محلة وجامع الحيدرخانة مهد انتفاضات ورموز شامخة

    

                 يعود تاريخهما للعصر العباسي

بغداد ـ يوسف المحمداوي:الأمكنة نعمة الله على الأرض، تستنشق في زواياها وعلى جدرانها عبير صلوات الصالحين وهي تعفو بضمير الدعاء عن ذنوب الاشرار،

هي نتاج مخيلة البشر على هذه الارض، شوارعها،جوامعها ، أزقتها،محالها ،ابوابها ، كل شيء فيها عيوننا التي تنير لنا الدرب،وانشودة الماضي الجميل بكل تجلياته ،أية خطوة هناك لها معنى،لها قيمة راسخة رسوخ الزمن في ذاكرة التاريخ،لها كبرياء مفعم بالتواضع قد يحيلك الى بيت شعر رصافي التمرد،او زهاوي الفلسفة،او حصيري التشرد،او سيابي اللوعة،او للوحة كانت تغري مخيلة فائق حسن بألوانها،كفن حكاياتها حياة صاخبة تزغرد بعناق الحاضر ،اسرار ماضيها المفعم بالأساطير،يغبطه ضمير مستقبلنا المجهول وسط ظلمة النوايا...

   

هاهي الحيدرخانة تشمخ بجامعها، بأزقتها،بذكرياتها،بصوت ولدها ناظم الغزالي تصيح"ان البدور اللواتي جئت تطلبها....بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا".

منازل داخل الجامع
حيدر بريش محمد احد منتسبي وزارة الداخلية مديرية الحمايات،فتح باب الجامع لنا،بل زاد في ذلك بانه سمح لنا في تصوير الداخل،ومن ثم قام بارشادنا الى موسوعة المنطقة (ابو سهيل)وهو الحاج محمد الحاج صاحب الشمري صاحب محل للاستنساخ وتجليد الكتب،وهو يمارس هذا العمل وفي محلة الحيدرخانة نفسها منذ العام 1957،وقبل ان نبحر مع روافد ذكريات ابو سهيل،لابد من وصف ولو بسيط، الجامع الذي بني على ارض تقدربـ (3000) متر، يكاد يكون موقعه وبناياته على شكل مربع،وفيه مصلى للشتاء وآخر للصيف،وقد زود الصيفي بسقيفة تقي المصلين من حرارة الشمس،فضلا عن وجود ملاحق في الجامع وهي على شكل اجنحة خاصة،تمثل بيت الشيخ،وآخر للقارىء،وبجوارها منزل المؤذن،فضلا عن جناح خاص لمبيت الحراس،وبيت لخادم الجامع،وعلى الرغم من اعمال الترميم الجارية في قبة الجامع،الا انه يحيل الناظر اليه الى عظمة المهندس العراقي وقدرته على جعل هيبة الماضي تتلاقح وتذوب مع التجديد الحاصل في الحركة العمرانية الحديثة،وما شكل الجامع وشبابيكه وابوابه الخشبية والتناسق الشكلي مابين القبة والمأذنة إلا حوافز تستدعي الناظر للأنحناء بكل التواضع والعرفان للأنامل التي اجتهدت في تشييدها بهذه الصورة الرائعة.

سميت نسبة الى صاحب الخان
قول (ابو سهيل)الذي يقع محله بجوارالجامع في المحلة التي سميت بالاسم نفسه (الحيدرخانة) ان هذا الموقع قبل ان يتحول الى جامع كان عبارة عن خان او ساحة لربط ابل المتبضعين من سوق السراي، الذين يأتون الى هنا ومن جميع المحافظات لغرض التبادل التجاري والتسوق ،مبينا أن الخان او الساحة كان يديرها رجل يدعى(حيدر) لذلك والكلام لمحدثنا اطلق أسم (الحيدرخانة)على المنطقة وكذلك الجامع،مبينا ان الرواية التي تفيد بأن الوالي العثماني الذي بناه كان اسمه حيدرغيرموثوقة، لكون تاريخ الدولة العثمانية وسلاطينها لايوجد فيها مايشير لوجود هذا الوالي مطلقا،ويشيرالمؤرخ عماد عبد السلام رؤوف الى ان الحيدرخانة كانت تسمى في العصر العباسي بسوق الثلاثاء،ولكل درب فيها اسم لمحلة قائمة بذاتها،مثل درب الخبازين(العاقولية) حالياً،ودرب دينار(شارع المأمون)ودرب آخر اجتز قسما من شارع المتنبي ،وكذلك عقد الخشالات نسبة الى اسرة الخشالات التي نزحت من ديالى وسكنت المنطقة واليها ينتمي محمد الخشالي صاحب مقهى الشابندر كما يقول(ابو سهيل).

معالم اخرى مهمة
ويشير المؤرخ رؤوف الى انه لاعلاقة للتسمية بحيدر جلبي الشابندر صاحب الحمام المؤسس العام 1650ميلادية،والتسمية هي اسم لتكية قديمة لايعرف تاريخها تنسب الى رجل يعرف بحيدر وكان موقعها في مدخل السوق القديم،وقد بيعت من قبل متوليها سنة 1926فهدمت وحولت الى فندق بحسب قول رؤوف،الذي يؤكد ان الجامع انشأه الخليفة العباسي الناصر لدين الله،ثم أعيد بناؤه في زمن والي بغداد داود باشا،ويعد من ابرز معالم المحلة وافخمها في العصر العثماني،على الرغم من وجود معالم اخرى مهمة فيها،مثل جامع والي بغداد حسين باشا(السلاحدار)والمشيد العام 1673ميلادي،وكذلك دار والي بغداد احمد باشا المسماة(البزركان)،وتقع قبالة جامع الحيدرخانة مباشرة،وقد تحولت الدار بعد ان باعها ورثتها اثر انتهاء الحرب العالمية كمايشيررؤوف الى مدرسة(شماس اليهودية) ثم الى اعدادية(شرافت)الايرانية ثم اندثرت تماما،بعد ان تحولت كغيرها من الشواخص الاثرية مثل المقاهي القديمة وغيرها الى محال
تجارية.

الجامع الثائر
يقول (ابو سهيل) ان مامخطوط على باب الجامع يشير الى ان الجامع بني في عهد السلطان محمود خان بن السلطان عبد الحميد الثاني العام  1780 ميلادي، وقد تم تطوير الجامع بزمن الوالي داود باشا،وانشئت فيه مدرسة للعلوم الدينية سميت بالداودية نسبة للوالي،وقد درس في تلك المدرسة اعلام الفكر الاسلامي في ذلك الزمن،ويضيف ان هذا الجامع كان يسمى ايام ثورة العشرين والانتفاضات التي حصلت ضد الانكليز (الجامع الثائر)،ويؤكد الشمري انه في العام 1920 اقيمت صلاة جماعية موحدة داخل الجامع،حيث حضرتها جميع الطوائف والاديان ومن جميع المحافظات العراقية، وكانت القوات البريطانية في حالة تأهب وأنذار خشية من المتظاهرين،مبينا انه كانت في باب الجامع تقف مدرعة انكليزية، حيث كان جعفر ابو التمن يلقي خطبه الداعية لنبذ الخلافات الطائفية وتوحيد جهود جميع العراقيين من اجل مقاومة الاحتلال ومن سوء حظ الانكليز ان سائق المدرعة واثناء تحركها قام بدهس احد المتظاهرين وكان اخرس، وتم نقله الى المستشفى لكنه بعد يومين فارق الحياة،وعلى اثر تلك الحادثة انطلقت مظاهرات كبيرة اعلنت على اثرها الاحكام العرفية.

الاستقلال بزعامة الصدر
في اواخر شباط 1919 الف الوطنيون العراقيون جمعية سرية سميت (حرس الاستقلال) بزعامة السيد محمد الصدر وتضم علي بزركان وجلال بابان ومحمود رامز ثم اصبحت اكثر نشاطاً حينما انضم اليها اخرون مثل يوسف السويدي وناجي شوكت وسامي شوكت ومحيي الدين السهروردي والشيخ باقر الشبيبي وعبد الغفور البدري وعبد المجيد كنة وكذلك جعفر ابو التمن بعد عودته من طهران في تشرين الاول العام 1919 الذي انتخب امين سر عام. ويقول ناجي شوكت في مذكراته ان جعفر كان القائد الفعلي لحرس الاستقلال التي نادت بالاستقلال التام للعراق الذي كان يضم ثلاث ولايات هي بغداد والبصرة والموصل.
يقول عنه حميد المطبعي: كان فيصل الاول يقول له سراً، (كم يعجبني حوارك مع التاريخ) بينما برسي كوكس يجمع الخصوم ويقول لهم: (هل من طريق لازاحة ابي التمن من الساحة)، حتى الوثائق البريطانية الاخرى لم تستطع ان تطعن برجل مخيف كأبي التمن، انما عالجته بروح المناورة (اعطوه الكرسي الناعم كي نحيده)، ولم يحد لأن في اعماقه نشأت صرخة مدوية (ايها العراق انت الاغلى والاعظم
 والاشمل).

               

نشيد البصير الوطني
وفيما كان ابو التمن يلقي بخطبه الداعية لنبذ التفرقة ووحدة العراقيين،كان الشاعر مهدي محمد البصير الصوت المدوّي داخل جامع الحيدرخانة،لبث الحماسة في صفوف العراقيين،وقد تكون قصيدته"وطني" كما يقول (ابو سهيل) اثر استشهاد الاخرس، التي القاها في باحة الجامع من امضى القصائد في تحشيد التظاهرات ضد الاحتلال،وقد ذهبت كنشيد وطني يردده جميع العراقيين من دون استثناء،حيث يقول فيها"إن ضاق ياوطني عليّ فضاكا... فلتتسع بي للأمام خطاكا...بك همت أو بالموت دونك في الوغى...روحي فداكا متى أكون فداكا" وقد لقب البصير(ميرابو الثورة)تشبيها بخطيب الثورة الفرنسية،وعلى اثر تلك التظاهرات استخدمت القوات البريطانية الرصاص الحي في تفريقها،وقد تم اعتقال العديد من قادة تلك التظاهرات ومنهم ابو التمن والبصير وقامت بنفيهم الى جزيرة(هنجام)في الخليج العربي،وقضوا فيها عدة شهور لكن الانتداب البريطاني افرج عنهم بسبب التذمر والمطالبات الشعبية .ويذكر التاريخ ان ابا التمن حاولوا استمالته بعدة وزارات منها التجارة والمالية ولكنه سرعان مايصدم بالوضع السياسي الملوث فيقدّم استقالته.

  

مقر لأعرق العوائل البغدادية
الجامع شهد العديد من الاعتقالات والمحاصرة وحتى الحظر على دخوله من قبل القوات الانكليزية لكونه مركزا رئيسا للانتفاضات التي كانت تنطلق من شارع الرشيد،ومايميز موقعه كونه يقع بالقرب من سرايا الحكومة،وقربه ايضا من المقاهي التي كانت ملاذا لاهل الفكر والفن والادب،فهناك مقهى حسن عجمي كما يقول(ابوسهيل)و(البرلمان) و(الزهاوي) و(ام كلثوم) فضلا عن كون الجامع يقع في محلة سكنتها اعرق العوائل البغدادية،وخرجت العديد من الرموز السياسية المعروفة،وعلى سبيل المثال لا الحصر عائلة الوطني كامل الجادرجي واولاده نصير ورفعت،فضلا عن شقيق كامل المهندس رؤوف الجادرجي الذي كلفه الوالي العثماني بوضع الخرائط الهندسية لشارع الرشيد ويعود له الفضل بوجود هذا الشارع حيث كان يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس البلدية،وكذلك بيت الـــدفــــتري،والتتــار،والبـــزركان، والجلبي،والدامرجي،والعديد من العوائل الاصيلة.

   

الجواهري والغزالي في الحيدرخانة
ومن الجامع ومن المقهى المقابل للحيدرخانة (حسن عجمي) انطلقت مظاهرة صاخبة مشتركة ضد معاهدة (بورت سموث) العام 1948 وكان يقودها في ذلك الوقت كما يقول (ابو سهيل)شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري بقصيدته الرائعة" اخي جعفر"لتردد الجماهير معه"أتعلم أم أنت لاتعلمُّ....بأن جراح الضحايا فمُّ"،لتنطلق تلك التظاهرات من الجامع والمقهى باتجاه شارع الرشيد،وتحولت تلك التظاهرات الى  انتفاضة شعبية اطاحت بحكومة صالح جبر،ولاريب والحديث لأبي سهيل اننا اطلقنا على الحيدرخانة اسم محلة الانتفاضات،ويبين لنا الشمري ان المحلة التي زخرت بالأسر العراقية الاصيلة،انجبت ايضا رموزا فنية ذاع صيتها في العراق والوطن العربي،ومن هؤلاء مطرب المقام العراقي وسفير الغناء بلا منازع الفنان ناظم الغزالي الذي ولد من عائلة فقيرة في عقد الخشالات الثانية  العام 1921،وقد توفيت والدته (جهادية)وكانت كفيفة وعمره اربع سنوات،وتوفي والده احمد خضيرغزال الذي كان يعمل خياطاً ولم يتجاوز ناظم السابعة من العمر،وكذلك تضم المحلة بيت جد المعلق المعروف مؤيد البدري،بل ان احد اجداده من المشتركين في تأسيس حركة (حرس الاستقلال) التي كان يتزعمها محمد الصدر،وبيتهم كان موجودا في عقد جديد حسن باشا كما يقول الشمري:

 

ولا ننسى ان نقول ان الحيدرية ضمت اقدم المحال العراقية المتخصصة ،منها على سبيل المثال(شربت الحاج زبالة) العام 1900و(كعك السيد) العام 1906،وتأريخ معطّر بالمجد والمعالي ليتسيد قلوبنا وعقولنا بحكايا النور.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1227 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع