تاريخ تجارة الساعات في العراق
لم تكن تجارة وتصليح الساعات (وخاصة اليدوية) مهنة رائجة في العراق في بداية القرن السابق، كما كانت الساعات بالاساس سلعة محدودة الانتشار انذاك. وكان التجار العراقيين في ذلك الوقت، واغلبهم من اليهود، يركزون على تجارة الاقمشة والمواد الانشائية وخاصة الحديد والخشب وبعض المواد الغذائية.
تعرف العراقيون على الساعات الجيبية في نهاية القرن التاسع عشر عن طريق الولاة العثمانيين او ضباط الجيش التركي الكبار، الذين كانوا يحملون ساعات الجيب المربوطة بسلسلة معلقة على صدورهم. وبعد الاحتلال البريطاني ودخول القوات الانكليزية (والهندية العاملة تحت امرتها) الى البصرة (1914) ثم الى بغداد (1917)، ازدادت ظاهرة حمل الساعات الجيبية بنفس الطريقة وخاصة من قبل الضباط الانكليز وكذلك بدا يفعل بعض وجهاء بغداد والمدن الكبيرة مثل البصرة والموصل.
في تلك الفترة كان جدي جواد علي الاسدي يمتلك محلا صغيرا لتصليح الساعات الجدارية والعدد اليدوية الدقيقة وكذلك المسدسات، في سوق الخفافين، والذي عرف بسوق الكمرك ايضا. (ثم اصبح يعرف بسوق الساعجية باللغة البغدادية) قرب حائط الجامعة المستنصرية، وكان هذا السوق، وسوق الصفافير القريب منه المركز التجاري لبغداد انذاك. كما ورث جدي عن ابيه علي الاسدي مهارة تثقيب حجر اللولو. وحسب ما رواه لنا كبار العائلة،انه في احد الايام مر بجدي شخصا ، ولما شاهد مهارته في التعامل مع الاجهزة التي بين يديه اخبره بان ساعته الجيبية قد تعطلت، وساله ان كان يستطيع ان يصلحها له. وبالفعل نجح في ذلك، ومن يومها اصبح تصليح الساعات الجيبية من ضمن دائرة اعماله واهتماماته، بالاضافة الى ساعات الحائط او الجدارية. ولم يتوقف عند ذلك الحد بل علم اشقاءه الاصغر منه (محمد حسين وعبد اللطيف)، وابناءه الكبار كاظم وابراهيم ومهدي (رحمهم الله جميعا) هذه المهنة بعد ان بدا استخدام الساعات يكثر في العراق. وهكذا برع اخوته والكبار من ابناءه من بعده في هذه المهنة. بعد وفاة جدي، تبنى شقيقه عبد اللطيف مهمة تعليم ابناء العائلة الاصغر مهنة تصليح الساعات، وكان المرحوم والدي (ناجي جواد) من ضمنهم. حيث تعلم المهنة وزاولها لفترة ليست بالقصيرة في محلات اشقاءه الاكبر. ولكنه كان يعترف بانه على الرغم من شغفه بالساعات الا ان اهتمامه بالتصليح كان ضعيفا جدا، وكان يجد فيها مهنة مضنية، وازعج ما فيها هو الجلوس في مكان واحد والاستعانة بالعدسات المكبرة للتعامل مع اجهزة وادوات دقيقة جدا. اما في فصل الصيف الحار فالعملية تكون اضنى خاصة وان التقاليد كانت تحتم عليهم لبس (سدارة الراس) وعدم رفعها لاي سبب كان، والا فعقاب العم لطيف والاخوة الكبار سيكون قاسيا. الا ان اخاه فخري جواد وابناء عمه عبد الجبار وعبد الصاحب وعبد الرضا لطيف، وكذلك عباس ابن العم الاخر محمد حسين، (رحمهم الله جميعا) برعوا في تصليح الساعات الجيبية واليدوية فيما بعد. اما الاشقاء الاكبر كاظم وابراهيم ومهدي فلقد برعوا جميعا في تصليح الساعات الجدارية والعامودية. وكان لكل واحد من هولاء الاخوة محلا في سوق الساعجية، بالاضافة الى محلات العمين عبد اللطيف ومحمد حسين. اما الاخوة وابناء الاعمام الاصغر فكانوا يعملون مع اشقائهم الاكبر او ابائهم. وبعد ان كانوا يتمرسون في المهنة يفتتح كل منهم دكانته الصغيرة في نفس السوق. وهكذا امتلك افراد العائلة منذ بداية الثلاثينيات خمسة محلات لتصليح الساعات في نفس السوق. وبسبب تمسكهم بهذه المهنة طغى لقب الساعاتي على العائلة وغاب لقبهم الاصلي الاسدي.
طبعا يجب ان اذكر هنا عائلة كريمة اخرى اشتهرت في مجال الساعات وهي عائلة المرحوم عبد الرزاق محسوب الذي صنّع بنفسه ساعة الامام ابو حنيفة (رض)، والذي لم تكتحل عيناه برؤيتها فوق البرج كما هي الان. ولقد برع ابناءه ولبعض احفاده في هذه المهنة ايضا. واذكر ان ابنه الدكتور صالح محسوب، والذي كان استاذا جامعيا مرموقا حتى تقاعد، وصديق شقيقي د شوقي، كان من ابرع مصلحي الساعات الدقيقة والثمينة، وكنا نلجأ اليه كلما صادفتنا حالة معقدة.
الانتقال الى شارع الرشيد
في عام 1937، اتخذ المرحوم العم فخري جواد الساعاتي، وهو في العشرينات من عمره، خطوة جريئة وغير مسبوقة عندما نقل نشاطه من سوق الساعجية الى شارع الرشيد، محلة راس القرية، وكان اول تاجر مسلم في هذه المهنة يفعل ذلك.
ناجي جواد وشريكه ابن عمه عبد الجبار لطيف
وفي عام 1943 تشارك والدي مع ابن عمه وزوج شقيقته العم عبد الجبار لطيف وافتتحا محلا لهما لتجارة وتصليح الساعات في راس القرية ايضا (اسموه محل الاندلس)، وزادوا على ذلك بان قاموا باستيراد بعض الساعات اليدوية من سويسرا مباشرة، وكانا اول من فعل ذلك من التجار المسلمين، بعد ان كانت هذه التجارة حكرا على التجار اليهود العراقيين. اما الاخوة الكبار الباقين فظلوا في السوق القديم. ثم قام قريبهم المرحوم محمد امين الهادي بعد ذلك بافتتاح متجر له في ساحة الوثبة، او التي عرفت باسم ساحة حافظ القاضي. ولكن ظل التجار اليهود في تلك الفترة هم اهم المستوردين للساعات. اهم التجار اليهود العراقيين في مجال تجارة الساعات انذاك كان داود كرجي ومنشي حاييم وسالم عبدو، والاخير كان اشهرهم ووكيل ساعات لونجين، (واذكر اني في الستينات اطلعت على ساعة جيب لونجين من استيراده كانت تعود لوالد احد الاصدقاء جلبها لي لتصليحها، ولما فتحها المصلح الذي يعمل في محل والدي وجدنا نجمة داود السداسية محفورة على الماكنة في الداخل).
في عام 1948، فك ابناء العم ناجي وعبد الجبار شراكتهم واحتفظ العم عبد الجبار في محل راس القرية في حين ان والدي استاجر محلا اخر في شارع الرشيد عند ساحة الوثبة، فيما كان يعرف بسوق الرافدين، مقابل محلات حافظ القاضي، ويجاوره محل المصور ارشاك، مع زقاق ضيق يقود الى شارع النهر، الشارع التجاري المعروف لحد الان والذي اشتهر بمحلات الصاغة والملابس والحلي النسائية. وبقي فيه لحد عام 1956. حيث انتقل الى محل اخر في الباب الشرقي، نهاية شارع الرشيد (في عمارة مطاع ياسين الخضيري، الذي جمعته معه صداقة وثيقة). وكان محله مقابلا لشركة جقماقجي للاسطوانات، ويقع بين الشركة الافريقية العراقية ووزارة الشؤون الاجتماعية انذاك.
وعلى بعد امتار منه كانت محلات حسو اخوان المعروفة للملابس وسينمتي روكسي وريكس الصيفية. وبعد ذلك انشأت سينما الخيام في الفرع المقابل للمحل.
وفي عام 1966 انتقل محل والدي الى عمارته الخاصة في شارع السعدون بالقرب من فندق بغداد، وكان اول من انتقل من تجار الساعات الى ذلك الجانب من الشارع، والذي اصبح بعد ذلك المركز التجاري الجديد والاهم في العاصمة.
في نهاية الستينات اتخذت حكومة البعث قرارا بتحوير منطقة راس القرية (شارع الرشيد)، الساحة التي نفذ فيها اعضاء من حزب البعث محاولة لاغتيال رئيس الوزراء الجمهوري الاول الفريق الركن عبد الكريم قاسم (تشرين الاول/اكتوبر 1959)، وكانت خطة التحوير تتمحور حول تحويل المنطقة الى ساحة يتوسطها تمثال احد افراد المجموعة الذي قتل اثناء محاولة الاغتيال. وبالمناسبة فان المحاولة وقعت امام محل العم فخري جواد بالضبط، وورد اسمه واسم متجره في جلسات محكمة الشعب التي شُكلت لمحاكمة المشتركين بعملية الاغتيال، كما حامت حوله شبهة الاشتراك في العملية بسبب ميوله القومية حتى ثبت العكس. بموجب هذا القرار ازيلت المحلات التجارية هناك ومن ضمنها محلات فخري جواد وعبد الجبار لطيف، فانتقل العم فخري الى ساحة النصر ثم الى شارع السعدون، والعم عبد الجبار الى محل في بداية شارع السعدون مقابل سينما السندباد المشهورة، لمدة قصيرة، كي ينتقل بعد ذلك الى عمارة خاصة به شيدها بالقرب من الساحة المعروفة بساحة التحريات، التي ظل يمارس فيها هوايته المحببة في تصليح الساعات.
في فترة (الخمسينيات) اضيف محلا اخر لعائلة الساعاتي في شارع الرشيد هو محل العم المرحوم عبد الصاحب لطيف في الجهة المقابلة لمحل والدي في ساحة الوثبة، ثم انتقل في الستينات الى محل اكبر في منطقة السنك مقابل البريد المركزي، يعاونه فيه شقيقه الاصغر منه المرحوم عبد الرضا، ومحل اخر لابن العم ناطق، ابن اكبر الاعمام كاظم في منطقة العبخانة-المربعة، ولم يستمر فيه طويلا..
وهكذا فان محلات العائلة في سوق الكمرك لم يبق منها سوى محلين الاول محل العم ابراهيم، الذي ظل يعمل فيه حتى تجاوز التسعين من عمره لتصليح الساعات الجدارية والعمودية، وبعد الاحتلال باعه ابناءه الى صاحب تحفيات، التجارة الرائجة، ومحل العم مهدي الذي اعطاه الى ابن عمه وشقيق زوجته المرحوم عبد الامير لطيف، الذي عمل فيه في مجال الساعات ايضا حتى نهاية الثمانينات، ثم تم بيعه لاحد تجار التحفيات ايضا.
في شارع الرشيد في الخمسينات افتتحت محلات اخرى لتجارة وتصليح الساعات، لاشخاص من خارج العائلة، وبعضهم اكتسب لقب الساعاتي ايضا، وارتبطوا بعلاقات اخوية ومهنية راقية مع عائلة الساعاتي، وكانت العائلة تتعامل معهم كجزء من افرادها، مثل محل علي حسين الساعاتي وزوج اخته صالح الرواف رحمهما الله، الاول ركز على الساعات والثاني اهتم بالمصوغات الذهبية، (علما بان الرواف كان زميل والدي في الدراسة واديا امتحان الثانوية العامة معا- دراسة خارجية بنجاح)، وانتقل بعدها والدي لدراسة الحقوق وحصل على الشهادة الجامعية عام 1954..
استيراد الساعات من سويسرا مباشرة
كما ذكرت سابقا ان استيراد الساعات كان حكرا على التجار اليهود. بعد احداث 1941 الدامية والمؤسفة، (التي عرفت بحوادث الفرهود) التي تعرضت لها العوائل والتجار اليهود، والتي اختلف في تفسير اسبابها، (ولكن اغلب المصادر توكد انها جاءت بسبب تاييد بعض أفراد الطائفة اليهودية لعملية اعادة احتلال القوات البريطانية للعراق في تلك السنة)، بعد هجرة اغلب اليهود بعد عام 1948. في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بدا التجار العراقيون يلجاون الى الكويت، التي كانت سوقا ناميا ولا توجد عليه اية محددات للاستيراد او ضرائب، او الى ايران، لتلبية احتياجاتهم، خاصة وان الشركات السويسرية المهمة كانت في اغلبها قد منحت وكالاتها الى تجار يهود في العراق ولم يكن من السهل عليها ايجاد وكلاء يعتمد عليهم في تلك الفترة. فمعظم التجار العراقيين كانوا لا يتقنون لغة اجنبية، والاهم انهم لم يكونوا معتادين على السفر الى الخارج وخاصة في ايام الحرب العالمية الثانية وبعدها.
ناجي جواد والأديب جعفر الخليلي يتوسطهم الحاج حسون طه على ساحل الخليج / الكويت 1947، زيارة بدون جواز سفر
وعن تلك الفترة كتب والدي مقالة عن زيارته للكويت عام 1947، وكيف ان صديقه التاجر الكويتي المرحوم محمد صالح بهبهاني اصطحبه هو والمرحومبن الحاج حسون طه والاديب جعفر الخليلي الى الكويت بسيارته وهو لم يكن يمتلك جواز سفر. وهذه السفرة فتحت له مجالات اوسع في التعرف على سوق الساعات السويسرية وماركاتها المهمة وتجارها، وكان للمرحوم الحاج حسون طه دورا في ذلك.
صاحب معمل أولما في ضيافة وكيله في العراق ناجي جواد امام منزله في شارع ابي نواس. ويظهر في الصورة من اليمين: ناجي جواد، عبد الرضا لطيف، فاروق طالب النقيب، نوما جانين صاحب المعمل، عبد الحميد المحاري، عبد الجبار لطيف، عبد الرزاق قنبر آغا، فخري جواد، العقيد إبراهيم الشيخ، محمد كافل الحسين، عبد الصاحب لطيف، الدكتور غائب مولود مخلص، عدنان صادق حبه، فؤاد الدباغ. رحمهم الله جميعا. 1965.
في بداية الخمسينيات شهدت تجارة الساعات السويسرية المستوردة مباشرة من المصانع السويسرية رواجا ملحوظا في العراق، حيث حصل والدي بعد سفرة اولى الى سويسرا في عام 1951 على وكالة ساعات (اولما، وسِيما ونوفلتي، وبعدها بسنين اترنا واوريس وكرستيان ديور واوميغا). كما انه حصل على وكالة الساعات الاغلى والاعرق والاشهر (فاشيرون كونستانتين)، ولهذه الماركة قصة طريفة لابد من ذكرها. ففي عام 1957 طلب احد متعهدي البلاط الملكي العراقي من والدي ان يستورد ساعة من الذهب والالماس كي يقدمها المرحوم الملك فيصل الثاني الى خطيبته عند الزواج. وبالفعل سافر والدي وجلب معه الساعة المطلوبة من شركة فاشرون وسلمها للمتعهد واخبره ان ثمنها هو 420 دينارا عراقيا. وبعد ايام اعاد المتعهد الساعة واخبره ان العائلة المالكة رفضتها لان سعرها غالي جدا. وظلت الساعة عصية على البيع بسبب سعرها انذاك، وبالنتيجة قرر الوالد اهدائها الى زوجته.
صاحب معمل ساعات فلكا وزوجته في ضيافة وكيله عبد الصاحب لطيف في بغداد عام 1956
في بداية الخمسينات ايضا حصل العم فخري جواد على وكالة ساعات (فورتس ودوكسا، وبعد فترة لونجين ورادو) والعم عبد الجبار لطيف على ساعات (هيروديا وبعد سنين على وكالة ساعات فافر لوبا)، والعم عبد الصاحب حصل على وكالة ساعات (فلكا). اما العم محمد امين الهادي فلقد حصل على وكالة ساعات رولكس وياتيك فيلب ورومر. وبسبب غلاء اسعار رولكس وباتيك فيليب توقف عن استيرادهما. ثم ذهبت وكالة رولكس بعد ذلك الى صديقهم حبيب هرمز وظلت معه حتى هاجر الى خارج العراق . اما ساعة اوميغا فلقد ذهبت وكالتها الى المرحوم عبد العزيز جعفر ابو التمن، الذي كانت تربطه بوالدي صداقة حميمة جدا، ولم يكن معروفا عنه شغفا او تجربة في هذا المجال، الا انه ابدى رغبته في ان يخوض التجربة بسبب علاقته بوالدي (ابن الساعجي، كما كان يحب ان يلقبه)، وسعى له الوالد وحصل له على وكالة اوميغا. وكان محله مقابل محل والدي في الباب الشرقي ومقابل موقف الباصات ( المطعم التركي حاليا)، وظلت معه حتى وفاته، ثم حاول شقيقه الاصغر عبد الكريم ابو التمن ان يستمر في تمثيلها في العراق، الا انه لم ينجح في الترويج لها بسبب ظروفه الصحية، فذهبت الوكالة الى تاجر لبناني كان قد حصل على الوكالة في لبنان، ثم انتقلت الى تاجر عراقي مرة ثانية هو جوزيف منصور. وفي عام 1971 حصل والدي على الوكالة اثناء زيارة له الى سويسرا، وبعد ان عمل طلبية لعدد كبير منها، وكنت انا برفقته، واتفقنا مع الشركة على كل التفاصيل، على ان يقوم الوالد بفتح اعتماد الاستيراد عند عودته. الا ان الامور تعقدت بعد ان جرى تاميم النفط بعد فترة وجيزة واوقفت كل الاستيرادات، ومنها الساعات. وبعد نهاية الحرب العراقية- الايرانية عاودنا التفاوض ونجح الوالد في الحصول على الوكالة، الا ان الشركة اشترطت ان تبقي تعاملها مع الوكيل الاخر السيد جوزيف، فلم يعترض الوالد اكراما لشخصه الطيب وللعلاقة الاخوية التي كانت تجمعه به. وهكذا بدا من جديد يمثل هذه الماركة واستورد وجبتين حتى وقعت كارثة اجتياح الكويت ثم الحصار وتوقف الاستيراد تماما.
في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات ظهرت ماركات لساعات سويسرية اخرى نالت شهرة في السوق العراقي، مثل ساعة (جوفيال) علي حسين الساعاتي، (نيفادا) سلمان الحاج داود، (سور ) مصطفى عبد العزيز، ساعات (بورن وبتينا) سيد احمد تقي،
وهو اول من استورد ساعات وضع عليها صورة الزعيم عبد الكريم قاسم. وساعات ايدوكس لتاجر ارمني اسمه نيقولا كان ابنه (مكرديج) زميلي في المدرسة الابتدائية)، وساعات ارداث. وفي بداية الستينات قام احد تجار الساعات في العراق (شكري حجاب - وهو من اصل فلسطيني وعرف بطيبته) بانشاء معمل لتجميع الساعات الروسية المنشأ اطلق عليها اسم (بغداد)، ولكنه لم يستمر طويلا بهذا العمل, والسبب ان هذه الساعات لم تستطع ان تظاهي جودة الساعات السويسرية.
في نفس الفترة قامت بعض الشركات والمخازن التجارية الكبرى في بغداد باستيراد ماركات سويسرية مشهورة، ولكن ظل استيرادها قليلا قياسا بما كان التجار الاخرون يستوردونه. فمثلا قامت الشركة الافريقية العراقية باستيراد ساعات (يونيفرسل)ومحلات (نوفكس) التي اشتهرت في الخمسينيات والستينيات، استوردت ماركة شهيرة اخرى هي (جاكر لا كورت)، اما شركة (اورزدي باك) المعروفة، فانها كانت تستورد ساعات (اترنا) قبل ان يحصل والدي على وكالتها. وبسبب حرص تجار الساعات على ادامة وصيانة ما يبيعونه عن طريق تاسيس ورش للتصليح في محلاتهم تمكنوا من كسب ثقة الزبائن واستطاعوا ان يتفوقوا على عمل هذه الشركات الكبيرة.
الاجتماع التاسيسي لجمعية الساعاتية في جامع الخلاني 1954
بسبب رواج هذه التجارة وازدياد عدد تجار الساعات والمصلحين العاملين فيها قام والدي في عام 1954 يطرح فكرة إنشاء (جمعية للساعاتية)، ونجح في نفس العام في تشكيل هذه الجمعية وعُقِد اجتماعها التاسيسي في جامع الخلاني، والتقطت لذلك الصور التذكارية التي ضمت كل اصحاب محلات الساعات، مستوردين ومصلحين، وهم متجمعون في باحة الجامع الامامية. ويذكر شقيقي الاكبر شوقي (الدكتور) الذي حضر هذا التجمع ان الحاضرين اتفقوا على ان يكون يوم الجمعة عطلة لكل محلات الساعات، والتشديد على الاسس الاخلاقية والمهنية في المنافسة الشريفة، كما كانوا يقومون باغلاق محلاتهم عندما يتوفى اي زميل من زملاء المهنة. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فان اختيار جامع الخلاني لعقد هذا الاجتماع لم يكن اعتباطيا، وانما جاء بسبب ارتباط اغلب تجار الساعات الكبار انذاك بالعلامة المرحوم السيد محمد الحيدري امام الجامع في الاربعينيات والخمسينات، الذي طرح عليهم فكرة تحويل جزءا مهما من جامع الخلاني الى مكتبة عامة، اصبحت فيما بعد من المكتبات البغدادية الكبيرة التي يشار لها بالبنان. وكل ذلك تم بجهود ومبادرة السيد الحيدري وبدعم كامل من التجار العراقيين وعلى راسهم مستوردي الساعات من ال ساعتي، الذين غطوا كل احتياجات هذه المكتبة وما تحتاجه من مستلزمات ومتطلبات لادامتها. وعندما افتتح الجامع في الاربعينيات صفوفا لمحو الامية كان المرحوم الوالد وصديقيه صالح الرواف والمرحوم التربوي عبد الحميد المحاري اول من ساهم في اعطاء الدروس للملتحقين بهذه الصفوف.
في تلك الفترة من التاريخ، نهاية الاربعينيات وحتى نهاية الستينيات، كانت السوق العراقية انذاك تحبذ الساعات الشعبية الرخيصة والمتينة والتي تنسجم مع القدرة المالية للغالبية العظمى من العائلات العراقية، الذين كان اغلبهم من الموظفين البسطاء او كسبة او طلاب.
فمثلا في الوقت الذي كان فيه والدي يستورد في السنة الاف الساعات من ماركة اولما (الساعة التي جعل منها الاكثر رواجا ومبيعا وشعبية انذاك وباعتماده على اساليب الدعاية)، كان لا يستورد اكثر من مائتي ساعة من الساعات الغالية في نفس الفترة. وظل الطلب على الساعات الغالية ضعيفا حتى السبعينيات.
تأميم تجارة الساعات
في فترة حكم حزب البعث الثانية بعد 1968، حصلت تطورات نتج عنها توقف التجار عن استيراد الساعات تماما. واهم هذه التطورات هي عملية حصر الاستيرادات الخارجية بالدولة، بعد تاميم النفط عام 1972. وتم انشاء دائرة حكومية جديدة اطلق عليها اسم ( شركة تجارة الاجهزة الدقيقة، ومختصرا كانت تعرف بين العراقيين باسم الدقيقة) التي اصبح استيراد الساعات جزء من مهامها. وبسبب القدرات المادية الكبيرة للدولة بدات هي باستيراد كميات كبيرة من الساعات وتقوم بتوزيعها على التجار، ومن بينها الساعات الراقية والغالية الثمن، والتي كانت الدولة تقدمها هدايا للزوار الكبار، كما لعب بعض الوسطاء الذين كانت لهم علاقات بشخصيات متنفذة في النظام دورا في استيراد اعداد كبيرة من هذه الساعات من الذهب الخالص :
(بياجيه، باتيك فيليب، بوم اي مرسيه، رولكس ولونجين واخترنا وغيرها، مطبوع عليها صورة صدام حسين او شعار الجمهورية) لكي تقدم هدايا للشخصيات المهمة (ملوك رؤساء، وزراء) او اولئك الذين يحظون بلقاء الرئيس او نائبه.
كما ذكرت سابقا كان الساعات الاكثر رواجا هي الساعات البسيطة والشعبية والرخيصة الثمن، الميكانيكية والتي يتم تشغيلها يوميا عن طريق المفتاح اليدوي في جانبها. وكان سعر الساعة الواحدة في الخمسينيات يترواح بين خمسة وستة دنانير. وهناك ماركات ارخص بقليل. وهذا المبلغ كان يعتبر كبيرا في معيار تلك الايام. ولهذا فان تجار ذلك الوقت كانوا يحاولون ايجاد الاساليب المختلفة للترويج لبضائعهم ولمساعدة عامة الناس، وخاصة الموظفين البسطاء، في اقتناء هذه السلعة التي اصبحت شيئا فشيئا من ضرورات الحياة. واول من بادر في ذلك هو العم فخري جواد، الذي اعتمد اسلوب توزيع الساعات على طلبة الكلية العسكرية، ثم الى ضباط الجيش باقساط شهرية بسيطة. ثم تبعه والدي ناجي جواد والعم عبد الصاحب لطيف، وكل تجار الساعات الاخرون الذين قاموا بتزويد اسواق النقابات المهنية، المعلمين والعمال وحوانيت الجيش والتعاونيات، بجزء من الساعات التي يستوردونها بدون اي ان تدفع هذه النقابات ثمنها مباشرة، وانما يتم تسديد ثمن كل وجبة عن طريق دفعات شهرية ميسرة، حيث ان هذه النقابات والجمعيات كانت تبيع البضائع باقساط شهرية ميسرة لمنتسبيها. وهذا الاسلوب يدلل على شعور التجار بالمسؤولية تجاه المواطنين اولا، والحرص على مساعدتهم ثانيا وعلى الثقة المتبادلة التي كانت موجودة بين التجار والمسؤولون عن اسواق وتعاونيات هذه النقابات ثالثا.
ناجي جواد الساعاتي
قبل فترة انتشر على وسائل التواصل مقالة مقتضبة تحدث كاتبها عن ساعة اولما السويسرية وحدد تاريخ الاعلان عنها في العام 1957. ومع كل التقدير والاحترام لكاتب تلك السطور، الا ان بعض الحقائق لم تكن دقيقة، نعم في ذلك العام اشتهر معرض الوالد في معرض بغداد، الذي كان يعرف بالمعرض الزراعي الصناعي، والذي كان المعرض رقم (٢) في تسلسل المعارض، الا ان البداية كانت قبل ذلك. واسمح لنفسي ان اثبت بعض الامور التي عشتها بنفسي، واخرى استقيتها من اشقائي شوقي وقيس ورعد، الذين عملوا، كما فعلت انا، في فترات مختلفة مع الوالد في تجارته.
بدون ان يفهم كلامي بانه ادعاء او تبجح مغرور، وبدون ان اغمط حق تجار الساعات الباقين، استطيع ان اقول انه ومنذ اواخر الخمسينيات، استطاع والدي ناجي جواد ان يحتل المرتبة الاولى كاكبر مستورد للساعات السويسرية. وهذا الكلام لا اقوله اعتباطا، وانما يعتمد على التقارير السنوية التي كانت تصدر عن غرفة تجارة الساعات السويسرية Fédération de l'industrie horlogère والمعروفة مختصرا (FH)منذ نهاية الخمسينيات وحتى بداية السبعينيات عندما مُنِع الاستيراد بسبب تاميم النفط (1972). ولم يكن يمر شهر الا ونحن نستقبل ضيف او اكثر من ممثلي شركات الساعات السويسرية في دارنا في شارع ابي نؤاس في بغداد، وفي احيان كثيرة كنا نستضيف المقربين منهم في دارنا مدة زياراتهم، مثل صاحب شركة ساعات اولما السيد نوما جانين (Numa Jennin) وممثل شركة اترنا الصديق (جان ماري جاسر Gasser) (والذي كان نصف مصريا واصبح ولا زال اكبر مستورد ساعات في القاهرة)، وكذلك كان يفعل اعمامي مع اصحاب الشركات التي يستوردون منها، فصاحب شركة فورتس (رالف Ralf) كان يقيم في دار العم فخري جواد، وصاحب شركة فلكا (العم عبد الصاحب لطيف) كان يفعل نفس الشيء مع افراد عائلة (شلوب Schluep)التي تمتلك المعمل، والعم محمد امين الهادي مع ممثل شركة رومر، (كان اسمه هامر Hammer) وكان تجار الساعات العراقيين ينادونه على سبيل المزاح باسم مستر جاكوج، (المطرقة) باللهجة العراقية. وكان مالكي مصانع الساعات هذه بدورهم يتعاملون مع والدي واعمامي وكل مستوردي الساعات بنفس الروح والمودة والاحترام. ولا يمكن ان انسى من بين هولاء عائلة شركة (تيتوني المنتجة لساعات فلكا) الاب موسس المصنع (فرتس) والابن (برونو) والحفيد (دانيل) الذي يدير المعمل الان، وكيف تعاملوا مع وكيلهم العم صاحب لطيف، والعناية الاخوية التي احاطوه بها بعد ان تعرض عمي لحادث سير موسف اقعده على كرسي متحرك حتى وفاته، وكيف ان صاحب المعمل كان يصر على ان يستقبله عند وصوله ويدفع كرسيه المتحرك بنفسه. ورفض ان يمنح الوكالة الى اي تاجر عراقي اخر رغم ان العم صاحب كان قد توقف عن استيراد اي سلعة منه منذ بداية السبعينيات.
اعتمد والدي ناجي جواد على ابناءه في تجارته، مع حرصه على ان لا تشغلهم التجارة عن اكمال دراستهم. وكان اول من دخل المعترك هذا هو الابن الاكبر شوقي، والذي منحه الوالد وكالة عامة مطلقة وهو في سن الرابع عشرة من عمره، وكان يوكل له ادارة العمل اثناء سفره، الامر الذي جعل بعض الاقرباء ينتقدونه على ذلك الا انه لم يتراجع عنه. وكذلك فعل مع الابناء الاخرين فيما بعد. وعند انتقاله الى محله في ساحة الوثبة عمل معه بالاضافة الى ولده شوقي، بعد المدرسة طبعا، مجموعة من الاشخاص الاوفياء الذين رافقوه الى الى اخر ايام حياتهم. اولهم المرحوم فائق الصفار، والذي ظل يعمل معه حتى وفاته في نهاية التسعينات، كما انه لم ينس احد زملاءه في المدرسة الابتدائية المرحوم كاظم جواد (كنا نكتيه كما كان يناديه ابي منذ صغره، بابو جواد، على الرغم من ابنه البكر كان اسمه علاء). والذي عرف بطرافته وخفة دمه، وكان مميزا لكونه ظل مصرا على اعتمار السدارة العراقية حتى اخر ايامه، وكان ابو جواد من عائلة ميسورة في صغره ثم افقرها الدهر، واوكل اليه والدي مهمة وسيط في بيع او نقل الساعات وخاصة في الاقضية والنواحي النائية، على الرغم من انه لم يكن بارعا في هذه المهمة، واذكر انه عندما افتتح والدي محله الكبير في بنايته في شارع السعدون وبدا المهنئين يتوافدون عليه بهداياهم (صدقا او نفاقا) دخل ابو جواد على مكتب والدي وقال له (ناجي انا ليس لدي ما يمكنني من اشتري لك هدية تليق بك او بالمحل الجديد وليس لدي ما اقدمه لك سوى اخلاصي) وبالفعل فانه بر بوعده وظل معه حتى وفاته. كما كان هناك الوسيط الاخر الاذكى والامهر جعفر (أبو صبيح) ومصلحي الساعات الماهرين الذين عملوا معه (سيد حسين العدناني قبل ان يصبح من مستوردي الادوات الاحتياطية للساعات، ومحمد علي (ابو عزام) الذي اصبح بعد ذلك ضابط احتياط في الجيش وتدرج فيه، وحسين ابو علي الذي ترك المهنة بعد ان ناسب عن طريق الزواج عائلة ثرية ادخلته في تجارتها). عملية مسك الدفاتر والحسابات كانت مهمة الصديق العزيز عزيز مراد، والذي كان يعمل رئيس قسم في شركة التامين الوطنية، وفي المساء يقوم بمتابعة حسابات تجارة الوالد، ثم تولى الشقيق شوقي هذه المهمة بعد ذلك. اما عامل النظافة رشيد، والذي فشلت معه كل محاولات والدي لكي يكمل دراسته الابتدائية فلقد ظل يعمل معنا حتى تم تسفيره في السبعينيات مع عائلته كونه من التبعية الايرانية، على الرغم من انه من ولادة بغداد. كما عمل معنا كموظفي مبيعات في فترات مختلفة اشخاص اذكر منهم علي مراد وهشام ارتين مراد، الذي كان والده استاذنا في اللغة الانكليزية في الثانوية. ولا يفوتني ان اذكر النجار العبقري المرحوم جهاد (ابو صباح) الذي كان هو المسؤول عن تنفيذ ديكورات محلات الوالد والاعمام جميعا. واذكر ان احد اصدقاء الوالد طلب منه ان يعرفه على ابو صباح لكي يعمل له ديكورات بيته الجديد، ولما راءه وراى مظهره الذي لم يكن يعتني به، لم يصدق انه هو نفس الشخص الذي نفذ ديكورات معرض ساعات الوالد الجميلة والانيقة.
في السنوات الاخيرة من ستينيات القرن الماضي وبعد اتساع نطاق تجارته وانتشارها في كل محافظات العراق، قام الوالد بشراء سيارة (فان) خاصة سلمها الى ولده الثاني قيس تولت توزيع الساعات الى الوكلاء. وظلت هذه السيارة التي تحمل اسماء الوكالات التي يتعامل بها الوالد تجوب المحافظات العراقية لفترة طويلة وحتى توقف استيراد الساعات. وكان للوالد وكلاء في كل ارجاء العراق، اصبحوا بعد فترة من التعامل المشترك من اصدقاءه الذين يعتز بهم، اذكر منهم بعض الاسماء وذكرني شقيقي شوقي باسماء اخرين، واعتذر عن نسيان بعض الاسماء. اهم الوكلاء كانوا السادة وعد الله شريف في الموصل، واسماعيل عبد اللة في السليمانية وعبد المجيد في كركوك، وفي البصرة كان له عددا من الوكلاء اولهم كان نات (الهندي الاصل) ومعه العم الطيب هاشم السريح وزكي زيتو وعبد الدايم، الذي لا زلت اذكر طرافته وخفة دمه رحمهم الله جميعا. وعبد الامير جياد في السماوة وفالح الدبوس في سوق الشيوخ والشريكان سلمان والحسني في العمارة وسعد زنكنه في كربلاء وجان داود في الحيانية والزهيري في بعقوبة وشعبان الكبيسي في الفلوجة، وفي الفلوجة ايضا كان اعمامي يتعاملون مع تاجر اخر اذكر اسمه الاول فقط عبد الحميد الذي كان يستضيفهم في مزرعته الجميلة على نهر دجلة.
وبعد ان تم السماح باستيراد الساعات من قبل التجار مرة ثانية في نهاية ثمانينات القرن الماضي اسس الوالد شركة باسم (شركة ناجي جواد لتجارة الساعات) في شارع السعدون وكان مساهمي الشركة ابناءه. واصبح الاخ الاصغر رعد مديرها المفوض. الا ان ظروف الحصار كبدت الشركة خسائر مادية كبيرة.
من المفارقة المحزنة هي انه بعد كل المكانة التي اكتسبها والدي في تجارة الساعات السويسرية، وزياراته التي كانت بواقع سفرة او سفرتين سنويا الى سويسرا للعمل او الاستجمام لمدة تجاوزت الاربعين عاما، توجها بتاليف كتاب عن تلك البلاد (سويسرا خيمة العالم) من فرط حبه واعجابه بها، رفضت السلطات السويسرية منحه تاشيرة دخول لزيارة جنيف التي عشقها بعد عشقه لبغداد، بعد فرض الحصار على العراق بعد عام 1990. ولم يشفع له كل تاريخه ولا حتى وساطات اصحاب المعامل التي كان يتعامل معها، علما انه كان في صيف عام 1990 وعند اجتياح الكويت وفرض العقوبات يقضي الصيف مع عائلته في جنيف كعادته، وعمل طلبيات لساعات جديدة من الماركات التي يتعامل بها، ودفع مبالغها، الا ان الجهات المشرفة على الحصار اوقفت الطلبيات ومنعت ارسالها الى بغداد. كما رفض احد اصحاب معامل الساعات اعادة المبالغ التي دفعها للطلبيات الجديدة وصادرها على اساس انها تعويضات عن الخسارة التي تكبدتها تجارة الساعات بسبب ما جرى، الامر الذي زاد من المشاكل المالية التي عانت منها الشركة.
بعد حرب 1991 المدمرة لبغداد التي عشقها، وبعد ان شاهد وعاش عملية هذا التدمير، (عندما تم تدمير الجسر المعلق مثلا والذي يقع قرب دارنا في شارع ابو نواس ذهب هو وصديقه المرحوم الدكتور مهدي مكية الى الجسر وجلسا على الرصيف وهما يبكيان بكاءا حارا منظر الجسر المعلق المهدم). اقول بعد تلك الحرب المدمرة والتي لم تبق من زجاج نوافذ الدار الا القليل، اصيب بكابة نفسية عالية قرر اثرها ترك العراق، وانتهى به المطاف في نيوزيلندا. عاش هناك حوالي عشر سنوات، وكتب فيها كتابه الاخير (رحلتي الى جزر نيوزلندا)، ثم عاد لكي يعيش في لندن، التي لم يكن يحبها كثيرا، كي يكون اقرب الى ابناءه واحفاده، ثم وافته المنية هناك في 18 مايس 2009، ودفن فيها.
بسبب الاوضاع والحروب. بعد ان وافت المنية كل الرواد في هذا المجال، هاجر الابناء والاحفاد، ومن بقي منهم ابتعد عن المهنة ولو ان قسما منهم ظل يمارس عملية تصليح الساعات كهواية. وحتى البنايات التي كانت تحمل اسمائهم قد تم بيعها واختفت اسماء بانيها، مثل بناية ناجي جواد في شارع السعدون، التي ظلت اعلى عمارة في بغداد (عشرة طوابق) في الستينيات حتى تم بناء عمارة مصرف الرافدين في شارع المصارف مقابل البنك المركزي. وهكذا اختفت محلات عائلة الساعاتي من بغداد.
اما الوالد فلقد خلد نفسه عن طريقين. الاول هو تقديمه مجموعة كبيرة من الساعات الجدارية والجيبية واليدوية القديمة والنادرة الى المتحف البغدادي والتي لا تزال تعرض في جناح يحمل اسمه. والثاني عن طريق كتاباته في مجال الادب والرحلات التي ستظل تذكر الناس بذلك البغدادي الاصيل. وفي كتابه بغداد سيرة ومسيرة دَوَّن بعض من تاريخ عائلة الساعاتي في بغداد، وفي كتابه الاخر قصة الوقت ارخ لتاريخ صناعة الساعات في العالم.
رحم الله كل رواد تجارة وتصليح الساعات في العراق الذين شرفوا المهنة بأمانتهم وحسن تعاملهم. وعسى ان يكونوا قدوة لمن ينهج هذا الطريق.
841 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع