السيدة لميعة الاورفلي

                                     

                          بقلم احمد فخري

                        

                                  

السيدة لميعة الاورفلي رحمها الله سيدة فاضلة كانت في الخمسينات والستينات والسبعينات من النساء العراقيات الفاضلات اللواتي تركن بصمة كبيرة على المجتمع العراقي لما قدمته من عطاء في مجال التعليم الراقي، اذ انها ولعدة عقود تسلمت ادارة احدى اكبر واهم مدرسة متوسطة واعدادية لتعليم الاناث. وقد تتلمذت على يدها سيدات كثيرات قدن المجتمع العراقي بكل مجالاته الاقتصادية والعلمية والثقافية والفنية واصبحت علماً من اعلام الثقافة والعلم في تلك الحقبة التي تعتبر بكل المقاييس العصر الذهبي لتاريخ العراق.

تجربتي مع هذه العملاقة

في الخمسينات من القرن الماضي حيث كنت اسكن مع عائلتي بمنطقة الكرادة الشرقية ببغداد وكان لدي ثلاث اخوات كبار. وبحكم عامل الزمن كان من الطبيعي ان يتدرجن في دراستهن حتى يصلن الى السن الذي يؤهلهن دخول الدراسة المتوسطة ومن بعدها الاثانوية، وفي تلك المنطقة من بغداد فقد كان الحظ حليفنا اذ كان في الجوار من منزلنا ثلاث مدارس متوسطة وثانوية للبنات وبامكان اخواتي الذهاب اليها. الا ان ابواي كانا يصران على ادخال اخواتي بمدرسة الشرقية للبنات. فكانت والدتي رحمها الله تقول لاخواتي (اما ان ادخلكن بمدرسة الست لميعة واما تجلسون بالبيت افضل) وكانت اخواتي يرتعدن من هذا الاسم لانهن سمعن بان السيدة لميعة الاورفلي تمتاز بشدة متناهية لذا كانوا يفضلون الدخول الى مدارس اخرى. لم اكن اعي بذلك السن كل هذه الامور فقد كنت في بداية عمري وكنت فقط استمع الى هذا وذاك ولا اعرف مدى اهمية الامر.

اذكر في احدى المناسبات وبعد ان انتصرت ارادة والدتي وادخلت جميع بناتها بمدرسة (الست لميعة) قامت مدرسة الشرقية (باواخر الخمسينات وبداية الستينات) بعمل احدى المهرجانات بباحة المدرسة. وقد اخذتني اختي الكبرى والاخت الاصغر منها الى هذا المهرجان. واذكر كذلك انني كنت سعيدا جداً بالالعاب التي كانت بالمهرجان وخصوصاً وان جميع زميلات اخواتي كانوا يقبلونني ويضعونني بحجرهم وكنت انا بقمة السعادة لانني كنت اغمر بدلال فوق العادة. وفجأة عم الصمت بكل المهرجان. نظرت بوجوه الفتيات واذا بهن جميعاً ينظرن الى الاعلى لان هناك منصة كونكريتية يبلغ ارتفاعها حوالي المتر وقفت فوقها سيدة ترتدي لباساً رسمياً انيقاً وتنظر الى الجميع كما لو ينظر رئيس دولة الى رعيته. عم الصمت على الجميع وهم يترقبون صرخة او كلمة من هذه الانسانة التي وقفت شامخة عالية وكأنها صقر. لكنها وبعد ثوان قليلة تبسمت وقالت واصلو فعاليات المهرجان. فعاد الهرج والمرج واللعب والضحك وكل عاد الى ما كان يفعل. وقتها علمت بان هذه الانسانة هي (الست لميعة) التي اشارت اليها والدتي.

مرت على هذه الحادثة بضع عقود حتى شائت الضروف وذهبت الى الامارات العربية المتحدة عام 1980 لغرض العمل. وهناك سمعت بان (الست لميعة) موجودة بابوظبي لذا طلبت من اختي التي وصلت الامارات قبلي ان تأخذني اليها بمنطقة النادي السياحي. دخلنا الى منزلها وكانت تجلس على اريكة بمنتصف صالة الجلوس وبجنبها رجل وسيدتان علمت فيما بعد انهن بناتها. انطلقت احدى السيدتان نحونا وغمرتنا ثم بدأت اصافح الجميع فردا فردا. علمت وقتها ان السيد الذي يجلس بجانبها هو زوجها السيد رفعت البزركان وكان انساناً رائعاً له ابتسامة تغمرك بالارتياح والسعادة اما السيدة الثانية فقد كانت ابنتها الثانية. وعندما وصلت الى الست لميعة تذكرت منظرها الشامخ عندما وقفت على تلك المنصة الكونكريتية فابتسمت وقلت لها، "سيدتي، لقد سبق ان التقينا سابقاً" فنظرت الى وقالت "حقاً؟ هل سبق لنا وان التقينا؟" فقلت لها نعم سيدتي ولكني كنت وقتها لم ابلغ سن السابعة من عمري. فضحكت ضحكتها العريضة وسحبتني كي اجلس بجنبها. لقد احسست بدفئ كبير وكأنني اجلس بجانب امي وقلت لنفسي "الآن علمت لماذا كانت تصر والدتي على ادخال اخواتي بمدرسة (الست لميعة). انها مدرسة انها مربية انها ام انها انسانة فاضلة انها تجمع كل هذه الصفات بشخص واحد. وعندما بدأنا نتحدث جميعاً وجدتها ملمة بجميع المواضيع التي كانت تطرح للنقاش. فكيف لانسان ان يكون ملما بكل هذه العلوم والمواضيع؟ ايعقل هذا؟ لقد اذهلتني بمعلوماتها الجامعة وافكارها الحكيمة وكلامها اللطيف. لقد علمت وقتها اني وجدت اماً بديلاً لامي في غربتي. بعد جلسة السمر القصيرة تلك اشارت لي اختي وزوجها برغبتهم الرحيل فنظرت الى الست لميعة وقلت لها، "هل تأذني لي بزيارتك ثانية يا سيدتي؟" فتبسمت ببسمتها الجميلة وقالت، انت لم تدخل بيتي اليوم فحسب بل دخلت قلبي. ان هذا بيتك فاتي هنا متى ما شئت."

كانت تلك الكلمات بالنسبة لي بمثابة مرهم كبير غمر قلبي ووجداني لاني شعرت بدفئ الامومة عند هذا الملاك الحنون. لكني وبعد فترة وجيزة شعرت بالندم على مقابلتي لها. لان الله قد اخذ امانته فقط شهر واحداً بعد مقابلتي الاولى لها. وفقدت امي التي لم تلدني. اذكر تماماً آخر زيارة لي بالمستشفى وهو اليوم الذي سبق وفاتها. نظرت الي حال وصولي لسريرها وقالت، "هل وصلت عائلتك من العراق؟" تخيل ايها القارئ العزيز، هي مهتمة بوصول عائلتي وهي على فراش الموت.

قبلت يدها وقلت لها، "لا تشغلي نفسك بامور عائلتي، نريدك ان تتحسني وتعودي لنا سالمة يا امي العزيزة" فتبسمت وقبلتني من رأسي ولم تنطق بكلمة واحدة وكأنها كانت تعلم باجلها. وفي اليوم التالي وافتها المنية.

رحم الله تلك الام العزيزة واسكنها فسيح جناته.

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1002 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع