أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثانية و العشرون

                                         

                    د.عبدالرزاق محمد جعفر

                

أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الثانية و العشرون

                              

استمر"صابر" بمراسلة ولديه في ولاية (لويزيانه/أمريكا),.. لحثهم على الدراسة والعمل في آن واحد، ونظراً لسوء الأوضاع الأقتصادية في العراق,..  بسـبب الحصارالجائر آنذاك, بات الأمل ضعيفاً في العودة إلى الوطن، ولذا بدأت مساعيه لتسفيربقية افراد عائلته للألتحاق بولديه في امريكا, وتم له ما أراد في آب (اغسطس) 1998, وظل هو في طرابلس حتى نهاية السنة الدراسية, ...وهكذا بدأت مرحلة لمِّ الشمَّلْ , ..إلا أنها اصطدمت بعقبات يشيب لها رأس الطفل, .. فقد عممت الجامعة الليبية بياناً بعدم أعطاء أي عضوهيئة تدريس إجازة للسفرخارج القطر الليبي , إلا بموافقة وزيرالتعليم العالي!، فأتصل "صابر" بصديقه الليبي زميل الوزيرمنذ ايام الدراسة, لأجل منحه اجازة ليوم واحد لمقابلة القنصل الأمريكي لمنحه (فيزة) لأمريكا,كما  
 أنه  بذل جهوداً مضنية لحين موافقة جامعة الفاتح على منحه أجازة للسـفـره إلى تونس,وكذلك   انتظر اكثر من شهر للحصل على تأشيرة الدخول الى تونس الخضراء !, ... والتي زارها عدة مرات في الأعوام السابقة.
ومن أصعب الأمور التي يعانيها المغترب في ليبيا في تلك الفترة,..عدم دفع  راتب الأجنبي ما يستحقه بالعملة الصعبة (%70) داخل ليبيا,.. وترسل تلك المستحقات الى احد البنوك خارج الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الأشتراكية العظمى (هكذا كان أسم ليبيا الرسمي! ), ولذا اصبحت المطبات التي أعترضت مسيرة "صابر" كالمطرقة على رأسـه,.. وجعلته يؤمن "ما كو حلاوه بلا نار"، ... فلا بد من التضحية من أجل ضمان مستقبل أولاده ،... فالأوضاع في وطنه الأول العراق , ما زالت تسير من سيئ إلى أسوء , وليس هناك من أمل للانفراج أو كما قيل في الصحف المحلية في العراق ( لا بصيص في النفق المظلم ), لتغييرالوضع الراهن آنذاك ، كما أن العمل في بلاد العرب اوطاني , يعـتـمـد على العرض والطلب!
 وعلى اية حال, فأن الأمر متعلق بالدولة المضيفة التي استغلت كثرة المهاجرين من أبناء العراق الذين هاجَروا, للعمل في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الأشتراكية العظمى (ليبيا) حيث تمنح الجامعة عقد نافذ لمدة سنة, يمكن تجديده في الشهرالخامس من كل سنة دراسية !, ولذا بدأ "صابر" يخطط لإيجاد مخرج لوضعه إذا ما استغنت الجامعة عن خدماته، وأن حدسـه لا يخيب فهوالآن بكـنـف شـتـاء العمر، وقد سـفـرمُعظم أفراد عائلته إلى أمريكا مُرغماً , حيث لا أمل في الاستمرار في العمل والعيش في ليبيا, فإضافة إلى تردي الوضع الاقتصادي, حيث  هبط سـعـر الدولار إضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية!
قرر "صابر" تهيأة نفسه لمغادرة ليبيا وخاصة بعدما صدرت لوائح للاستغناء عن أي أستاذ جاوز" السن القانونية"، ولذا وجد من الأفضل الاستقالة من عمله ليتفرغ للحصول على التأشيرة الأمريكية والالتحاق بأسرته في المهجر.
وفي شهر نيسان (أبريل) 1999 قدم استقالته إلى رئيس الجامعة عن طريق رئيس القسم  وبدأ يستعد عملياً ونفسياً لإتمام معاملة الخروج النهائي المعقدة والمزعجة!...., حيث يتوجب على من ينهي عمله مع اية مؤسسة في الجماهيرية العظمى  الحصول على عشرات التواقيع من رؤساء الدوائروالمؤسسات الحكومية , حتى التي لا صـلة بصابر بها مثل اثباته تسـديد قوائم الهاتف , بالرغم من عدم امتلاك اي دكتورجامعي للهاتف, ما عدا الشركات الأجنبية والذين يعملون بخدمة السلطات الحكومية الخاصة جداً !
وهكذا ما ان اوشـكـت السـنة الدراسـية على نهايتها،حتى انكب "صابر"على اكمال الأعمال المناطة به, ثم بدأ بمعاملة استحصال حقوقه المادية, والتي يصعب وصفها بكلمات معينة، فهي محنة لا يتحملها أي نوع من البشـر,..أن لم يكن مُضطراً لذلك, لجسامة المبلغ الذي يستحقه,  ولقد أسـر لي "صابر" بمعلومات عن تصرف بعض من الموظفين بطمس مُستحقاته, وترك  المطالبة بها, لا بسبب كرمه بل للمتاعب التي يعانيهاعند المراجعة  في الإدارة العامة للجامعة,   فقد اختفت منه في إحدى السنوات ثمن تذاكرالسفر له ولعائلته لثلاثة من السنين، تقدر بمبلغ ثلاثة آلاف دولار, وظل يطالب بها الى ان نصحه صديق ليبي بترك الأمر نهائياً!, فقد يسبب ذللك ألغاء عقده من الجامعة وأنهاء أقامته وأجباره على مغادرة ليبيا خلال 24 ساعة !
***
وأكثر من ذلك , انكروا عليه قيمة ثلاثة كتب بأمر من المركز القومي للأبحاث في طرابلس ,..وأكمل تألفها وتنقيحه ,..ثم سلمها بوصولات رسمية بتوقيع مدير المركز,..وبعد عدة أشهر طالب بحقوقه المادية,..فراجع مدير المركز الذي كان من أحد طلبته في السبعينيات,..فرحب به وقال له : راجع المحاسب لأخذ حقوقك ,..فشكره وودعه وأتجه للمحاسب وحياه,..ولم يرفع المحاسب رأسه!,..فقال له "صابر" أنني بعمر جدك,..فمن المفروض رد التحية,.. فشرح "صابر" ما قاله مدير المركز,..فأجاب المحاسب بكل سـخرية:  خلي المدير يطيك من جيبه!,..ما عندناش سـيوله,..ولي بَعد شهر(أي أرجع بعد شهر)!
***
 صدرت في نهاية السنة الدراسية أوامر الموافقة على الاستقالة وقد تمت إقالة كافة الدكاترة الكبار في السَّـن ممن لم يقدموا طلباً للاستقالة!.. وقد فرح صابر لهذه النتيجة واكتسب شرف الاستقالة بنفسه وتخلص من الإقالة ، وقد تمكن من الحصول على موافقة القسم والجامعة على تمديد الإقامة دون رواتب للإشراف على أحد طلبة الماجستير، الا انهم لم يوافقوا على ذلك !
وهكذا كان "صابر" مُصمماً بشكل قطعي على مغادرة ليبا الموسومة بـ أرض كل العرب ولم يخطر بباله الفشل الذي ينتظره في حالة رفض التأشيرة إلى أمريكا.
ومن باب الاحتياط ، طلب "صابر" من المسؤولين في جامعة الفاتح دعوته كأستاذ زائر، إلا أن ذلك لم ينفذ، ولم يعيروا أهمية لخدمة الستة عشرة سنة التي قضاها في تلك الجامعة !
***
توجه "صابر" الى تونس , وأقام  بفندق (صلامبو),  وهو فندق قديم يقع بالقرب من مقهى باريس الشهير، وفي صبيحة يوم 18/10/99 واجه احد المسؤولين في القنصلية الأمريكية وسلمه كافة الوثائق الخاصة بالفيزة وفق اللوائح المعمول بها،... وطلب منه إجراء مقابلة في اليوم التالي ووجهت له بعض الاستفسارات حول طلبه للهجرة ، ورفض الطلب!,..  وكاد "صابر" ان  يبكي عندما علم باستحالة تحقيق ذلك !,حيث دخلت زوجته أمريكا بتأشيرة من نوع "زائر" وقيل له : لا يجوز للزوج أن يدخل أمريكا ما لم تغادرها الزوجة !.. وكانت النتيجة صدمة قاسية ، وأتصل بأبنه "عوض" وأعلمه الحقيقة وهون ولده الأمر حيث سيحصل على الجنسية الأمريكية قريباً، وأن ذلك يعطيه الحق بالقدوم إلى تونس واصطحابه لأمريكا!!
***
أقام "صابر" في نهاية تشرين الأول ( اكتوبر) 1999, بضعة أيام في تونس العاصمة , وفي أحد الأيام رغب في التوجه إلى صفاقس عاصمة الجنوب التونسي , باحثاً عن عمل في كلية العلوم / جامعة صفاقس,  بناءً على نصيحة زميل له تونسـي ، حيث أعلمه ببدأ التعريب في جامعتها ,.. وما أن دخل قسم الكيمياء حتى التقى وجهاً لوجه مع شخص يرتدي الصدرية البيضاء الدالة على انه احد اعضاء قسـم الكيمياء, وبعد التعارف تبين انه مختص في الكيمياء وبنفس اختصاص صابر,.. وبعد مناقشــته   الوثائق العلمية الثبوتية معه , وعـد ذلك الدكتوربتقديم كل ما يمكن من مساعدة " لصابر" , وأكد جميع ممن أتصل بهم في ادارة الكلية رغبتهم في العمل بمعيتهم،.. وفي نهاية الدوام الرسمي ,.. حجزت ادارة الجامعة غرفة له في ارقى فنادق المدينة يسمى , (الأقواس).
أخـذ "صابر" قسطاً من الراحة وقت القيلولة , وعصراً هبط الى بهو الفندق , وتعرف على سـيدة تقيم في نفس الفندق المقيم به, فجلبت انتباهه, . وبادرها بسـؤال حول الطقس هذا اليوم ؟!..... وما ان عرفت هويته حتى غـمرها السرور واقتربت منه حتى كادت ان تضمه الى صدرها, وراحت تشرح له عن الطقس غير الثابت بصورة عامة,..ثم انحرف الحديث عن العراق , وبينت له حبها للعراق ولكل ما هو عراقي ! ,... وتطرقا لموضيع عديدة بكل صراحة,.. ثم دعته للتنزه في مركز المدينة, وهكذا ولأول مرة ضحكت الدنيا لـ "صابر", وانزاحت عنه الكآبة وشعربطعم العواطف المطمورة في حياته مع انسانة مثقفة مفعمة بالمشاعر الأنسانية, تختلف عن بنات الهوى المتسكعات في شارع أبو ركيبه  !
استهوى "صابر"عبيق الأنثى بعد ان نسـى انه رجلاً!..  فطمع بتكراراللقاء معها ,إلا أن تلك السيدة لم تف بوعدها , وانفعل "صابر" واخذ قراراً بالعودة إلى تونس العاصمة,لاعناً حظه الذي ما ان ينهض ليوم واحد حتى ينتكـس مرة أخرى,... فما العمل؟...هذا هوحكم القدر، وهكذا طارت  أحلامه في مهب الريح , اوقل ذهبت مع الريح,...  بعد أن استنشق عبير الأنثى المميز, والذي ايقظ فيه حاسـة الشـم التي ماتت منذ فراق الياسـمين!
***
رجع "صابر"إلى تونس العاصمة, وبعد أسبوع أستلم دعوة من قسم الكيمياء بكلية العلوم في صفاقس ,(عاصمة الجنوب التونسي),.. فشـدً الرحال الى ديار الحب الضائع, آملاً ان يعثر عليه ثانية !,.. فأسـتقل أول قطار متوجه من تونس الى صفاقس , وما ان ترجل في المحطة , حتى توجه فوراً الىفندق الأقواس,... وفي اللحظة التي وضع فيها حقيبته أمام الغرفة التي حجزت بأسمه  , حتى وجد تلك (السيدة التي لم تلتزم بموعدها), امامه وجهاً لوجه,.. فرحبت به , وبعد عتابمحتشم, وعدته باللقاء عندما ياتي المساء, ..وانشد مقطعاً من أغنية سيدة الطرب ام كلثوم ,.. أغداً ألقاك؟!
أنا أحيا في غـَد الآن بأحلام اللقاء = فأتي او لا تأتي او فأفعل بقلبي ما تشاء
لم يرغب "صابر" بالتحدث عن لقاءه مع تلك السيدة,...  حتى يحدثنا عن مطابته التي لا
تخطرعلى بال أحد!,... وهكذا تذكر مطب ظريف كلله بمشاعر جميلة, فقد سبق وان راسل  زملاءه، ومن ضمنهم لبنانيا عملا معاً في جامعة الفاتح في طرابلس،.. وجاء الرد بعد أسابيع مرسلاً من أبو ظبي/ مكتب نائب رئيس الوزراء الأماراتي !
دًبً الأمل عند "صابر"، وأسرع برد الجواب ووضع في طيه العديد من وثائقه المهنية لكي يساعده ذلك الصديق على إيجاد عمل له في أبو ظبي!,...وبعد أيام استلم الرد "بالفاكس" وكان مخيباً للآمال، وتبين أن الزميل يعمل بشهادته الجامعية بوظيفة إدارية لا تمت بصلة للدكتوراه في الكيمياء,..  لرفض ابي ظبي التعيين في جامعتها الا خريج جامعة اوربية اوامريكية !
لم يستغرب "صابر" من غلق اي باب قد يشع منه بصيص من النور لأي تغيير في مسيرة  حياته, وبعد ايام اضمحلت تلك الصدمة, فقد أتصل به رئيس قسم الكيمياء بكلية علوم صفاقس وأعلمه بصدورالموافقة على تعيينه بمعيتهم كأستاذ زائر,... وأن يُهيئ نفسه لإلقاء محاضرة في مجال بحثه باللغة العربية ,...أمام طلبة قسم الكيمياء وكافة أعضاء هيئة التدريس.
 استعد "صابر" للعمل, اعتباراً من 31/1/2000، واستلم الأمرالأداري ,...  ووقع الـعـقد
 صباح اليوم التالي , وبعد ايام طلب منه إلقاء محاضرات أمام الأساتذة والطلبة ضمن محال اختصاصه, وتم ذلك , ... وكانت التجربة ناجحة حيث استمع الجميع ولأول مرة محاضرة بالعربي لأن لغة التدريس عندهم بالفرنسية !
 وبعد الانتهاء استقبله عميد الكلية ووجد عنده ترحاباً حاراً أشاع البهجة التي أفتقدها منذ خروجه من ليبيا، وبدا يشعر بقيمته أمام المسؤولين !
حصل صابرعلى سـكن بسيط  قرب جامعة صفاقس في منطقة (طريق العين )، تعود ملكيته لأسـرة تونسية , وقد سُّــرًَ بحياته الجديدة وشارك تلك العائلة الكثيرمن المناسبات وبادلهم الزيارات، واحتفالاتهم العائلية وشعر بهدوء واسـتـقـرار!

       

                  جانب من مدينة صفاقس القديمة
 وفي احدى الأماسي زار الدكتور "صابر" جيرانه  ولمح عندهم صبية وسيمة , قيل له أنّها مطلقة منذ أقل من سنة !،  فتعرف عليها بلا تردد , فقد وجدها ملائمة له لقضاء الوقت الضائع في حياته وتحطيم جبل الصمت الجاثم على صدره,..فحب بلا أمـل أهون من لا حـب!, وتكرر اللقاء ,..وفي احد الأيام أقلته بسيارتها وسهر معها في المقهى الشهيرفي صفاقس والذي يدعي (سيدي منصور)، إلا أن علاقاتها المعمقة مع شباب من جيلها حالت دون  توطيد صداقته معها , ودب البرود عند كل لقاء، وإضافة إلى ذلك اكتشافه لمخططها في صيد أي شخص,.. كبديل لزوجها,..لأنها ما زالت في مقتبل العمر,.. ويتمناها أي شاب,لقوامها البهيج وثقافتها وحركاتها المغرية،...إلا أن لبسها النظارة الطبية بسبب ضعف بصرها يؤلم الناظر لها ، وبالرغم من كل ذلك فإن "صابر" رضى بتلك الزمالة لتحطيم الفراغ في حياته, والأستمتاع باللهجة التونسية !
ألا أن "صابر" أنزعج من علائقها مع شباب يريدونها للمتعة المحرمة, وهي مدركة لذلك, وفي غاية المرح معهم جميعاً !، ولم يتمكن من تحمل تصرفاتها، ولا بتعميق العلاقة معها,.. وترك الأمر لها لزيارته في أي وقت تشاء !
 يتبع في الحلقة / 23 مع محبتي .

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/14266-2014-12-29-21-16-11.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

568 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع