دولة الكرسي المتحرك

                                        

                          إبراهيم الزبيدي

مجنون وعديم حس وسيء خلق وبلا ضمير من لا يتمنى أن تكون دولته حرة تماما وآمنة وعاقلة وعادلة، وزعيمه حقيقيا نزيها وشريفا وشجاعا وحكيما يستحق المحبة والثقة والاحترام.

لكننا، في هذا العراق المنحوس، من زمن طويل، لم نعرف هذه الدولة، ولم نكحل عيوننا بذلك الزعيم. محرومون من عيد وطني واحد يحتفل به جميع المواطنين، وينشدون فيه نشيدا وطنيا واحدا ويلوحون بعلم واحد، ويهتفون بعفوية وبدون طمع في منصب أو مكسب أو عمولة، ودون خوف من أمن ومخابرات ومليشيا.
وحتى العهدُ الملكي الذي كان أرحم مما جاء بعده وأقل سفاهة وتفاهة وقلة نزاهة، كانت غيومه المجزية تمطر على هذه المدينة دون تلك، وعلى هذا الشيخ دون ذاك، وعلى ذاك الحزب دون سواه.
ومنذ سقوطه توالت العهود علينا دون توقف. يأتي عهد جديد بقوة الدبابة، ثم يذهب بقوتها أيضا ويضاف إلى قائمة العهود البائدة. حتى صار نصف العراقيين أتباعا لعهود بائدة، صودرت أموالهم، وسجن منهم سجن، وختفى امن ختفى، أو(هج) من (هج)  دون خام ولا طعام.
ثم أكملها (حلفاؤنا) الأمريكان فأسقطوا الدولة كلها من جذورها، وأقاموا على أنقاضها ديمقراطية الخنجر والساطور، وسلموها لشلة من الشطار، وغادرونا على عجلة. والذين امتهنوا مقاومة الاحتلال الأمريكي بالسلاح والمفخخات، بالأمس، بحجة التحرير ها هم اليوم يلتمسون من الأمريكان العودة المظفرة إلى حصنهم الحصين من جديد.
وبعد كل ما جرى في عشر سنين من حكم أصدقلئنا المعارضين السابقين العائدين من مقاهي عمان ولندن والرياض ودمشق، وبعد كل ضراعات ملايين المظلومين والمخطوفين والمشوهين والمهجرين، وأحلامهم بالتغيير والتحرير وبرفع أيدي الذباحين (الملتحين) عن رقاب الفقراء والمساكين وأهل السبيل، حصل التغيير، واحتفل به المرجع الأعلى وشيخ الطريقة وزعيم القبيلة.
ولكننا، بعد انقشاع الأدخنة، ها نحن نكتشف أن التغيير سراب، وأن كل شيء، في عراقنا الديمقراطي الجديد، عاد إلى أصله، وأن كل حصان قد رجع إلى معلفه، معززا مكرما، أقوى، وأشد عزيمة، ولا حسيب ولا رقيب.
نوري المالكي، مثلا، بعد كل الأموال التي أهدرها أو هربها هو وابنه وصهراه وأعوانه المقربون، وكل الدماء التي سفحها بالباطل، وآلاف المعتقلين الذين أطلق سراحهم أخيرا لثبوت براءتهم بعد سنوات من الاعتقال الباطل، ورغم أنه المتسبب الأول والوحيد باحتلال ثلث الوطن وذبح ألاف الرجال، وسبي آلاف النساء، ما زال يصول ويجول ولسانه أطول من قبل، ولم يسأله أحد. حتى المرجعية لم تطلب من خليفته (العادل) حيدر العبادي تسليمه للعدالة.
أذكركم. في يوم تتويج حيدر العبادي قائدا للتغيير المزعوم كتبت هنا تحت عنوان (أيها العراقيون لا تتفاءلوا كثيرا) قائلا، " إن العراق بتركته الأميركية وبوضعه الراهن وبجيرته الحالية وبتماسيح أحزابه وتنظيماته ومليشاته، بحاجة إلى طرزان. ولا أظن أن يكون حيدر العبادي ذلك الطرزان".
ثم عدت وكتبت أيضا تحت عنوان (حتى أنت يا حيدر) قائلا، " إن السلطة الحقيقية في العراق لهادي العامري وقاسم سليماني والمرجع الأعلى وشيخ القبيلة وجيوش 'المجاهدين'، ولا مكان فيها لواحد لوطني عراقي حقيقي كفوء ونزيه وشجاع وصاحب ضمير".
ثم لم يطل بنا الزمن حتى خرج ممثل المرجع الديني الأعلى في كربلاء أحمد الصافي ليعترف، وعلى رؤوس الأشهاد، بأن "أخطر ما يواجه البلاد اليوم، إضافة إلى الإرهاب، هو الفساد المالي والإداري الذي اصبح حالة شبه عامة، والذي لم يعالج بجدية لغاية الآن، وأعاق التقدم والازدهار وتحقيق الحياة الكريمة للمواطن"،
لافتاً إلى أن "بعض المواقع الإدارية في مؤسسات الدولة لم تشغل وفق المعايير الفنية والعلمية بل عن طريق العلاقات والمحسوبيات الشخصية والحزبية وذلك سيؤدي إلى أخطاء كبيرة قد لا تُتلافى أبداً".
ومثلما كنا نطالب من عشر سنوات هاهو ممثل السيستاني يطالب أيضا مثلنا "بالابتعاد عن توظيف من ليس أهلاً للموقع، وبالتفتيش عن أصحاب الكفاءات والخبرات الذين يزخر بهم العراق وتعيينهم وفق ضوابط القانون".
يعني أن السيد السيستاني أراد أن يقول إن دولتنا، دون لا شك ولا جدال، ليست دولة. لم يجرؤ على القول مثلنا علنا وصراحة إن العرق مستعمرة أمرها ليس بيد أبنائها، حتى لو كانوا صنائع الأجنبي وخدمه المخاصين.
ونسي السيد السيستاني أن يقول إن من ضرورات دوام الاحتلال، إيرانيا وأمريكيا وداعشيا، هو تشرذم العراقيين، وانشغالهم بكنز الأموال والأسلحة، وابتلاؤهم بقتال بعضهم بعضا، دون توقف. شيعة يقاتلون سنة، وشيعة يقاتلون شيعة، وسنة يقاتلون شيعة، وسنة يقاتل سنة. ومباح ومشروع لهم جميعا أن يغتصب المجاهدون نساء المجاهدين، وأن تحرق منازل الآمنين، وتهجر الملايين. أما داعش فليس أكثر من قميص عثمان، وسوق أموال وسلاح ورقيق، ولكن باسم الله والوطن، وهما من جميعهم براء.  
وباسم النفير ضد داعش أصبحت عشائر السنة التي قاتلت الأمريكان بالأمس مدللة لدى البيت الأبيض، ولدى الباب العالي في طهران كذلك. وجيوش (الحرس الوطني) موشكة على الانطلاق لتحرير إقليم الأخوين نجيفي وأبي ريشة وعلي سليمان. ومؤكد أن هذه العشائر، لو استطاعت، فعلا، طرد الدواعش من دولتها السنية المستقلة المقبلة، (عشم إبليس بالجنة) فسوف تشتعل حروب الردة بين شيوخها المدججين بالسلاح الأمريكي الحديث، أشقاء ضد أشقاء، وسنة ضد شيعة، وعرب ضد كورد، دفاعا عن الشرف الرفيع الذي لابد أن يراق على جوانبه الدمُ.. وحتى تركمان العراق خرجوا مطالبين الحكومة بالسلاح. وإن لن تعطهم الحكومة فإن دولة السلطان أردغان جاهزة للتسليم. (ظلت عليهم؟).
تقول لجنة الإنقاذ الدولية إن أكثر من 130 ألف شخص أغلبهم سنة فروا من وسط العراق عام 2014. وخلف النزوح الجماعي قرى خاوية جاء المقاتلون الشيعة والعشائر وقوات الأمن لسد الفراغ.
ويشدد مسؤولو الحكومة العراقية، ومنهم رئيس الوزراء حيدر العبادي، على أهمية مساعدة الناس على العودة. لكن في ظل الفوضى الحالية فإن هناك تساؤلات بشأن قدرة المسؤولين على المساعدة أو رغبة النازحين في العودة.
هذا شيء. أما الشيء الآخر فإن قائد التغيير حيدر العبادي، وسط كل هذه الكوارث المشتعلة، يلبي نداء الواجب الديني والوطني والإنساني ويجد وقتا فائضا لديه ليجتمع مع إخوته في (التحالف الوطني) لمطالبة حكومة البحرين بإطلاق سراح رئيس جمعية الوفاق البحرينية الشيخ علي سلمان.
فقد دعا التحالف الوطني “حكومة البحرين إلى إطلاق السراح الفوريِّ للشيخ عليّ سلمان، وإلى إعادة النظر بمُجمَل أجندة الإصلاح، وتلبية المطالب الشعبيّة بما يكفل محو حالة الاغتراب، والتهميش، واستعادة الحقوق والحُرّيّات؛ من أجل بحرين ينعم فيه جميع أبنائه بالحُرّيّة، والأمن، والحقوق المُتساوية، والازدهار" .
ألم يكن الأكثر عدالة ونزاهة ورجولة أن يعنون فرسان التحالف هذه الدعوة إلى بشار والحوثي وحسن نصر الله؟ وألم يكن المنتظر من دعاة التغيير، ومنهم هادي العامري الحاضر الأبرز في اجتماع التحالف الوطني، أن يطالبوا حكومة البحرين بعدم التهاون مع من يخالف القانون، ومن يهدد سلامة المجتمع، ويتخذ الطائفة ستارا لممارسة العبث بأمن الوطن والمواطنين؟ حتى لو كان أخاهم في الطائفة والتبعية علي سلمان؟
هذه هي الخلاصة. إلى أن نرى نوري المالكي وهادي العامري وغيرهما من المشكوك في نزاهتهم والمتهمين بإراقة دماء بريئة أمام القضاء، وقاسم سليماني وراء الحدود، لن نصدق بأن حيدر العبادي تخلص من طائفيته وتمرد على الخطوط الحمر التي رسمها الباب العالي في طهران، ولن نصفق له  ولا لحزبه و(التحالف) الذي يؤويه.
فالعراق الذي كنا نعرفه، بوجوده ووجود إخوته المتحالفين والمتحاصصيين معه، قد راح، صار دولة مقعدة على كرسي متحرك، والعياذ بالله.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع