عُقدة تدعى الوطن

                                             

                         حامد خيري الحيدر


قبل سنين بعيدة مضت كنت قد قرأت للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كتاباً عنوانه (شيء عن الوطن)، كان عبارة عن مجموعة مقالات كتبها الراحل بعد عام 1967، مضمونها كما يستدل من العنوان أحاديث احتضنتها الشجون،

عكست بكلمات بسيطة لكنها قمة في التعبير، لوعة الشاعر بمعاناة وطنه السليب ومحنة شعبه المقهور نتيجة الاحتلال البغيض بما فرضه من اغتراب وتهجير قسري، كان أكثر ما يشد القارئ لها هو ذلك التمسك الأسطوري من قبل الشاعر بوطنه رغم ما أصابه من جراح أوصلته لحافة الفناء.... وبعد مرور كل تلك السنوات الطوال اخذت ذاكرتي المتعبة بفعل صقيع الغربة اللعين، تستعيد رغماً عنها وتمسكاً بشيء من بقايا الماضي المُهلهل العديد من العبارات التي وردت في ذلك الكتاب، حيث أخذت عقب سنين الغربة الخانقة أشعر بنفس ما كان قد أحس به الشاعر وما عاناه من آلام خلال تلك الحقبة الصعبة، بعد أن افترست وحشة غربتنا ربيع شبابنا وأجمل ايام عمرنا، ناخرة أرضتها عظامنا شيئاً فشيئاً، لنقضي ما تبقى لنا من ايام مبهمة في دوامة هذه الحياة محاصرين، مقيدين، بين أسوار تناقضاتها وتناقضاتنا على السواء، بعين نرنو الى همومنا وثقل أوزارها على اجسادنا المتهالكة المأسورة داخل واقعنا الغريب الذي فرض علينا، وبالأخرى نحو مأساة وطننا وما آل اليه حاله الكارثي الدامي المُبكي، ليُمحى من ذاكرتنا أدنى أمل بنهاية محنته الأزلية وعودته الى سابق عهوده الماضية الزاهية، كي يتسنى لنا ولو بعد حين التقهقر مُترنحين اليه....
هنا أتساءل باستغراب أو تعجب عن ماهية تلك العُقدة المحيّرة؟ أعني بها عُقدة التشبث بذلك الوطن الذي فاحت منه رائحة الموت وتملكته أشباح الهلاك، لينثرنا عنه كما يُنثر الغبار عن تحفة قديمة مات أصحابها، أو عن قطعة أثاث عتيقة بالية فقدت رونقها بفعل صخب الحداثة المُزيف، سالباً كل شيء منا حتى انسانيتنا وكرامتنا، بل وحتى شعورنا بأننا أحدى المخلوقات الحية الهائمة بغرائزها على سطح هذا الكوكب الدوار... وعزوفنا بذات الوقت عن مراح غربتنا الفسيحة التي أصبحت كذبة سمجة، ابتدعناها ولم يصدق زيفها أحد سوانا، بعد أن أثبتت مسيرة الايام وتجاربها العقيمة بعدم وجود ما يربطنا بأرضها سوى الحذاء، كما قال فصدق الاديب السوري الراحل (محمد الماغوط)، رغم تطورها المجنون وبهرجة الوانها الساطعة المُبهرة...
وأقف عند عبارة واحدة ل(درويش) في كتابه قد تتضمن شيئاً من الاجابة والايضاح عن سؤالنا المحيّر.. (نحن لم نختر هذا الوطن بل هو الذي اختارنا).... فيا له من اختيار!!! يا ترى هل كان هذا الوطن نعمة وهبت لنا لصفاء قلوبنا، أم نقمة أنزلها القدر علينا ليكشف ما بداخلنا من شرور؟ فهل كنا نزلاء في ملجأ للأيتام ليتبنانا ذلك الوطن مُنعماً ومُتكرماً علينا بأبوته علينا، مانحاً ايانا أسمه النبيل منّة كحال اللقطاء الباحثين عن نسب يستدل به حتى لو كان وضيع؟ أم تراه قد أشترانا من أحدى أسواق النخاسة لنكون عبيداً له ما امتدت أعمارنا وطالت على مساحة الدهر؟ لكن أياً كان ذلك الاختيار، فأننا بالتأكيد قد دفعنا ثمنه دماً ودمعاً وغصةً مستديمة في القلوب، بعد أن سبقنا بذلك أسلافنا، ثم ليبقى سُبّة ولعنة للقادمين من بعدنا... فيا ترى هل سينهض وطننا يوماً من رماده لنكون فخورين بعبوديته؟ أم ترانا سنظل نجتر ذكرياتنا وحسراتنا على ماضٍ ولى وانقضى، هي كل ما تبقى لنا من ذلك الوطن المتهاوي المنشود؟؟؟

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

636 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع