سلامات ...

                                                                       

                         سعاد الورفلي*

الشوارع ممتدة ، والرجل الوحيد بين مفترق الطرق يرتدي معطفا بني اللون ، يلتف على نصف وجهه الأسفل لفافة محبوكة من صوف مجدّل تتداخل ألوانه وعيناه على ناحية الطريق ...

اليدان المرتجفتان يدكهما بتأكيد في جيبه الأيمن لليمنى والأيسر لليسرى ، ويشك أن يديه مازالتا تتبعان الطريقة الصحيحة في خوضهما للمسار ، يشك في نفسه أهو خلف نهاية الشارع أو بدايته؟ ..
الرياح تهز قامته ومعطفه وخصلات شعره ، كل شيء حوله مبعثر أوراق تتطاير من شبابيك الدولة ، امرأة في أقصى العمارة توصد شباكها بعنف ، طفل صغير يتم تلقفه وقد بانت عورته في محاولة لتنظيفه من قاذورات ما ، يُسمع صراخه من على بعد امتداد ذلك الشارع ، صوت مذياع يرسل شارات بأخبار متنوعة وموسيقا تقطع صوت المذيع المتأنق بألفاظ ليست من عادته ، قال في نفسه وهو يركل حجارة في منتصف الطريق : منذ متى ومذيع الأخبار يعرف الابتسامة ، أتذكر تلك المذيعة التي أعلنت عن مقتل أبي ووجهها قد اكتسى ظلالا وردية وابتسامة عريضة تنفرج عن أسنان شديدة البياض ، كرهتهم كرهتهم ..رددها وهو يركل التراب والحجر والشارع الممتد ..أصوات الجمهور تتردد ..لكنه لم يتبين الكلمات ولا المقولات ....الساعة المعلقة في قلب المدينة تترنح ..والكرة المربوطة كجرس إنذار صارت تتدلى بعنف في كل الاتجاهات ..تصدر صفيرا وأصواتا متداخلة ، يخرج العصفور ويدخل في نفس الوقت ..والصوت المتردد بوم بوم توت توت ... القطار يسرع كلمح البصر : أمازلتُ في بداية الطريق ..لكن القطار فات بسرعة البرق ..لم تكلفه نفسه حتى لحظة ليلقي التحية على الواقفين في المحطات الذين تغطي أجزاءهم العلوية المظلات التي تحميهم من قطرات المطر ..غير أن هذه المرة ما ثمة من مطر ، إنها توقعات رجل النشرة الجوية ، ياله من رجل ..يأتي محملا بالرياح والغبار ..وسرعان ما يختتم نشرته بسقوط وابل من الأمطار على جزء مجهول من الكرة الأرضية ...
الطريق مازالت في بدايتها ..لكن الطفل الذي تحاول أمه تنظيفه مازال يصرخ يصرخ ..امتلأ الشارع بالصراخ ....لقد أصابني بالامتعاظ ...مابال أمه شرسة كنمرة غابة تأكل أولادها ..أكره النساء اللواتي يفتعلن الأمومة ..وهن يفقدنها ... ركل الحجارة بقوة ...الطريق في منتصفها ..الرياح العاتية تصدر جوقة غير مفهومة ..أريد أن أفهم صوت الريح ..ماذا يعني ..؟؟
القطار أخير توقف ...سأهرع نحوه ..الساعة تصدر وميضا وصوتا شرسا بوم بوم ..أسرع يارجل ..المطر سيسقط ...الكراسي ستمتلئ ..آه من أنت ؟
أسرع هذا ليس وقت السؤال ، التفِت وراءك ..
من هؤلاء ..أمهات يغمرن أطفالا كلهم يصرخون ، رجال يرتدون معاطفا وبأيديهم المظلات ....عجوز تشير إليه توقف توقف تعال واحملني على كتفك !!
توقف توقف ...أسرعتُ السيرتجاهلتها  ..سأتعلق بالقطار ..سأسبقهم إنهم يشربون القهوة بهدوء ..وبتؤدة كأنهم حجزوا مقاعدهم ، الأوراق تملأ الطريق .. مازالت الشبابيك مشرعة وتتساقط منها الأوراق ...
توقف يا رجل ..
القطار ..يصدر فحيحا ..وأوامر صارمة ..اخلعوا أحذيتكم ماذا ..لكن حذائي أهدي إلي من إيطاليا !!
اخلعوا أحذيتكم ..من فضلكم ..وإلا ابقوا في أرضكم ..
إلى أين يا صاحب القاطرة ؟
إلى تل أبيب ...
ماذا ؟
ولماذا نخلع أحذيتنا ...؟؟
حتى نتأكد من هويتكم .!!
خلع الجميع أحذيتهم وبقيت أنا ...وحدي في المحطة أنتظر القطار الذي يحمل هويتي ...أشار لي صديق قديم من نهاية الشباك الصغير : سلامات سلامات ... 
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

*كاتبة وقاصة من ليبيا

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع