طرائف من مذكرات اللاعب الدولي جمولي عباس

  

  طرائف من مذكرات اللاعب الدولي جمولي عباس

  
                                  

جميل عباس المشهور باسم جمولي والملقب بالسد العالي .. ولد في منطقة الكسرة ببغداد عام 1927 .. وفي عام 1946 انضم لنادي الأعظمية , قبل أن ينتقل للعب لفريق الحرس الملكي عام 1949 وحتى إلغائه عام 1957 , وبعدها لعب لفريق الفرقة الثالثة وظل وفيا له حتى اعتزاله عام 1966 . وكان جمولي ضمن تشكيلة أول منتخب عراقي لعب في تركيا عام 1951 .

في يوم 12 نيسان 1966 أختتم جمولي مسيرته الكروية بمباراة اعتزالية جرت على ملعب الكشافة بين الفرقة الثالثة ومنتخب الدول العربية المشاركة في بطولة كأس العرب الثالثة وأقيم له تمثال أمام بوابة ملعب الكشافة وهو اللاعب العراقي الوحيد الذي حظي بهذا التكريم .. توفى يوم الأربعاء 7 تموز 2005

            

أحببت النهر منذ الطفولة لأن والدي كان يستعين بمياهه وبماكينة أصحاب المزارع ليسقي لهم بساتينهم , كنت أقف إزاء نهر دجلة في المنطقة التي تحاذي اليوم جسر الصرافية وأتأمل , كانت تحركني أشياء كثيرة , الأمواج مثلا تجعلني أفكر بالمستقبل ..مستقبل مجهول في مكان فقير .. إلا إنني من خلال طفولة حية كنت أتسلل إلى منطقة شارع الزهاوي لألعب مع أولاد أمين العمري ألعابا مختلفة منها كرة القدم والركض وألعاب الطفولة المعروفة آنذاك , وكان أولاد العمري يرتدون الأحذية الرياضية المناسبة وأنا(حافي القدمين ) لأنني كنت أخشى على حذائي من التلف لأن أبي فقير لا يمتلك القدرة على شراء غيره بين فترة وأخرى ..

           

دخلت مع صبية الحارة إلى ( الملا ) وكان أسمه سيد حيدر , لا أحبه ولا أحب تعليمه ومضيت أهرب منه حتى ألعب في ساحة الكشافة أو المنطقة القريبة لبيت أولاد العمري . في البداية تميزت عن زملائي بالضربة القوية والركض السريع وأنا حافي القدمين في اللعب , كنت لا أطيق لبس الحذاء حيث إنه يضايقني حتى في المشي , ومرت الأيام وانتقلنا إلى شارع الزهاوي بعد أن تعاون أبي مع عمي وتم نقلنا من منطقة خان الحاج محسن , وبذلك اقتربت إلى ملعب الكشافة وإلى زملاء الطفولة أولاد العمري ... ومن هنا تبدأ قصتي ورحلتي مع كرة القدم ..

    

في البداية اتفقنا على صناعة كرة من الورق ( ومربوطة ) بقماش متين ولكن سرعان ما كانت تتمزق ونصنع غيرها وهكذا , ثم تطور الحال وأخذنا نصنع كرة القماش التي توضع داخل ( فردة جوارب) إلى أن وصلت الرغبة عند أولاد العمري أن يشتروا لنا تجهيزات رياضية وملابس ومنها الكرة الصغيرة التي تستعمل للتنس اليوم .. أول لقب حصلت عليه من أقراني كان لقب ( الطيارة ) وهذا اللقب جاء بسبب سرعتي بالجري مع الكرة وبدونها .. وذات يوم جاء الملا السيد حيدر يشكو لأهلي انقطاعي عنه وحصلت في حينها على توبيخ من أمي وعلقة من أبي واتفقنا على أن لا أغيب عن الملا .. ولكن حب الكرة ملك كل جوانحي مما جعلني لا أبر بوعدي وساقتني قدماي لملعب الكشافة من غير أن أشعر !! وأخذ السيد حيدر يراقبني إلى درجة إنه تسلل في أحد الأيام من على جدار ملعب الكشافة للجهة المحاذية لمنطقة الكسرة ودخل الملعب , وما أن رأيته هربت من خوفي وتركت ( الدشداشة ) التي كنا نصنع منها عوارض للهدف ولم أقف إلا عند باب المعظم أمام متوسطة الغربية وأنا بالفانيلة والسروال القصير !! فأخذ الملا الدشداشة وذهب بها إلى البيت ليؤكد لهم مخالفتي وهروبي من دروسه وتعاليمه
مرت السنون وحان موعد الدخول إلى المدرسة وتم قبولي بمدرسة العسكري الابتدائية عن ميلاد سجل خطأ بزيادة سنتين بينما سن ولادتي في الأصل هي سنة 1927 .. وطبعا دخلت المدرسة وأنا لاعب معروف على مستوى الأزقة والحارات المتداخلة فيما بينها في ذلك الوقت , ولم ألعب لفريق المدرسة في البداية خوفا من أهلي ولكي لا تضيع السنون كما ضاعت عند ( الملا ) السيد حيدر, ولم يطل بي الوقت حتى أجبرني معلم الرياضة باللعب مع مع فريق المدرسة , وجاءت مشكلة الحذاء فأنا لا أتمكن من ارتدائه ولا يجوز اللعب بدون حذاء مع فرق المدارس فأضطر معلم الرياضة أن يشتري لي حذاء مصنوعا من القماش ( يشبه الكيوة القديمة ) ولعبت في فريق المدرسة بهذا الحذاء , أما في محلتي فلعبت بدونه وعندما كنت أعود إلى البيت كنت أغطي قدمي بملابسي لكي لا يكتشف أهلي الجروح والكدمات التي تصيبني جراء اللعب بدون حذاء , ولكنني لم أبال يوما بها ولم أشك لأحد آلامها .. لعبت بمركز خارج يسار في المدرسة وتميزت باللعب الجيد وازدادت سرعتي وتطورت موهبتي وباتت كرة القدم تتحكم بكل تصرفاتي حتى صرت أدخل ملعب الكشافة ولا أخرج منه حتى غروب الشمس وأحيانا نلعب في الظلام , ولولا الحارس الليلي وصرامته لبقينا حتى منتصف الليل في الملعب.
كان أهلي يبدون اهتماما زائدا بأخي مسعود لأنه (شاطر) ولا يرسب في الامتحانات , وكنت أعاني من هذا الحب والاهتمام به لكن حب الكرة جعلني لا أبالي بحب غيرها فهي الغادة الحسناء التي لا أشكو جراحها ..

في منطقة الكسرة برز حميد جبر وزوده وهما اللاعبان اللذان لا يحسنا ارتداء حذاء اللعب أيضا فانضممت إليهما وكنا نسمى ب ( حفاة الكسرة ) !! ومن قوة أقدامنا تعلمنا الضربة القوية المتقنة وكانت بعض الفرق المعروفة في ذلك الوقت يطلبون منا أن نقف خلف الهدف حتى نعيد الكرات إلى الملعب .. كانت السعادة تغمرني تماما عندما يتدرب فريق القوة الجوية وغالبا ما أتبرع بالوقوف خلف الهدف لأعيد لهم الكرات .. وفي أحد الأيام أقترب مني الملازم معروف ضابط ألعاب القوة الجوية وهو لاعب في الفريق أيضا وعرض عليّ فكرة اللعب معهم مقابل مخصصات نقدية لأنه أعجب كثيرا بقوة ضربتي وطريقة توجيهها , لكنني رفضت على الرغم من ضيق اليد وأتساع حجم عائلتنا , والوالد بلا معين في حين كنت أقتل الوقت باللعب , حتى بالمدرسة توقفت عند الصف السادس إلى أن جاء موعد سوقي للخدمة العسكرية !! لكن والدي باع معظم حاجيات البيت ليدفع لي البدل النقدي , وهكذا أعفيت من الخدمة العسكرية لكنني لم أستفد من فرصة معاونة أبي وذهبت ثانية إلى ملعب الكشافة وأزداد شغفي بنجوم القوة الجوية وتعلقت كثيرا بالمرحوم طه عبد الجليل وناصر جكو وهادي عباس وغازي وتوما وغيرهم من أفذاذ الكرة في تلك الفترة .. وأخذت أرقب تحركاتهم خصوصا المرحوم طه عبد الجليل حيث كان متميزا بالقوة وقطع الكرة بالرأس وله إمكانية عالية السيطرة وضربات الجزاء وكان رحمه الله ماردا ضخما يخشاه اللاعبون كثيرا ..

بعد أن تم إعفائي من الخدمة العسكرية طلب مني الأستاذان سعدي الدوري وإبراهيم حلمي حسن أن ألعب لفرق نادي الأعظمية , في البداية شعرت بالانكماش ولكنني استجبت للطلب بعد أن تعهدوا في مساعدتي وكانت تلك هي بدايتي في اللعب مع الفرق المنظمة , وبنادي الأعظمية ذاع صيتي وأخذنا نلاعب الفرق العسكرية المعروفة , ومن خلال هذه المباريات كان هناك الكثير ممن يرصد تحركاتي بالملعب حتى جاءني العرض الجديد للدخول إلى الجيش مع المغريات الكبيرة .. فرفضت وأنا أفكر بأني أجبرت أهلي أن يبيعوا أعز حاجياتهم حتى يدفعوا البدل النقدي وها أنا اليوم أذهب برجلي لكي أتطوع بالجيش ..!! سخرت من نفسي وقررت أن لا أستجيب للطلب .. لم تستأثر العروض المغرية اهتمامي لكي أنضم للقوة الجوية أو فريق الحرس الملكي لأن ظروف وطريقة دفع البدل النقدي بعد أن خسر أهلي أعز لوازمهم البيتية كانت تجعلني وكأنني أتنكر لذلك المعروف السخي !! ..لكنني عن طريق من أعرفهم تم تعييني معتمدا لتوزيع الكتب الرسمية في وزارة الشؤون الاجتماعية آنذاك .. لم تنفك عني ملاحقة مسؤولي الفرق العسكرية فتارة يأتي الضابط بنفسه وأخرى يبعث بوسيط أو مندوب لأجل إحراجي واستغلال خجلي وقد بذل السيد سعدي جاسم واللاعب صابر لطيف جهودا كبيرة لإقناعي بالعدول عن هذا الإصرار والمقاطعة بالالتحاق لصفوف الفرق العسكرية .. ولكنني كنت أرفض دائما !!..

انتقلت إلى الصحة العامة بنفس الاستخدام السابق , ولكن سرعان ما كنت أذهب بعد عودتي من الدائرة إلى ساحة الكشافة وصرت أرقب طريقة تدريب المدرب الانكليزي( رينر) المنتدب للعمل بالعراق في ذلك الوقت .. ورينر يعمل مدربا بالمعهد العالي للتربية الرياضية وطلابه إسماعيل محمد وإسماعيل حمودي وعلي محسن ومحمود القيسي وغيرهم من الرعيل الأول للرياضيين البارزين في المعهد العالي , وقد عهد بمهمة تدريب المنتخب إلى رينر وألتحق زميل الطفولة حميد جبر إلى صفوف المنتخب وكنت أعيش المتعة وأنا أشاهد تدريباتهم في ساحة الكشافة ولأول مرة في حياتي الرياضية أتابع بدقة طريقة التدريب الحديثة في ذلك الوقت , فنحن عشنا ولعبنا على الفطرة والموهبة وبمثل ما كان نبات الأرض يتسع بما وسعت كانت عيوننا تزداد رؤيتها حجما ومسافة لملاحقة ومشاهدة كل ما هو جديد في عالم اللعبة التي أصبحت زادنا لرحلة العمر والمستقبل المجهول ..
بلغ الإلحاح درجة لا تطاق من المسؤولين لكي أدخل صفوف الجيش حتى وصلت الملاحقة من البيت إلى الدائرة إلى الحارة إلى ساحة الكشافة !! وعندما ضاقت بي المسالك إضافة إلى قلة الأجور التي كنت أتقاضاها مما جعلني أستسلم للأمر الواقع ودخلت الجيش برتبة جندي مطوع بعد أن دفعنا البدل النقدي عن الخدمة الإلزامية !!.. التحقت بفريق الحرس الملكي يوم 4 شباط 1947 ولعبت أيضا بمركز خارج اليسار وصادف في فترة التحاقي أن أقيمت مباراة الكأس بين نادي الأعظمية الذي كنت ألعب له وفريق السينما والتمثيل , وكان يلعب معنا في نادي الأعظمية على ما أتذكر إسماعيل حمودي وعدنان أمين زكي وعبد الودود خليل وأخوه سميع واحمد عبد الرزاق وهاشم عبد الجليل .. ولكن المسؤولين عن فريق الحرس لم يسمحوا لي باللعب مع نادي الأعظمية ,

            

وتم رجاء المرحوم ناظم الطبقجلي من قبل مسؤولي نادي الأعظمية فوافق ولعبت مع الأعظمية ولكننا خسرنا الكأس إلى فريق السينما والتمثيل !!.. انقطعت علاقتي بنادي الأعظمية وبدأت الحياة الجديدة تبتسم لي وأزداد تفاؤلي بعد أن سمعت أكثر من رأي خبير يتحدث عن المستقبل الكبير الذي ينتظرني لأنني أجمع بين الموهبة والتعلم السريع مع الطاعة وضبط النفس !!.. في البداية تعرفت على الوسيط الذي بذل جهودا كبيرة لإقناعي اللاعب صابر لطيف وكان هناك إسماعيل مهدي ومحمد مرهون وعلي إحسان وبعد أيام قليلة ألتحق فخري محمد سلمان المعروف بأبي ليلى .. واصلت تدريبي المستمر في فريق الحرس الملكي بإشراف الأستاذ إسماعيل محمد وانتقلت لمركز شبه اليسار لإصابة أحد لاعبينا وأديت واجبي بالتمام في هذا المركز ..وذات مرة أصيب لاعبنا حسن جواد الذي كان يشغل مركز شبه الوسط عن جدارة فلعبت في هذا المركز في عام 1949 وهذا التاريخ حدده بالضبط الأستاذ إسماعيل محمد ومنذ ذلك الوقت وحتى يوم اعتزالي عام 1966 لم أتخل عن هذا المركز وبرعت في أداء المهمة به وفي حينها قال الأستاذ إسماعيل إن جمولي يصلح للعب في جميع المراكز ..

وفي عام 1950 زار بغداد منتخب الباكستان لكرة القدم ليلعب مع فريق الحرس الملكي مباراة ودية ويومها كنا نسمع عن مستوى باكستان الجيد ..

               

فاستعان فريقنا باللاعبين ناصر جكو وعادل بشير .. وفي يوم المباراة فوجئنا بنزول اللاعبين الباكستانيين ( حفاة ) ومن غير أحذية للعب وكانوا يربطون أمشاط أقدامهم ب ( لفاف )..
مرت الأيام وتعرض فريقنا الحرس الملكي إلى هزيمة قاسية أمام الفريق العسكري في كركوك حيث خسرنا وفي ملعبنا بهدف واحد مقابل لاشيء , وأثارت هذه الهزيمة حفيظة النقاد و المراقبين لأنها غريبة ومفاجئة .. لأن من الصعب أن نعطي خسارة مع فريق أقل منا شأنا ومستوى فقد تأثر المسؤولون عن الفريق تأثرا بالغا وتزعزعت الثقة بنا وكانت نكبة وكبوة مثقلة بالألم .. والمباراة التي أحدثكم عنها كانت ضمن بطولة الجيش السنوية ومبارياتها كانت تقام على طريقة التسقيط المزدوج , فالذي يخسر مرتين يخرج من البطولة .. وعليها عندما خسرنا صممنا أن نهزم جميع الفرق الأخرى ونلاعب فريق كركوك على الكأس .. وحل موعد المباراة الختامية ومع حلول موعدها أطلقت الإشاعات عن خسارتنا ثانية وإن اللاعب عادل عبد الله من كركوك مصمم على تسجيل أكثر من هدف برغم وجود جمولي في الدفاع !!..

 

       

خضنا المباراة بعزيمة راسخة وتصميم لكي نثار لهزيمتنا السابقة ونرد اعتبار فريقنا وفي ضوء الإشاعات قررت أن ألقي القبض على عادل عبد الله لأمنعه من الوصول إلى الهدف وفعلا وضعت الحواجز الصعبة أمامه وسجلنا في مرمى فريقه ستة أهداف نظيفة مقابل لاشيء لهم .. وبعد هذا الفوز تأكد للجميع إن المباراة الأولى كانت تحت تأثير ظروف غامضة لا تلتقي والنتيجة التي حققها الفريق في مباراة الختام .. كانت روح التفاهم الودي هي الشائعة في علاقاتنا وأتذكر مرة وفي إحدى المباريات المحلية سجل ضدنا فريق الكلية العسكرية هدفا مبكرا وسريعا أثار دهشة الحاضرين ,

                

وقبل أن نضع الكرة في اللعب لاستئناف المباراة همست في أذن اللاعب الجماهيري المعروف عمو بابا وقلت له( عندما تعاد الكرة لي من حركة البداية انطلق أنت بكل طاقتك وسترى الكرة أمامك ) .. وبالفعل انطلق عمو بابا وأعيدت الكرة لي فرفعتها عالية أمام منطقة الجزاء وهناك ألتقي بها عمو بابا وقذفها قوية سريعة ليسجل هدفا ثأريا خلال أقل من 30 ثانية , وكان هذا الهدف يمثل ذروة التفاهم ويؤكد جدارة عمو بابا في استغلال الفرص وتسجيل الأهداف .. ومع أحداث الكرة المثيرة ومع همومها وأفراحها رزقت السيدة قرينتي بمولودتنا الأولى ( مها ) وقد ملأت عليّ حياتي , وكانت مها وجها خيرا لحياتي الرياضية ولنجاحاتي في المستقبل..

  

عواصف ترابية وعواصف كروية
في إحدى المباريات التقليدية بيننا وبين القوة الجوية بملعب الكشافة بقي على نهاية المباراة عشر دقائق فقط ونحن نتقدم على القوة الجوية بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد وأعتقد الجميع إن المباراة لصالحنا لا محال وفعلا خرج قسم من الناس وتركوا الملعب للاعتقاد ذاته وفجأة عصفت بالملعب زوبعة ترابية خالطتها غيمة تفيض بالمطر الغزير ,

           

ووسط هذه الزوبعة برز ناصر جكو ليصنع فرصة عظيمة للاعب قحطان عمارة ليسجل الأخير هفا للقوة الجوية فأصبحت النتيجة 3-2 , واقتربت الدقائق وأوشكت المباراة على الانتهاء ومن كرة عالية فوق منطقة جزاء مرمانا تصدى لها ناصر جكو وبحركة سحرية أرسلها سريعة مذهلة لتدخل الهدف على يسار حارس المرمى إسماعيل مهدي ومن جانب عمود الهدف وبدخول كرة ناصر جكو هدفنا أعلن الحكم عن انتهاء المباراة بالتعادل بثلاثة أهداف لكل من الفريقين وسط إعجاب ودهشة الجمهور ..

ومن الطريف إن أحدهم سأل حامي الهدف إسماعيل مهدي ( لماذا يا أبا حقي لم ترم نفسك على الكرة التي ضربها ناصر جكو ؟ ).. ضحك الحارس إسماعيل ورد ساخرا لم أشاهد الكرة حتى أرمي بنفسي عليها ولم ألحظها إلا وهي في الهدف!!.
الحياة تمضي وتزدحم بالأحداث ومعها كنت أتنقل ما بين الأمل والحزن , ولا شك كان هناك الكثير من الخيبات , ولكن , والحق أقول لكم لم يحدث أن تطرق في داخلي اليأس .. لقد بقيت لاعب كرة , أحب اللعب , وأحب تطوير هذه المهنة الجميلة التي ملكت حياتي كلها , وبمرور الزمن فقد منحت بعض الأحداث الجديدة طعما جديدا في حياتي , كان مستقبلي يمضي في طريقه ..فقد منحت قدما في (الترفيع) وتجمعت (خيوط ) الرتبة في أعلى ساعدي كرئيس عرفاء , بينما كنت أحتل منصب رئيس الفريق العراقي الوطني والعسكري بكرة القدم .. وفي هذه المناسبة لابد لي أن أشير إلى قصة منحي رتبة ملازم بالجيش العراقي , فهي قصة تشكل شيئا مثيرا في حياتي ..

                   

لقد أجمع النقاد والمراقبون والمسؤولين على إنني وصلت إلى مرحلة من المستوى ومن المكانة الرياضية بحيث يؤهلني إلى تبوأ مكانة جديدة عن استحقاق , وفي تلك الفترة تم فتح دورة ( للييفي ) بالحبانية وأشيع بأنني سأدخل هذه الدورة حتى أتخرج برتبة نائب ضابط حربي وبعدها أتسلق إلى رتبة ملازم .. وفعلا أرسل في طلبي أحد المسؤولين وقال لي لقد وقع عليك الاختيار لكي يتم انضمامك إلى هذه الدورة واختيارنا لك لم يأت بسبب مستواك الفني بكرة القدم فحسب بل من أجل إخلاصك وتفانيك وأخلاقك العالية حيث لم يسجل عليك طيلة الفترة الطويلة التي عرفناك بها ملاحظة واحدة سيئة أو قريبة إلى الإساءة فأنت الرياضي المثالي وأنت المستحق الأول لهذه الدورة !. في حينها غمرتني الفرحة وامتلأ قلبي بالسعادة .. وقد أرسلت على الفور إلى الحبانية وهناك أمضيت ثلاثة شهور بالقسم الداخلي مع التدريب العسكري , وكان يرسل في طلبي لألعب بعض المباريات المهمة وأعود ثانية إلى الحبانية .. وانتهت الدورة لأمنح بعدها رتبة نائب ضابط حربي , وفي نفس اليوم الذي تخرجت من الدورة احتفلنا بمرور أول عام على زواجي وامتزجت لفرحة وعمت الأهل والأحباب ..

                                          

بعد هذه الفترة جاءنا اللاعب ( يورا ) ليدخل صفوف المنتخب العسكري كلاعب بارع فنان وأحسن من يجيد المراوغة والتخلص من الخصوم وقد تعلم اللعب والمراوغة من اللاعبين الانكليز سواء كان ذلك في الحبانية أو في فترة مكوثه في لندن , وأضاف هذا اللاعب قوة جديدة لفريق القوة الجوية حيث لعب في صفوفها حال عودته من لندن , ويتذكر جمهورنا ومتتبعو الأنشطة الكروية كيف خرج اللاعب يورا من امتحانه الأول أمام نادي مارسين التركي بدرجة جيد جدا ليحتل بعدها مكانه الطبيعي في صفوف المنتخب العراقي ..

وفي يوم 25 آيار 1957 تم ترقيتي إلى رتبة ملازم ثان بالجيش العراقي بعد أن مارست مهمة آمر فصيل عاما ونصف العام حتى جاء موعد الترقية الجديد .. وفي العام ذاته شاركنا في بطولة الدورة العربية في بيروت وفيها تعرضنا للحوادث والإصابات والضرب بشكل لم تألفه الروح الرياضية ولا مشاعر الود والأخوة .. وعلى أثر ذلك قررنا الانسحاب من البطولة وكان علينا أن نخوض أولى مبارياتنا بكرة القدم أمام المنتخب المغربي الشقيق .. وعندما علمنا بقرار الانسحاب من الدورة ذهبنا إلى المدينة لنشتري بعض الحاجيات والهدايا .. ولكن بغداد في تلك الفترة لم ترض بالانسحاب وأبلغ رئيس الوفد الأستاذ أكرم فهمي أن تستمر الفرق في مبارياتها والذي لا يشترك سوف يتعرض للحساب العسير .. وفي ضوء هذا الأمر تم جمع اللاعبين من الأسواق استعدادا للمباراة الأولى وسط تحفظهم وامتعاضهم لهذا الأجراء وإن كان العديد من إخوانهم أعضاء لوفد العراقي الرياضي يرقدون في أسرة المستشفى جراء إصاباتهم البليغة !!..

                  

وقد حاول الأستاذ أكرم فهمي أن يشرح للاعبين الظروف غير الطبيعية التي تعرض لها وضرورة الاستجابة للعب خوفا من العواقب .. وقد قلت للأستاذ إسماعيل محمد مدرب الفريق إنني أعترض كرئيس للفريق على هذه المباراة أو العودة إلى اللعب لأن اللاعبين في وضع سيء لا يساعدهم على أداء دورهم ومهمتهم بهذه المباراة .. ولكن السيد المدرب كان يعاني كما نعاني وقال لا مفر سوى الاستجابة واللعب , وكانت مهمتنا صعبة للغاية لأن الفريق المغربي كان مشهورا جدا وقد حضر إلى لبنان لكي يحمل كأس كرة القدم .. يوم مباراتنا مع المغرب كان مشهودا , والحديث الذي دار بين الأمير الحسن والأستاذ أكرم فهمي في يوم المباراة ما زال حاضرا في ذهني ..

  

في عام 1959 تقرر أن يخوض منتخبنا العسكري لقاءات ودية مع الدول الاشتراكية في كوريا وفيتنام والصين والاتحاد السوفيتي , وكانت رحلة طويلة جدا مكثنا خلالها قرابة السبعين يوما وحظينا باحترام واستقبال الجماهير بتلك الدول التي نزورها لأول مرة في تاريخنا الرياضي .. بدأت المباريات وفزنا وخسرنا وتعادلنا ولكن مباراتنا أمام منتخب الجيش الصيني كانت من أكثر المباريات إثارة وغرابة حيث تمكنا خلال الشوط الأول أن نسجل ثلاثة أهداف في مرمى الفريق الصيني والأهداف الثلاثة سجلها بمفرده اللاعب الجماهيري المعروف عمو بابا فدهش الصينيون وصاروا يلقبونه ب( علي بابا ) ارتباطا بقصص ألف ليلة وليلة , وكان عمو محط أعجاب الجمهور الصيني الذي لاجقه في فترة الاستراحة أينما ذهب . ولكن في الوقت الذي كان الجمهور الصيني يبدي إعجابه كان المدرب الصيني يضع الخطة المناسبة لإيقاف نشاط اللاعب عمو بابا وفعلا تمكن الفريق الصيني من تسجيل ثلاثة أهداف بمرمانا في الشوط الثاني وخرجنا متعادلين بثلاثة أهداف ..لقد وجدنا أنفسنا في الصين خطأ حيث كان من المقرر أن نحط لرحال في فيتنام ومن ثم نذهب للصين ..وقد لعبنا في الصين ثلاث مباريات أبرزها كانت أمام منتخب الجيش الصيني

              

ونحن في الصين جاء وفد من فيتنام يحمل رسالة شخصية إلى رئيس الوفد الأستاذ إسماعيل أرزوقي رئيس اللجنة الأولمبية السابق من الزعيم الراحل هوشي منه تطلب من رئاسة الوفد أن لا يعتبر خطأ الطريق سببا لا يحاول بعده الوفد العراقي من زيارة فيتنام ويقول المبعوث الفيتنامي إن الزعيم هوشي منه تواق لزيارة الفريق العراقي وهو يعتبرها فرصة كبيرة لفيتنام أن تلتقي بفريق عربي لأول مرة في ربوعها , وبالرغم من حراجة وبعد الطريق استجاب السيد رئيس الوفد وذهبنا إلى فيتنام وفزنا في المباراتين اللتين لعبناهما مع الأصدقاء الفيتناميين , وبالرغم من فوزنا على فرقهم كانت أيديهم لا تكف عن التصفيق والتحية اعتزازا بزيارتنا لهم وفي المقدمة الزعيم الراحل هوشي منه .. وفي كوريا خسرنا مباراة وفزنا بثانية بعدها أقفلنا الرحيل إلى الاتحاد السوفيتي ولم أتمكن من اللعب في موسكو لإصابتي بتمزق وقد لعبنا في موسكو مباراتين فزنا وخسرنا .. إن هذه الرحلة الطويلة الشاقة كانت من أصعب المهام الرياضية التي عشنا أحداثها خارج حدود الوطن ,

               

وقد عانى الأستاذ عزيز الحجية مدرب الفريق بذلك الوقت من الإصابات والمرض للاعبين بسبب اختلاف الطعام والمناخ والساعات الطويلة في الطيران التي لم نألفها من قبل بحيث نطير مثلا عشر ساعات بدون انقطاع ونستريح ساعة واحدة نواصل بعدها الرحيل لساعات طويلة هذا ناهيك عن إنك تعاني من سخونة مناخ فيتنام بينما ترى الثلج في شوارع موسكو ..!! فكانت نتائجنا لا ترضي الطموح .. بتلك الرحلة الفريدة من نوعها لأننا لأول مرة تطأ أقدامنا أرض هذه الدول الاشتراكية .
وفي أعقاب عودتنا كان علينا أن نلاعب منتخب لبنان الشقيق في تصفيات دورة روما الأولمبية ببغداد وبيروت .. وجرى اللقاء الأول في بعداد وفزنا بسهولة على اللبنانيين 8-صفر ولكن في لقاء بيروت لم نتمكن من تسجيل سوى ثلاثة أهداف في مرمى الفريق اللبناني .. وعلى ذكر اللقاءات العربية زارنا منتخب توتس لكرة القدم , وتونس من الفرق العربية الجيدة , ولعبنا في ملعب الادارة المحلية في المنصور ,وكانت مباراة ساخنة تجلت فيها روح الندية والدفاع والهجوم ولكننا في النهاية حصلنا على هدفين مقابل هدف واحد للفريق التونسي , والجدير بالذكر بهذه المباراة الهدف الذي سجله اللاعب عمو بابا وقد تمكن عمو من تسجيل أغرب وأصعب هدف في تلك المباراة حيث استقبل الكرة عالية وهي بالهواء وكان ظهره إلى مرمى الفريق التونسي وبحركة بهلوانية وبتقاطع ضربة المقص أودع عمو بابا الكرة في مرمى تونس وسط دهشة الجماهير بعد أن تعانق الصوت الهادر من جماهيرنا المحتشدة مع صدى أجواء الملعب ولم نعد نسمع شيئا ..وهذا الهدف هو الأول من نوعه في ملاعب الكرة العراقية .

     

   ومن الذكريات الكروية الجميلة التي احتفظت بها ولن أنساها يوم لقاء العراق وتركيا عام 1961 .. خسرنا مع الأتراك 1-4 وسجل هدفنا اليتيم اللاعب يورا بمجهود فردي , لقد كانت تركيا تضم لاعبا دوليا معروفا اسمه جان ويلقب ( بوشكاش تركيا ) اعتزازا بمستواه الذي يقارب مستوى بوشكاش المجري صاحب الأقدام الذهبية .. وحصل لي حادث مع هذا اللاعب العملاق حيث تمكنت من إلغاء هدف أكيد كاد أن يسجله في مرمانا ليضيف لأهدافه هدفا أخرا وسأروي لكم هذه الحكاية :

حصل اللاعب التركي جان على الكرة من محاولة مرتدة وهرب بها مسرعا وهو سريع للغاية ولحقت به وقررت أن أصل إليه مهما كان الثمن ووقف 60 ألف متفرج بالملعب ليشهدوا الهدف الجديد لجان ولكنني أمرتهم بالجلوس وأنا ألغي الهدف من بين أقدام اللاعب التركي وأرمي الكرة إلى الخارج بعد أن وقف مندهشا لمحاولتي وقال عقب المباراة إن كابتن العراق فاجأني بالظهور وكأنه خرج لي من باطن الأرض ..وجان يقدسه الجمهور التركي فهو شخصية جذابة يكفي مروره بأي شارع من شوارع أنقرة حتى يجتمع حوله الناس ..وسمعت بعد ذلك بأن البلجيكيين قد أشتروه بمبلغ كبير جدا .
إن المباريات وأحداثها البعض منها يمثل ( زادنا ) لرحلة العمر والبعض الأخر مرارة ( مرة ) لما نعاني من ظروف اللعب ومفارقات النتائج .. فبين عام 1960 -1963 زارنا الفريق السوري الشقيق لكرة القدم وكان يضم أشهر نجوم سوريا بتلك الفترة من اللذين ذاع صيتهم على المستوى العربي ,كذلك لعبنا مباراة ساخنة تجلت بها المهارة والمجابهة والندية وقد سجل منتخبنا هدفا في مرمى السوريين وبقينا متقدمين على سوريا 1-صفر حتى الدقيقة 85 من المباراة وبقي خمس دقائق على انتهائها , ومن فرصتين جاءتا عن طريق الزاوية سجل السوريون هدفين متتاليين في مرمانا لنخرج خاسرين وسط العناء والعذاب النفسي وشتائم المتفرجين , وكانت مباراة قاسية عذبتني كثيرا وبقيت مرارتها إلى هذه اللحظة .
بعد أن تم ( تهديم ) الفرق الرياضية بالحرس الملكي ذهبت لفريق الفرقة الثالثة وهناك التقيت باللاعب والمدرب عادل بشير وبدأنا نبني صرح فريق جديد يحمل الفرقة الثالثة وقد تفرغت تماما للعب والتدريب المتواصل ولم أكن أعرف من لاعبيه بقدر معرفتهم بي وحبهم للعب معي حتى التحقت المجموعة التي لعبت لهذا الفريق سنين طويلة وهي مؤلفة من اللاعبين المعروفين:

  

حسن بله وكوركيس إسماعيل ومحمود أسد وأنور مراد وعلي عطية وطرزان ولسن وغيرهم من الذين شيد على جهدهم بناء هذا الفريق الذي أحتل فيما بعد موقع الصدارة بين الفرق العراقية .. وقد حصلنا على بطولة الجيش بعد أن تكامل الفريق ونضج مستواه حيث بذل السيد علي بشير جهودا عظيمة في تطوير مستوى الفريق والعناية بلاعبيه وكان له الدور البارز والمهم في تقديم مستوى هذا الفريق .. ولكن بعد عام 1963 حصلت تغييرات في بعض تشكيلات الوحدات العسكرية خسرنا خلالها اللاعب حسن بله حيث انضمت الجهة التي يلعب فيها إلى البصرة ولم نتمكن من سحبه لأنهم في البصرة يعرفونه واعتبروها فرصة لهم لكي يلعب حسن بله لصفوف فرقهم وفعلا بذل هذا اللاعب جهودا طيبة في تشكيلات محافظة البصرة . ومن الجدير بالذكر إن السيد عادل بشير تم اختياره مدربا للمنتخب العسكري وأخذ يشرف على إعداد الفريق وحققنا نجاحات كبيرة وباهرة .

مجلة ( الاذاعة والتلفزيون ) لسنة 1977

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

742 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع