كيف كنا وكيف اصبحنا!!؟
كانت بغداد واهلها ومناطقها ألمختلفة ودرابينها ومحلاتها ومقاهيها الجميع يعيشون بتآخي وتلاحم ومحبه وتساند وتضامن ، يعين غنيهم فقيرهم ويعطف كبيرهم على صغيرهم ، ولا يحسد فقيرهم غنيهم ، فالأرزاق على ألله. وكانت لهم قيم ومبادئء أخلاقية قلما نجدها اليوم ، ويتنادون لعونه لكل من يحتاج ألعون بوقفات رائعه وتكافل إجتماعي قل نظيره . وكان للمعلم مكانة أبوية بين طلابه وإحترام فائق من الجميع تلاميذ واهالي ، كما أنّ ألأهل يوصون أبناءهم بمعاملة ألمعلم وكأنه أب لهم ، فكان هذا ألرجل محبوبا مطاعا يؤدي مهامه بإخلاص ووطنية والتزام. وكان اول ما يتعلمه ألتلميذ في اول مرحله و قبل كل شيء حب ألوطن وألإخلاص له والاخلاق الحميده والايمان ..
لم تكن هنالك مناطق (ساخنه واخرى بارده ، او اماكن لهذه القوميه او لتلك او لهذه الطائفه او غيرها ) ، ، ولم نكن نعرف ان كان جارنا شيعيا او سنيّا كنا نعرف ان هذا عربي وذاك كردي او تركماني او مسلم او مسيحي ولكن لم يكن ذلك يدخل في حسابات احد منا ابدا ، كانت مدارسنا مثال الانضباط والصرامه في موضوع الضبط والاخلاق والالتزام ونوعية التدريس حيث نبدأ دوامنا بالوقوف على شكل طوابير ويقوم المعلمون يتفتيش نظافة ألملابس وألأجسام ويكرم ألنظيف ألأنيق ويعاقب غير الملتزم ، ثم نقرأ نشيدا وطنيا حماسيا ، لا دخل لنا في السياسة والسياسيين وكان من يمارسها هم الطلبه الخائبين الكسالى ولم نكن نعرف من رجال السياسه والحكم سوى الملك رحمه الله رمز الدولة ، ، ألملك الشاب البهي الطلعه ألمحبوب من قبل الجميع ألذي كان يقود سيارته في شوارع بغداد بلا حرس ولا حمايات ولاعياط ولا مواكب ولاتعدي على الناس والقانون.
هكذا كان العراق وهكذا كنا نعيش ولكن من سوء حظنا وتلاعب السياسه بنا وتورط البعض من رجالنا
الذين جلبوا له ألخراب وألدمار ، خراب ألأوطان وألأنفس ، وحتى خراب ألوطن الذي يمكن إعماره خربوه و لم يعمروه ، و خراب ألنفوس هذا السلاح الخطير الذي يصعب اصلاح ماينتج عنه بسهوله . بعد ان ملىء البلد بالفاسدين وشرعوا للباطل شرعا ، وسفكوا ألدماء ،واشاعوا ألنهب وأللصوصية.
لقد كنا مقتنعين حاكما ومحكومين فساد السلام وألحب والخير في النفوس . ولم يثري حاكم من سرقات ألمال ألعام أو ألخاص ، وكان للمنصب قيمه ومكانه واحترام ولم يطرا على بال احد ان تصل الامور ان يكون عبعوب امين لبغداد في يوم من الايام ومن الأعاجيب في هذا الزمان ان تصر الحكومه على تطبيق قانون المرور ولكنها لاتسأل عن جريمة قتل او عن سرقه او محاسبة موظف لص ولا تسأله من اين لك هذه ألقصور وألعمارات وألسيارات وألطائرات. لقد إختلط في البلد ألعجيب بالأعجب ، وألغريب بالأغرب ، وعزل فيه ألصحيح ألسليم ، وسوّد فيه ألسقيم ألأجرب، ولله في خلقه شؤون ، وعلينا تحمل ألمصائب وألشجون. وتصيبنا الحسره عندما نتذكر حكامنا في اربعينات وخمسينات القرن الماضي حتى يضيق الصدر وتتالم النفوس ..
لقد كانت طيبة ألحاكم والمحكوم في النصف الاول من القرن الماضي ، وكيف كانوا يحترمون المسؤول ولكن بدون خوف . وهذه القصه الطريفه الحقيقيه تبين مدى العلاقه الانسانيه بين الحاكم والمحكوم ايام الزمن الجميل ,, والتي نقلها الاخ الكاتب طعمه السعدي جزاه الله خيرا .
ذهب نوري ألسعيد (ألذي سماه ألثوريون ظلما طاغية العراق) ، من بيته في ألشاكرية ، قرب مبنى وزارة الدفاع ألحالية في ألمنطقة (ألزرقاء) ، إلى بيت توفيق ألسويدي في ألصالحية (ألكريمات في صوب ألكرخ) مشيا" على ألأقدام ، وهو رئيس وزراء ، أو وزير داخلية او دفاع في وزارات عديدة وبدون حمايه وحرس ، فإستقبله توفيق ألسويدي إستقبالا أخويا ، فقال ألباشا :
أريد أروح ألبيت ألإستربادي بالبلم (ألزورق) وما لكيت بلاّم يعبرني.
فقال توفيق : دنيا ألمغرب يا باشا وكلهم راحوا لأهلهم ، بس هاااا ... تذكّرت ، أكو واحد إسمه دعبول يتأخر ، لأنه يسكر ويستحي يشرب ببيتهم كدام أمه وأبوه ، فيذهب إلى ألبيت متأخرا"، خل نروحله هنا بالمسناية (كتف ألنهر).
ذهب ألشخصان أللذان كانا من أكابر ألقوم إلى ألمسناية ، فوجدا دعبول( ألمعبرجي) جالسا" في زورقه ( يقندل ) ويحلم بعيشة أفضل ، وستر ، وإمرأة أصيلة بنت أصايل تسعده وتربي له أولادا" ، ربما يصبح أحدهم موظفا" مرموقا" ، ومثل كل بنات ذلك ألزمن ألجميل ألمؤدبات تساعد أمه في إمور ألبيت ، وتبر بوالديه ليرتاحا جزاء ما بذلاه في تنشأته وتربيته. قطع سلسلة أفكاره صوت توفيق ألسويدي قائلا":
دعبول ، تگدر تعبرنه ألذاك ألصوب ؟
تفضل أغاتي ، أجاب دعبول .
صعد ألباشوان كلاهما إلى زورق دعبول وجلسا على مقاعده ألمدشمة ، ألمغلفة لجعلها مقاعد مريحة.
أخذ ألباشا يداعب دعبول وهو يجذف ، وكرر مناداته بإسم حجي ، فإلتفت إليه دعبول قائلا" : إنت مدتشوف ألعرگ (ألعرق) گدامي ، عمي هاي ﭽﻟمة (كلمة) حجي ﭽﻟمة ﭽبيرة ، آني مو حجي .
لعد ليش ما عزمتنه ؟ أجاب ألباشا.
عبالي متشربون.
ألباشا لا نشرب بمقدار كشتبان ( أداة تستعملها سيداتنا ألفاضلات قديما" لحماية أناملهن من وخز ألأبر).
فقدم له عرقا" وشرب رشفة" منه ، وأكل باقلاء (مزّة) مع ألبلام. (يا عمي : هاي ولا إرهاب وخراب)
لا حظ ألباشا أنّ عيني دعبول تدمعان كثيرا" ، فقال له :
إشبيهه عيونك ؟
وألله مريض ، ما أدري شبيهه.
فأعطاه ألباشا كارت فيه إسمه ورقم هاتفه (كانت أرقام الهاتف تتكون من ثلاثة أرقام فقط في ذلك ألوقت) ، وقال له : تعال باﭽﺮ وآني أدبر لك علاج.
فرح دعبول ، وسأل ألباشا: إنت دكتور ؟ وين عيادتك ؟
لا آني نوري ألسعيد ، أجاب ألباشا .
إنتفض دعبول وقال : (إبن أل .......... ) شربتلك مصة صرت نوري سعيد ، لو شربتلك ربعية ﭽان صرت الملك !
لم يغضب ألباشا ، حلما" ، وقال له تعال وإنت تعرف.
أوصل دعبول ألباشا وتوفيق إلى شريعة ألرصافة ألمقابلة للكريمات ، وبات ليلته مفكرا" ومسائلا" نفسه : كيف شتمت ألباشا ولم يحبسني ؟
نهض في أليوم التالي باكرا" و لبس ملابسه ألخاصة بالمناسبات ألمكونة من ( ألدشداشة وألصاية وأﻟﭽاكيت وأﻟﭽراوية ، وحذاء وجواريب ) لا تلبس إلا بالمناسبات ، وذهب إلى ألقشلة (دار ألحكومة) ، وأخبر ألشرطي أنه جاء لمقابلة ألباشا !! فأجرى ألباشا أللازم من إتصالات وأرسله إلى طبيب في (ألخستخانة ، مكونة من كلمتي هاستا هانه ألتركيتين وتعنيان مركز المرضى ) وقال له مداعبا" قبل أن يخرج :
ها هسة صدكت آني نوري ألسعيد ؟
أعتذر منّك باشا ، آني جنت سكران .
هكذا كنا ، أمِن ألحاكم وألمحكوم ، وهكذا أصبحنا ، خاف ألظالم وقسى المظلوم ، وملأ بغداد شياطين متعطشة للدماء والأشلاء ، وكلما ساءت اخلاق ألحكام (منذ بداية ألإنقلابات) ساءت اخلاق الناس وقلّت قيمة حياة ألبشر ، حتى صارت أبخس من ألتراب ، فالناس على دين ملوكهم .
وا حسرتاه على أيام ألقيم الجميلة ، وسمو ألأخلاق والشهامة، والغيد أللاتي يتمخترن في شوارعنا وجامعاتنا و يجعلن من شوارع بغداد وحياتنا عطرة معطرة ، بهيجة بهية . وليس لدينا ألآن إلّا جواب لماذا جنيتم على العراق ايها السياسيين .... فهل هنالك أمل ؟
والى لقاء آخر.........
عبد الكريم الحسيني
ملاحظه :كان لقب الباشا يمنح لمن استحق وحمل رتية لواء ( امير لواء ) في الجيش وهي كلمه تركيه تعني كبير القوم ورئيسهم .. واليوم رتبة اللواء تمنح بالكوشر والحمد لله ....
الگاردينيا: المادة اعلاه ارسلها المرحوم عبدالكريم الحسيني قبل وفاته بشهر..الف رحمة على روحك ايها الكاتب البغدادي الأصيل..
1127 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع