أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثالثة و العشرون

                                      

                      د.عبدالرزاق محمد جعفر

              

 أعمى بطريق مُظلم /الحلقة الثالثة والعشرون

                    

لم يتمكن "صابر" من الأستمرار في علائقه مع تلك المرأة المطلقة وأنزعج من تصرفاتها مع زمرة الذئاب البشرية المحيطة بها, ولذا ترك الأمرلها لتقرر زيارته وقت ما تشاء,.. ولكن وكما يقال في اللهجة المصرية (المعلم يموت وما يتعلم!),... فقد وقع "صابر" في مطب جديدً ولم يتمكن من التحكم بعواطفه وصار أشبه بالمراهق من الدرجة الأولى,.. وعزى ذلك للقدر, ووجد نفسـه في طريق مظلم من نوع جديد, وراح يردد : دكتور جرح الأول  !

دكتور جرحي الاولي عوفه
جرحي الجديد عيونك تشوفه
اكبر من الاول .. او بمدته طول
جرحين صارن بالكَلب والروح ملهوفه
دكتور وصفو لي الصبر والصبر مليته
ولمن صبح حالي خطر شخصك تعنيته
***
  أخذت هذه العلاقة بالتطوروأصبح "صابر"مؤمناً بأن هذا النهج سيقوده حتماً الى الزواج بهذه الفتاة , فقد شـعربأستكانة عواطفه  نحوها من اول لقاء معها، .. ونسى او تناسى لدغات حواء السابقة , وهكذا ودع "صابر" القلق ليبدأ قصة استطعم بدايتها ولم يحدس نهايتها!
عاش "صابر" تلك الأيام بكنف شتاء العمر فهو على العتبة الأخيرة من سـلم الحياة ، ولا احد يدري أن كانت هذه العتبة قادرة على الصمود عندما يـسـتنـد عليها, ليتسـلق العتبة الأخرى التالية،.. أم أنها ستنهار في لحظة ما ؟, وما من احد يستطيع التكهن, وترك هذا الأمر للزمن !
***
تعلم "صابر" في الأربعينيات ، آداباً معينة تختلف عن ادبيات القرن الحاضر، حيث كانت أكثر أهتماماتها منصبة على العلائق الجنسـية,مثال ذلك :عدم النظرللمرأة,الا مـرة واحدة !
وهكذا التزم "صابر" بتلك التعاليم ولم يحيد عنها واصبح يـسيروعيونه مركزة على أرض الرصيف !.. وكأنه يبحث عن شيء ما ضائع منه , حتى لا يتهم بسوء الأدب !
عاش "صابر" على ذلك النمط كشيخ سـحقه الزمن , وهو ما زال في عنفوان الشباب,.. إلى أن قاده الحظ ليستقرمؤقتاً في بلد تطبع لحد ما على وضـع متزن، فـشـعـر بعودة الروح الى أحاسيس الصبا التي طمرت " بوحل الرجعية ", ونمت تلك الأحاسيس كزهرة في شتاء العمر كما تنبت شجرة الصبير في الصحراء, فأخضرت نفسه , ولم يتهم بقلة الأدب  !
وهكذا تمكن "صابر" خلال فترة قصيرة بكـسرعامل الخوف من الجنس الآخر, و تمكن من التعارف على العديد من المدرسات والطالبات بمرحلة الدراسات العليا بحدود اللياقة والحشمه والأدب, وجالسهن في المقاهي العامة  ولبى دعوات بعضهن لتناول الغداء في سكنهن الجامعي  وتبادل وإحداهن مشاعراً لم تقترب من شـاطئ " الحُب المحرم ", وإنما كان أعجاباً, ثم أقتربت سفينته مع سفينتها عند " المرسى ", ... إلا أنها لم تسمح له بالصعود الى سفينتها وقالت له :
 سفينتي ملعونة, هل تفهمني ؟! ابتعد عني حتى لا تغرق لأن البحرعـميق  فصمت "صـابر" للحظات, ولم يستطع اجابتها, ونظر في عينيها مُردداً بصمت كلمات الشـاعـر"رفيق اطميش":
    أين مني طيفك الموحي إذا ما الليل أمسى
                             وسقاني الشـوق آلام الهوى كأساً فكأسى !
***
لا أريد أن اسرد لكم كل ما أعرفه عن الحظ التعيس لـ "صابر",... حتى لا أتهم بالمبالغة,  
 ظـلً يسبح ضد التيار لكي يدرك الحقيقة,.. وما من مرة وصل إلى شاطئ الأمان ،.. لذا أنهكه التعب وانهارت صحته واستسلم للقدر, ومن حسن حظه كانت الأمور تـفـرج, ويجد من يمد له يد العون , كـيـد من خلال الموج  تـُمَـد  لـغـريـق !
وهكذا تراكمت الهموم على "صابر",..وتبدل حلو عـَيـشه مـُرا,.. وهو ما زال  في خريف العمر,.. وبدأ يشـعـر بجفاف العواطف وسبات الغرائز ليس بسبب  العمر, بل لأسباب عديدة، يرجع معظمها لحياة الوحدة بعد فقدان اليمامة منذ فترة طويلة ، إضافة إلى قساوة المجتمع على من يعاشـرامرأة شريفة,.. حتى كصديقة ,.. يتهم بعلائق فاسـدة , لا تختلف عن بنات "الهوى"!  ولذا انطوى "صابر" على نفسه وأصيب بـسـبات الغـرائـز وصار يتخوف من أية علاقة معمقة مع امرأةمن أي مستوى !, وعاش وحيداً يصارع مباهج الحياة,.. ويتمزق  من قوانين الحلال والحرام,.. الى أن عصفت به  رياح عاتية مفعمة بالأعراف المتحضرة !
***
أسـتقر "صابر" في تونس الخضراء في شتاء عمره،.. وتمرد على كل ما تراكم في ذهنه من التقاليد البالية,.. فأخضرعوده بسرعة وسار وراء حورية بصر بها عندما هـمًت بالدخول الى مكتبة على قارعة الرصيف ,..فدخل خلفها وَهمَ بشراء جريدة الصباح , ومن دون مقدمات وقف بقربها,.. واخترق حشمتها وحياها بتحية الصباح, وردت بمثلها, وما ان غادرت المكان حتى لحق بها, ثم دعاها لشرب قهوة الصباح في المقهى,فأستغربت, وسألته " اشكون انتي"؟  (أي من أي بلد أنت ...وفي تونس يؤنثون المذكر عند مخاطبته),... ثم لبت دعوته .
***
أنقاد "صابر" نحو سراب حسـبه الهناءً , لأنه كان فاقداً للبصيرة, فأقتحم سـور الغباء وسارفي الطريق المظلم!, وبعد أسابيع بدأ يفوق من ذلك الحلم الجميل,  وتلاشى كل شيء بعد إن عًلَمَ علمَ اليقينْ عدم قدرته على ترويضها!... فالإنسان السوي  يرى كل شيء بوضوح، إلا أنه لم  يلُّمَ بجميع جوانب الحياة لعوامل عديدة منها "درجة البصيرة " لأختلافها عند البشر, أو حتى عند الشخـص نـفـسـه وفق الظروف النفسية التي يعيشها!.. وليومنا هذا لم يستطع الدكتور "صابر" التعرف على بصيرته, بالرغم من مسيرته الطويلة التي عاشها،.. وطالما سـأ ل نفسه عن سبب ذلك ويقول:
"هل  تصرفه هو ضربٌ من الغباء؟!"..أم هذا هو قدره؟!,... والى متى سـيبقى متخبطاً لكي يستنباط الحقيقة ؟! وهل للحقيقة وجه واحد أم وجهان؟
***
اكتسـب "صابر" العديد من (الكبسـات) في حياته لتعامله مع الجنس اللطـيـف بمختلف الأعمار بحكم عمله في جامعات عربية وأجنبية لفترات زمنية محددة, ولذا فمن غـيـر المعقول أن لا يوفق بصداقة بريئة مع  سـيدة تروق نفسه لها لقتل الضجر بمعيتها اوقل الكآبة التي يعيش بكنفها!,.. ولم لا وهوالآن في مستوى مهني واجتماعي مرموق, وليس أمامه سـوى خلع ملابسه القديمة وارتداء ما يلائم  محيطه الجديد,.. ومسايرة الناس وفق الأعراف الأجتماعية السائدة عندهم لتعويض ما فاته من متع الحياة  العصرية التي عزف عنها طيلة السـنـوات الماضية ، وان يكف عن معاقبة ذاته وردعها عما هو متعارف عليه اجتماعياً,... فقد يؤدي ذلك لأنتكاسة صحته النفسية المنهارة اصلاً اذا ما اسـتمرعلى تلك الحال؟! وهكذا راح يحاور ذاته ويقول لها  إلى متى أستمربالفشل؟.. ولماذا أفشل في عـقـد صـداقات في بلد عمت فيه الحرية والبهجة في الأوسـاط  المتعلمة بشكل لا يحتاج لعناء !,..
ولكن وكما يقال: الحلو ما يكملش !,..فبـدأت المطبات تعترضه وقادته إلى الإحباط ثانية, ولم يجد فيهن غيرالرياء والعداء! كاد "صابر"ان يكـفـُر بكل (المـُثـلْ), فهو لم يطمع بشيء اكثرمن  "صحبة " تخفف عنه آلام الغربة وتعـيـد له البهجة، فقد سارطويلاً متحدياً المعوقات
وزاهداً بمتع الحياة ,  وفي كل يوم يُعزي النفس بانتهاء النحس , ولكن لا مفرمن ذلك,..فقد عشعـش النحس في بدنه, أو قل هما وجهان لعملة واحدة !

 وعلى اية حال, لم يلتزم "صابر" بأية نصيحة, وساربلا وعي ولا أرادة خلف تلك العا نـس التي أثارته بجسدها الكامل الأوصاف وسحرِعيونها وعذوبة ابتسامتها,... يوم أن كانت تشتري من مخزن للكماليات في سوق المدينة المركزي,.. ووقف بجوارها مصغياً لحديثها ,.. واستمتع بتلك اللحظات السعيدة مع أحلام اليقظة, مُراقباً نهاية ســجالها مع البائع،.. وما أن انتهت حتى اسـتدار ولحق بها وأدركها ! ... ولقد فقدَ صـوابه , وسـرح في احلام اليقظة,..وقال لي :

 " أنني لم أر (أنـسية) بعيني ، بل شاهدت (حورية) وشـعرت نحوها بقدســية لا نظير لها !
 فالجمال شُعاع غير مرئي يؤثرفي شخص ما ولن يتأثربه آخر, لأسـباب لم يتوصل العلم لمعرفتها, الا انه أقر بأن المرأة الجميلة تزيد الحياة رونقاً، والحبيبة تزيد الحياة هناءً !
لا أريد أن اسبب ألماً لشخص قد يلمس صد قاً في سـرد معاناة "صابر", عندما سار خلف مخلوقة حسبها الهناء, ولكن تبين فيما بعد أن ما رآه سـراباً !،.. فقد حَجبت عيناه غشاوة جعلته كالأعمى ، وهكذا دفع "صابر" ما تبقى من عمره ثمناً باهضاً إلى "الهناء" المزيف,..  وسـار خلف عواطفه من سيئ إلى أسوأ!
لم يكترث "صابر" لأي مـطب تعرض له,.. لأنه خـسركل شيء وكـسب الذكريات ليقدمها عِظَّةً لمن يتعظ قبل فوات الأوان، طالباً من الفاشل أن يتعامل مع الواقع مهما كانت قساوته!
الأخطاء الجسيمة في حياة كل منا قد تكلفه سعادته، فبعض النسـاء في مجتمعنا يسعدن بـهـيمنتهـن على الرجل عندما يهيم بحبهن,..ويلعبن بعواطفه من دون اشباعها , فيحترق شوقاً فيزددن نشوة وتسـمواغرائزهن الدفينة, ولن تتم فرحتهن إلا بالضربة القاضية!
الكثيرمنا لا يعـيرأي اهتمام للأمراض الاجتماعية لجهله بخطورتها وضعـف قدراته الفكرية ، فيدفع الثمن غالياً ويندم في الوقت الذي لا ينفع فيه الندم!
ونتيجة لتدهورالآداب وابتعاد معظم الناس عن الأخلاق الحميدة، صارمن الضروري الاستشارة والتروي في اخذ القرارعند الأرتباط بحواء والعكس صحيح, الى ان تحين قناعة الطرفين من دون ترد َّد او فرض شروط تعجيزية من طرف الى طرف آخر فآثار التردد مُرة وقد تكون عواقبها أسـوأ من الفـشل في تنفيذ الهدف, وكما قال علماء الأجتماع :
الخوف من الفشل أشـد ضرراً,...من الفشـل ذاته !
***

يتبع في الحلقة / 24

للراغبين الأطلاع على الحلقة السايقة

http://www.algardenia.com/maqalat/14317-2015-01-03-18-31-42.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع