شهيد العشق الإلهي

                                         

                                                     طارق الربيعي

الــزمان ســنة 309 للهجرة ، المكان بغداد ، قريبــا من ضفاف دجــــلة .

تجمهـــر الناس حول منــصة عاليـــة ليشهدوا المحاكمة الصوريــة  للحسين ابن منصـــور الحلاج بتــهمة الزنــدقة والكــــفر، والتي حشدوا لها الكثير من شهود الزور ، ومن ضمنهم فقهاء ديـــن . فكل معارض للخلافة الإسلاميـــة وظلمها وفسادها لن يجدوا لــه تهمة تثير مشاعر الناس وتؤجج حقدهم أفضــل مـن تـــهمة الكفر . جاؤا بـــه مقيــدا يسحبونـــه بعنف ، محاط بحراسة مشددة ، وشدوا وثاقه بخشبة كبيرة وُضِعـت فوق المنـــصة ، ليشهد النــاس مسرحيــة دمــوية وحفــلة تعذيب دامت ليوميــن تــجلت فيها صور أقذر النوازع البشـــرية والغرائـــز الحيوانيـــة ، وصورة أطــهر نفس تسامت في حبها للخــالق حتى درجـــة العشق والفــناء . فالمسلمين ليسوا بأقل إجرامــا من أقرانهم الرومان القدامــى حينمــا كانـــوا يطلقون سراح الأسود الجائــــعة في حلـبات الموت على الأسرى والمعارضيـــن السياسيين لتفترســـهم وسط صراخ وابتهاج الجــماهيـــر .

وقبل أن تبدأ مشاهد التعذيـــب جاؤا بشخص ليس لــــه علاقـــة بالقضية فضربوا عنقه ، واعتبروا ذلك  فــاتحة لما سيجري لا حقــا أو كمقدمــات كالتي نراها في صالات العرض السينمائــــية قبل بدء الفيـــلم ، بل هي رسالة تهديد ووعيـــد لكل الحاضريـــن والغائبيــــن وبث الرعـــب والارهاب في نفوســـهم .
وقف الحسين بن منصور شامخـــا تجلله المهابـــة ويشرق وجهه بـضيــاء العشق بينما كانت السياط تُلهب ظهره وهو لا يشكو او يتــوجع ، ففي تلك اللحظات كان مع معشـــوقه غائــبا عن هذا العالـــم الموبؤ بالكراهيــــة والتــعصب الاعمــى ، غارقا في فيض من مناجاتـــه وسبحــاتــه ، كــان يردد مع كل ضربــة سوط ( أحــدٌ أحــد ) وبقناعة المؤمن المطمئـــن ينــاجي ربـــه : إلــهي هؤلاء عبـــادك قـــد اجتمعـــوا لقتـــلي تعصبـــا لدينك ، وتقربـــا إليك ، فأغفر لهم فأنك لو كشفت لهم ماكشفت لــــي لما فعلوا ما فعلــــوا .....فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تـــريد . وقبل ان يُنهـــي مناجاتــــه جاءتـــه لطــمة قــوية من السيـــاف هشمت انفـــه وسال الدم على لحيـــته البيضـــاء ..( تقدم السياف وقطع يــده ثم رجله ثم قطع يده الأخرى ثم رجـــله الأخرى ، فما كان من الحلاج إلا مسح وجهه بيديه المبتورتين النازفتين دما ، حتى تلطخ وجهه وساعداه بالدم . فقالوا له لما فعلت ذلك ؟ قال : لقد ذهب من جسمي دم كثير وأعلم ان وجهي قد اصفرّ . وقد تظنون ان اصفرار وجهي نتيجة الخوف . .... فقالوا له : عندما حمّرت وجهك بالدم لم لطخت ساعديـــك أيضا ؟ أجاب : إني أتوضأ ، فقالوا : وأي وضوء هذا ؟ أجاب : ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم . ثم صُلب على جذع وهو صامت لا يتأوه ) .
تقطيع الأوصال لم يطفىء جذوة الكراهيـــة المستعرة في قلوبـــهم ، والدم النازف لم يبعث الحيـــاة في جثامين ظمائرهـــم الميتة إشفاقا على الشيخ المقطوع اليدين والرجلين والمشدود الى آلة الصلب والتعذيـــــب . فخطرت لهم فكرة أخرى ، إذ طلــبوا من الناس وحثــوهم ان يلعنوه ويرجموه بالحجارة فإستجاب البعض وهرب البعض الآخــــر . ولم يكتفوا بذلك ، أقتــادوا احد أصدقاءه المقربين لـــه وجاؤا به يسحبونه سحبا ليرميـــه بحجر فامتنع الرجـــل ولم تطاوعه يـــده على فعل ذلك ، لكن الشيخ أومأ له برأسه ان يفعل ليبقي على حياته ويأمن عذابهم وبطشهم فأخرج وردة ورماه بـــها ...
وأسدل الستــار على اليوم الأول لمسرحيــة الدم والعذاب ، والحلاج لم يمت بعد ، ولم يصدر عن قصر الخلافــة القرار النهائي بقطع رأسه ، فبات ليلتـــه  مربــوطا على عموده مثل كـــومة لحم غاطسة في بركـــة من الدمــاء ، وانصرف الناس الى بيوتــهم تطاردهم أشباح المنصــة وأهوالها ، ولم يبق سوى الجند يحيــطون بالشيخ المحتضر ، بينما كانت أمواج دجلـــة تتهادى على مهــل تشهد تفاصيـــل الفاجعـــــــــة ، وبغداد التحفت بسواد ليل حزيــــن .
وأشرقت شمس اليوم الثاني شاحبة مكفهرة ، واستفاقت بغداد من نومها القلق مثل عجوز هرمـــة ملت الحياة وزهدت فيها ، تحاول ان تزيح اغطية الهموم والاحزان الثقيلة التي تدثرت بــها ،  وهرع الناس نحو المنصة لمشاهدة فصل آخر من حفلة التعذيـــب . كان الحلاج يبدو للناظر اليه وكانـــه لا يشعر بألـــم ، وان أعضاءه المقطوعـــة الماثلـــة امام عينيه لم تفصل عن جسده بل عن جسد آخــر لا يمت اليه بصـــلة ، فقد عاش لأجل ان يتحرر من هذا الجسد ويفنى في المحبــة الخالصة لله فكان له ما اراد . ما يشغله في تلك اللحظات أبيات من الشعر بدات تنهمر عليـــه تعرج بـــه الى عالــم علوي متسامي بعيدا عن المنصة الــغارقة بدمائه وعن الأصوات المتعاليــة بالصراخ والتهليل والتكبيـــر والنحيب .
أقتـــلوني ياثقاتي     إن في قتـــلي حيـــاتي
ومماتــــي في حيــاتي     وحيــاتــي في مماتي
فاقتلونـــــي واحرقونـــي    بعظامـــي الفانيـــات
ثم مروا برفـــاتي     على القـــبور الدارساتِ
تجدوا سر حبيــــبي     في طــوايـــا البــاقيــات
وأبتــدأ العــرض ، أخذ الحراس يركلونه ويشتمــونه وينهالـــون عليه بالسياط ويحرضــون الناس على ذلك ، هاتفيـــن باعلى أصواتـــهم اقتــــلوا الزنديـــق الكافـــر ودمـــه في اعناقـــنا ... جهِــلوا إن الحلاج لم يعد جســـدا بل صار روحـــا هائمة في ملكوت الله ، لا تشعر بما يشعر بـــه بني البشر المكبلـــين باغلال المادة والرازحيــن تحت وطأة النزوات والشهوات ، والمتخذيـــن من المذاهب والأشخاص طرقــا موحشـــة الى الله ، معبــدة بالدم والبشاعة . في تلك اللحظات كانت كلمات الله في السيد المسيح (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لـــهم ) تـتـجلى في اوضح صورة بالحلاج المصــــلوب ..
 . وحول المنصة وقف الجند مدججين بالسيوف والرمـــاح والهراوات ، يحدقــون بالشيخ بعيـــون الذئـــاب  . وخفتت الاصوات ، وساد الصمت واحتُبست الانفاس في الصدور عندما ارتقى الوزير المنصة ليتلوا قرار الخليــــفة : أيـــها الناس هذا ما أصدره امير المؤمنين ، وما صادق عليــــه فقهاء الديـــن  أقطعـــوا رأس الحلاج ، واحرقوا جســــده ، إن في قتـــله إصلاح للإسلام والمسلميـــــن .
سحبـــوا الحلاج أو بمعنى أصح ذلك الركام البشري الذي تبقــى من الحلاج ، وقد غمرت وجهه إبتسامة عذبــة كتلك التي ترتســم على وجوه العشــاق عند لقائهم بعد طول اشتيـــاق ، وضربـــوا عنقــــه ، ثم وضعوا جسده في بــــارية صبوا عليــها النفط واحرقــــوه وصعدوا برماد جثتــــه على منارة عاليــــة ونثروه في الهـــواء ، ربما هي نفس المنارة التي يصعد عليها المؤذن للصلاة في كل يوم .( اما رأسه ويداه ورجلاه فقد حُملت من ساحة الاعدام الى السجن الجديد ... وعلى سور السجن نُصب رأسه للناس لمدة يومين والى جانب الرأس عُلقت يداه ورجلاه ..) . وبغداد كأم مثــكولة هائمة على وجهها لا تكـــف عن النواح .
بعد اكثر من 350 سنة على محاكمة غاليلو الذي قال بأن الارض تدور حول الشمس مخالفا ما كان سائدا آنذاك من مفاهيــم دينية اعادت الكنيسة الكاثوليكية الاعتبار له وبرئته من كل التهم الموجه ضـــده ، وبذلك حاولت ان تنفي عن نفسها صفــة الوقوف ضد الابداع العلمي والابتكار البشري وحريـــــة التعبير . فلماذا لا تبادر مؤسساتنــا الدينية الاسلامية برفع الحيف والظلم الذي لحق بالحلاج الشهيد ، وتبرئتـــه من تهمة الكفر التي ألصقتها السلطــة بــه  بالتعاون مع فقهاء الديــن ؟ لماذا لا تبرىء ذمتها من دمــه  ؟ ام إنه مازال في نظرهــا كافرا رغم كل الشواهد التي تدحض هذا الإدعـــاء الباطل ؟ لم يكن الحلاج متصوفـــا زاهدا عن الدنيــا فحسب ، معرضا بوجهه عن الناس ، سابحــا في ملكوت الله ، لا يعنيه ما يجري على أرض الواقع . إنما كان عاشقا عارفــا بان الله يسكن في روح الإنسان ، وهو أقرب اليه من حبل الوريـــد ، وان المذاهب والفرق ما هي إلا طرق ملتـــوية وصناعة سياسية خبيثـــة تحجب بصر الإنسان عن رؤيـــة النور الحقيقي في داخلـــه . كــان يدعو لتحقيق العدالـــة الاجتماعيـــة ، ومحاربــة الفساد ، وكسر القيود التي كبلت منهج التفكير الاسلامي بحيث صار متحجرا جامدا على ظاهر النصوص واحاديث السلف . والوقوف ضد جور الخلافة وسلاطينها الطغاة الذين أسرفوا في ملذاتهم ، وتمادوا في غيهم ، وصمــوا آذانهم عن سماع آهات المحروميــن والفقراء . وهذا هو السبب الجوهري في قتل الحلاج دون سواه من المتصوفين بهذه الطريــــقة البشعـــة .
لماذا لا نجد مدرســة او شارع او مؤسسة أو معــبد بأسم العاشق الحلاج ؟ ام ان أسماء القتـــلة والمجرمين والغزاة الباحثين عن الغنائم من سبايا وأموال التي نطالعهــا أينما دارت اعيننا أفضل واطهــر من إسم هذا المحب المغمــور بفيض السكيـــنة والوداعــة ونور الله ؟. لماذا لا نجد قصائد شهيد العشق الإلهي  في مناهج الدراســـة ؟. أم هو الخوف من ان تصاب الاجيال بعدوى الحب هو من يمنع ذلك ؟ . نعم ، لم يحن الآوان بعد ، فسماء بغداد ملبدة بسحب الكراهيـــة ، والخليفة المفدى لم يمت ، ورجال الدين ما زالوا يصطفون خلفه بخشوع العبيـــد ، وما زالت منصــة التعذيب قائمة  .كان الحب هو عقيـــدة الحلاج ودينه ، فتطهر قلبه وأبصر نـــور الحقيقة التي عُميت عنها الأبـــصار ، وأراد أن يقود الناس الى هذا النـــور فأثــار غضب السلطـــة وفقهاء الديـــن فنال مــا ناله من بطش وتنكيــل وتشويـــه .ورغم إنهم صادروا كتبه ومنعوا الوراقين من نسخها وتداولــها إلا إن ما وصل الينا من شعره ونثره كافيا لمعرفة ما تنطوي عليه نفسه من حب وصدق ونقــاء وإخلاص في عبادتـــه لله .
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت       إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم        إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
وَلا ذَكَرتُكَ مَحزوناً وَلا فَرِحاً     إِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وِسواسي
وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ    إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِ
وَلَو قَدَرتُ عَلى الإِتيانِ جِئتُكُم    سَعياً عَلى الوَجهِ أَو مَشياً عَلى الرَأسِ
وَيا فَتى الحَيِّ إِن غَنّيتَ لي طَرَباً      فَغَنّنّي واسِفاً مِن قَلبِكَ القاسي
مالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاً       ديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ

طارق الربيعي

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

612 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع