القائمقام أبوعَـزام ! الجزء الأول / ١١

                                                              

تأليف
الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر
 أستاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سابقاً

     

القائمقام أبوعَـزام !
رواية واقعية تنقصها الصـراحة,من الحياة الأجتماعية
في العراق,.. في الحقبة بين سنة 1948- 1958م

                                    
في مســاء اليوم الذي لجأت فيه " صبرية " الى بيت رئيس البلدية, أنتشرالخبروتضاربت الأشاعات عن السبب, وتوافدت زوجات اوجهاء المدينة  لزيارة زوجته, فأعدت لهن متكأً, ثم خرجت عليهن صبرية, ووقفن مـُكـبرات لجمالها, ومرددات عبارات الأســى عما سـَـمعن من أشاعات مُغرضة لسَـفـرالقائمقام المفاجئ الى بغداد, وبكل ثبات نفت " صبرية " تلك الأشاعات وأكدت أن سـَفـرته متعلقة بالأمن, وسيعود قريباً, فتتدخل أم علي لتخفف عنها عناء الأستجواب وتجاملهن لكي تقطع دابرأحاديث شـَماتتهن!, والسيدة " صبرية " في ذهول مما تسمعه, فتنظر في وجوههن, محاولة أن تتفهم ما يدوربأفكارهن, ولكن من دون جدوى!,ثم تبدأ الخادمة بتقديم الشاي والحلوى, على أنغام الأغاني الشعبية, وهـُن في نشوة, متلذذات بعذاب " صبرية ",وهذه هي حال المستويات الهابطة من الناس يتلذذون بمآســي الآخرين وينســون أن بقاء الحال من المحال , فالدنيا مثل دولاب الهوى,..وكما قال الأمام علي (كرم الله وجهه):
"الدهر يومان, يوم لك ويوم عليك, فأن كان لك فلا   تبطر, وأن كان عليك فلا تحسر,.. فكلاهما زائل"!
*** قبيل آذان المغرب, يغادرن الزائرات داررئيس البلدية وتودعهن" صبرية " وأم علي وجميعهن يرددن الدعاء بفك أزمة القائمقام, وأن ينجو من الدسائس التي حيكت من حوله!
*** وما أن يخرجن النسوة, تقود أم علي ضيفتها " صبرية " وتجلسان في الهول,.. وفي هذه الأثناء يدخل أبو علي حاملاً بيده أكياسـاً بما لذ وطاب من الفواكه والحلويات,اكراما لضيفتهم زوجة القائمقام,.. فتهب أم علي مرحبة به,..ويبادلها التحية, وتسـرع "صبرية" بوضع العباءة على رأسها ,.. وترد تحية أبوعلي بكل خشوع وألم,.. ويتكهن أبوعلي, بما يدور من أسئلة في ذهن ضيفته,.. ويحاول ان يطمانها ويقول:
* الان كنت بمعية معاون الشرطة, وعلمت منه أحتمال عدم عودة ابوعزام ثانية الى الشطرة, فما هي الطريقة التي تقترحينها لنقل عفشكم الى بغداد؟, فتحضن أم علي ضيفتها لتخفف عنها الصدمة, وتسأل زوجها : يعني كلام ضيفاتنا صحيح؟, (ما كو شي ينضم بهاي الولاية؟), ويعم الصمت للحظات, ويستطرد أبوعلي قائلاً: والله يا أختي سـت " صبرية " الرجال مظلوم!,
وكان على نيته ومثل ما يكول المثل: ( يا غافل ألك الله), يقف أمام باب داره ليتمتع بشــط الشطرة,..ويداعب أطفال المدارس وهم بطريقهم الى المدرسة الأبتدائية المجاورة لبيته!
*** تطلب أم علي من ضيفتها التوجه الى غرفة الضيوف, ثم تعود ثانية الى زوجها ,لمعرفة المزيد من الحقائق, فيسرد لها أبوعلي كل ما سمعه عن تحرشه بالطالبة الصبية" نسمة " ابنة بائعة الكيمر, ووصول الخبر بســرعة البرق الى شـيخ الشـطرة الحاج خيون آل ـ عبيد, ومن المرجح أتصاله بالجهات العليا في العاصمة بغداد, لذا جاء الرد سريعاً بأستدعاءه فوراً, ولا أعتقد أنه سيخرج منها سالماً !   
  * تســترق " صبرية " السمع لما يـَدور بين أبوعلي وزوجته, فينتابها الحزن العميق, وصار حدسـها حقيقة, ولم تسـتطع كتمان غـَيظها,.. وتوجهت الى المطبخ حيث كان أبوعلي وزوجته في حوارحول مشكلة أبو عزام,فـَتحـس أم علي بوجودها, فينتابها القلق, فمن المحتمل أن تكون "صبرية" قد أستمعت للحديث الذي داربينها وبين زوجها,.. فتتوجه نحوها, ألا أن " صبرية " تدفعها برفق جانباً مُبدية غـَضبها, وتكلم رئيس البلدية أبوعلي بألم وفي صوتها غـصَة:
* لقد سـمعت حواركما,..وأنا لا أريد منك يا أخي أن تسـرد لي الحقيقة كاملة,.. فأنا "صبرية", والحياة علمتني الصبر ومواجهة المآسي بكل تحدي!, فليس هناك من ضرورة لأخفاء المعلومة عني,.. الله يرضى عليك أزح الهمَ عني وبين لي كل الحقيقة!
* أختي "سـت "صبرية",وزارة الداخلية أستدعت أبا عزام, وهونفسه لا يعرف التهمة الموجهة له, فلربما يستطيع عن طريق عائلة زوجته أم عزام, أقناع المسؤلين في بغداد لتخفيف العقوبة,وغداً سيتصل بنا ونعرف منه النتيجة, وياخبر بفلوس بكره أبلاش!,.. فتنظر له بعين الريبة,..
* لماذا أذن خـَبأ علي الأمروكذب ورحل من دون كلمة وداع؟!, ولماذا تركني ولم يصطحبني معه الى بغداد؟!
*  يجيبها أبوعلي بهدوء وروية ليكسب ثقتها ويخفف من ألمها, قائلاً: والله يا سـت "صبرية", أبو عزام ما كان بوعيه, فقد تلقى التهمة على حين غـَره, وكما قيل" ياغافل ألك الله!", كما أنه خاف عليك لكونك حامل ولا يريد أن يؤثرالخبر السيئ على الجنين,.. أويسبب لك الأجهاض! أضافة الى مخاطرالطريق وأنتشارالأشاعات المغرضة بحقه, التي سببت تدهوراً بصحته!
ولهذا كلفني بالعناية بك وتسفيرك الى بغداد عندما  يتعذر رجوعه الى الشطرة,..ولو أن ذلك يقلقنا ويؤلمنا لمعزة أم علي ونساء الشطرة بك,ولكن ما العمل؟!, ذلك أمرالله الذي لا مـردَ له, ونحن سعداء بوجودك معنا, ولوأقتضى الأمرأسبوعاً آخراً !,.. ثم يلتفت لزوجته ويقول لها:
* هل ستوافقين على العرض الذي قدمته الى " الست صبرية " ؟!, فتجيبه " صبرية " :
* كلكم كرم يا أهل الشطرة, والنعم منكم,..ولكن الموقف يتطلب مني التوجه فوراً الى بغداد,..
لأكون بجانب زوجي أبو عزام,..فأرجو أن تعينني على التوجه غداً عند الفجرالى دارنا لجمع بقية ملابسي والحاجيات الخاصة والثمينة,..وأترك ما لسنا به حاجة لتوزيعه على الفقراء !
* على العين والرأس طلباتك أوامر ياأختنا"صبرية", ومع الأسف أن نفترق وأنت بهذه الحالة المزرية, ونسأل الله أن يكون بعونك, وتلتقين بأبي عزام وهو بصحة جيدة.
* تخيم على الموقف لحظة صمت, ثم يوجه أبوعلي كلامه لـ " لصبرية " : غداً ســأطلب من أمحيسن الحضورعند الفجر,..ليرافقك الى بيتك لكي تشرفي بنفسك على أنتقاء ما تحتاجينه من عَـفــَش وترك ما لاترغبينه, وتعودين لبيتنا بأسرع ما يمكن قبل أن يستيقظ الناس ويشاهدونك برفقة امحيسن فتزداد الشائعات,فتهز" صبرية " رأسها أشارة بموافقتها !,..ثم أستطرد أبوعلي بصوت أجَـش وبكلمات تعثربنطقها قائلاً: وعند الفجر,... تكون سـيارة خاصة فيها أحد أفراد الشرطة ليوصلك الى باب بيت خالتك في بغداد!
 *** وفي الموعد المحدد عند الفجر,.. تودع "صبرية" عائلة رئيس البلدية وتتوجه نحو بيتها ومتجنبة الأسواق المزدحمة بالباعة في عـَلـوة المدينة, وأمحيسن يحمل حقيبتها, سـائراً خلفها,
وما أن يقتربا من باب الدار,حتى يضع أمحيسن الحقيبة أرضاً , ويفتح الباب لعمته,.. ثم يطلب منها دخول بيتها, ويضع الحقيبة في بهو الدار, وتتوجه "صبرية" بسرعة نحو دولاب الملابس لأنتقاء الضروري منها,.. ثم توجهت للبحث عن صندوق حليها الذهبية فتصعق من المفاجأة, حيث لم تعثرعلى الصندوق فيصيبها الهول والقلق,وراحت تفتش عشوائياً في كل زوايا الغرفة ولكنها لم تعثرعلى شيئ البته!,..فيدب عندها اليأس,وتصرخ, وتنتحب وتلطم وجهها قائلة:
* فعلها (الخسيس),..تركني ونهب كل ما أملكه,..نسأل الله أن ينال العقاب ولا يرى الفرج من كربه,..وليذهب أينما يشاء ,..فأنا وراءه والزمن طويل!
*** يصل أبو عزام في الوقت المناسب الى محطة (أور),..وما أن توقف القطارحتى هرع له مدير المحطة وبعض مساعديه,.. وبعد الترحاب به,.. نودي على خادم المقصورة المحجوزة لسيادته بالنزول ورفع شنطة القائمقام واأعانته بالجلوس في مكانه المحجوز,.. وبعد التوديع, يصعد القائمقام لمقصورته, ويطل من شباك عربة القطار(الفاركون),.. ملوحاً بيده لمودعيه, وما أن أبتعد القطار, دخل مقصورته وجلس في المكان المخصص له مُطأطأ الرأس, والأفكار تتراقص في ذهنه, والصور القاتمة تكاد تعمي عيونه,.. فتارة يبتسم,.. وتارة ينتحب ويتشنج ويغضب!,.. ثم يسرح بحلم اليقظة,..ويرى " صبرية " وهي مقبلة عليه ببدلة النوم الزاهية الألوان والشفافة,.. فيبتسم ويداعب بطنها قائلاً: أربعة أشهر,أي أنت حامل في شهرك الرابع؟!
ويستمربالكلام الصامت معها لفترة وجيزة, ثم يفيق من حلمه, وينظرمن خلال نافذة المقصورة
نحو الأراضي الزراعية والبساتين الممتدة على جانبي السكة الحديدية على مَد البصر!,..فتأخذه سُــنـَة ٌ من النوم على نغمات عجلات القطار!,..ويرى في حلمه (أم عزام), وهي ببدلة الزفاف  فتنتابه الرهبة ويحـس بتورطه بذلك الزواج فهي قبيحة وأكبر منه سناً, ولكن طمعه بالمنصب وحبه للمال أعمى عيونه عن كل ما سيواجهه من مصائب قد تعصف بكل أحلامه الزائفة!,ولذا هبط بسرعة مثلما صعد بسرعة من محام فاشل, الى قائمقام في قضاء مهم بجنوب العراق!
*** جلس أمحيسن على كرسي في الحديقة حينما دخلت "صبرية" الى بهوالدارلجمع حاجياتها وأنتقاء ما غـَلى وخف حمله, وسرح متعجباً لأفول القائمقام من عرشه وحمد الله أنه في وظيفة لا أحَـد يحـسده عليها, وفي أثناء سـَرحانه, يـَسمع صَريخ " صبرية ", فيهرع نحوها,  ويجدها مغمى عليها وممدة على الأرض, في غرفتها, فيسترها بعباءتها, ويحاول رشـق وجهها بالماء  لكي تفوق من غفوتها,.. و يـَسـتـدرجها بالكلام فتقول له:  لقد سـُــرقتُ,..وراح كل ما أملكه!,
لقد قطف أبو عزام عمرني ومالي وشبابي وتركني بلا مستقبل, ولم يترك حتى (صيغتي) التي خزنتها ليوم المحنة,سَــرقها وأداروجهه عني وهرب!
* يصغي أمحيسن لعمته والدموع تغمرمُـقـلتيه, فيتدارك الأمرويمسحها, ولا يدري ما الذي يفعله, فيحاول الهيمنة على مشاعره ويطلب من عمته التحلي بالصبر فهو مفتاح الفرج!,..  
**يطلب أمحيسن من عمته الأسراع بجمع الحاجيات,.. حيث ستصول سيارة الأجرة المتجهة الى بغداد, وبعد مرورربع ساعة ُيـُسمع (هورن) السيارة,..فيطلب من عمته " صبرية " لبــس عباءتها,.. ثم يتأكد من قفل كل الأبواب, ويحمل حقيبتها ويتجه بمعيتها نحو السيارة,.. ويفتح الشرطي لها باب السيارة الخلفي, ويجلس هو في المقدمة , ويصعد السائق, وتتحرك السيارة مودعة دياراً كانت قديماً ديارا !  
 يلوح أمحيسن بيده لعمته والحسرة تمزق احشاءه ,..فقد  رماها جهلها وفقدان أولياء أمرها لتقع فريسة لذئب بشري تحايل على الدين وأستغل ثغراته لأشباع نزواته!
*** لعل معدن " صبرية " النقي لن يفوت الفرصة عليه, فربك بالمرصاد لكل ظالم , وسوف يساعدها في التغلب على محنتها,.. وسنرى كيف ستنتقم هذه الصبورة منه,في الحلقات التالية, مع محبتي !

يتبع في الحلقة / 12,...مع محبتي!

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/19948-2015-11-06-16-51-19.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1138 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع