نك  الآ..خر  و ت..بين  أن..ها  حُب..لى  هي  الأ..خرى  و تنت..ظر  مو..لوداً)  ... قال هذا ثم أنطلق كالسهم خوفاً من غضب (أشكيبال)، الذي أخذ يدير رأسه يميناً ويساراً نافخاً بصوتٍ عال... (اللعنة.. الكارثة مرة أخرى، مرة أخرى).. ليقاطعه (كنداش) سائلاً.. حسناً يا (أشكيبال) الآن وقد أستجاب القدر لرغبتك وجاءتكم بنتاً ماذا ستسمونها ؟
فكرّ قليلاّ ثم قال.. (سمّو)، نعم سنسميها (سمّو)6... ربما تكون مثل حمامة الحكيم الخالد (زيوسدرا)7 فتجلب معها غصن الزيتون الأخضر، ليأتي بقدومها السلام الى العالم فتزال الغمة عن مُتعبيه.
ما كاد يختم جملته حتى باغته الكاهن (سنشار) كأنه كان واقفاً بالقرب منهم ينتظر قدوم خبر المولود...
_ لتحرس الآلهة أحفادك يا (أشكيبال)، الآن عليك أن تقدم هديتين لمعبد (أنليل) بدل الواحدة، لقد باركتك الآلهة وسترزقك بحفيد آخر..
رفع (أشكيبال) رأسه الى الأعلى وصك أسنانه مُغمغماً بكلمات غير مفهومة، ثم وضع بعنف كتلة الطين على الدولاب ضارباً محوره بشدة، صائحاً بعلو صوته الذي يصل حتى طارف السوق.. (ستظل تدور أيها الدولاب).
 
الهوامش
1)نيبور .... أو (نفر) ، المدينة الدينية الأولى لدى السومريين كونها مقر الاله (أنليل) وزوجته (ننليل)، تقع على مسافة 7كم شمال شرق مدينة (عفك) و 175كم جنوب (بغداد).
2)الشيقل .... وحدة لوزن المعادن و المواد الثمينة كالفضة والذهب. أستخدم منذ فترة مبكرة في وادي الرافدين، يعادل 8,4 غم .
3)الأوقية السومرية ... تعادل تقريباً 2,5كغم
4)أنليل .... إله الهواء لدى سكان وادي الرافدين، معنى الاسم بالسومرية (سيد الهواء)، يعتبر أقوى الآلهة السومرية، مقره مدينة (نيبور) أو (نفر).
5)كانت مؤسسة المعبد تدير ظاهرة البغاء في المجتمع العراقي القديم بدعم من السلطات الحاكمة ومنها أخذت شرعيتها وقانونيتها، تمثل مردوداتها أحدى الموارد الاقتصادية المهمة لهذه المؤسسة.
6)سمّو .... تعني بالأكدية (حمامة).
7)زيوسدرا.... الحكيم السومري الذي أنقذ نسل الكائنات الحية من الفناء بعد أن بنى سفينة كبيرة أنقذتهم من الطوفان. يقابله (أوتونابشتم) البابلي و(نوح) في الديانات السماوية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1016 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع