جديد الأستاذ بدري نوئيل يوسف / زمن الرجال - عبد الكريم إِلياس علكة

         

       زمن الرجال- عبد الكريم إِلياس علكة

                المؤلف: بدري نوئيل يوسف

                  موضوع: رواية تاريخية

                المقدمة: عبدالكريم شيخاني

          شخصية تأريخية ینبغي ألا تهمل

   

المقدمة

طوبی لمن یقف التأریخ لهم إجلالا واضعاً ید التقدیر والتجبيل علی صدرە فاسحا لهم الطریق داعیا إیاهم للولوج الی رحابە من أوسع أبوابە. ولایشترط أن یکون هؤلاء من ذوي الظهیر أو القوة مدعومین بقوة السلاح، کما أن هذا التقدیر الذي یحظون بە لایرتبط بصلة بالدین والمذهب بل یرتبط بالعدید من أواصر غیر القابلة للقطع من التربیة العائلیة الحسنة وأخلاق وسجایا الشخص نفسە. ان التمایز الدیني و المذهبي لایشکل بأی شکل من الأشکال عائقا في أن يتحلی ذلك الشخص أیا کان دینە أو مذهبە أو أثنیتە أو جنسە في أن تکون ممارساتە مع الأخرین إنسانیا وحبا للأنسان. وعلی سبیل المثال لا الحصر، فهذا هو یهودي بغدادي، بعد اضطهادە و إجبارە علی الرحیل و ترك وطنە، لم یتوجە الی إسرائیل لیعیش بین ظهراني بني دينە بل توجە الی لندن ونصب هناك مطبعة وبدلا من أن یفرغ حقدە علی الأسلام و المسلمین، کانت باکورة أعمالە طبع القران الکریم وتوزیعە بعد الطبع علی المسلمین مجانا، بالأضافة الی ذلك کان یرسل مبالغ محترمة الی العراق خلال وطأة الغلاء الذي کان ملقیا بظلە علی البلد لتوزيعها علی الفقراء والمعوزین دون تمیيز أو تفريق. و کان شرطە الوحید هو ألا یعلم أحد بمصدر هذە المساعدات الأنسانیة.

و کریم علکة، رجلنا الکریم هو في هذا المضمار يحتل الرکب القیادي الذي لايضاهی. لم یکن هذا الرجل ذا عشیرة يساندە أبناؤها ويدعمونە و يقوموا برفع مکانتە ونشر صيتە وشهرتە في البلاد، کما لم يکن يملك حملة سلاح و أناس من ذوي السلطة والجاە حتی يظهروە علی مستوی رفیع، بل کان شخصا اعتیادیا ذا ضمیر حي محب للأنسانیة وعمل الخیر دون أن يحسب لمن يتعاطی معهم حساب الدین والقومیة، لأن الشهامة والرجولة لاتشتریان بالمال ولايمکن نیلهما بالسلطة الحکومیة ولا بقوة المال، بل ينبغی أن يکون حب عمل الخیر والأنسانیة والشهامة متجذرا في أعماق المرء وجوهرە فیقوم هو بصقلة والأستزادة بە وتنمیتە. وکما قلت إن لم يکن هذا الجوهرکامنا في الأنسان، فأن ذلک لايمکن نيلە عن طریق السلطة والمال وحتی عن طریق الأباء والأجداد الصالحین کما يقول الشاعر الکوردی المعروف (محوي): ان فضيلة الأصل والنسب لاتجعل من المرء فاضلا لأن الشخص الأمرد لا تفیدە لحیة أبائه أو أجدادە. کان من نسل طاهر وأصیل و تربی وترعرع في بیئة عائلیة نقیة وأوصله والد إنساني النزعة الی الشارع والطریق القویم المشبع بروح الأنسانیة والنزوع الی حب اللە وعبادتە، وأضاف الیە نجله اکثر من ذلك، اکثر مما ترکە لە والده.

ولأجل ألا نصبح عرضة للملائم من قبل هذا أو ذاك ولا نتهم بکیل المدیح و الثناء جزافاً فلنلق نظرة الی (ألیاس پولص ابراهیم) والد کريم علکة، أو ئەلەکە، کان يسکن قریة (هرموتە) المسيحیة التابعة لقضاء کۆیە. يطلق اسم (دیان) علی المسیحین في کویە وعدد من المناطق الأخری في محافظة أربیل. وعلی سبیل المثال ثمة عشیرة يطلق علیها (بندیان) في بعض مناطق سهل أربیل. و(بندیان) يعني ذوی الأصول المسیحیة. و قد علمت من بعض أفراد هذە العشیرة أن جدهم الکبیر يعود أصلە الی قریة (هرموتە) وکان اسمە (يلدا) وقد رحل لسبب من الأسباب تارکا قریتە واتجە الی سهل أربیل وأعتنق هناك الدین الأسلامي وأطلق علی نفسە أسم (ئاودەل) وتزوج وتکاثر أبناؤە وأحفادە وشکلوا عشیرة (بندیان).

کان (ألیاس پولص) شأنە شأن المسیحیین الأخرین من قریة (هرموتە) التی تبعد عن مدینة کویە بنصف ساعة أو أکثر قلیلا. وکان سکنة القریة کلهم مسیحیین عدا بعض العوائل المسلمة. وکان المسيحيون يمتهنون عددا من المهن کالزراعة، وغزل شعر الماعز بعد القيام بغسله وتمشيطه وصنع بعض السلع والحاجیات التي يحتاجها المزارعون، کما أن عددا منهم يمتهنون مهنا أخری. وکان (ألیاس پولص) یمتهن التجارة بصدق وإخلاص ففتح اللە لە باب الرزق وجمع ثروة لابأس بها، ونتیجة لذلك تشعبت نشاطاتە وامتدت علاقاتە التجاریة الی المدن الکبیرة مثل بغداد و الموصل اللتین کانتا تحت نیر الحکم (العثماني) الباسط نفوذە علی العراق ضمن کل البلدان العربیة الأخری. کما وصلت علاقاتە التجاریة الی مدن شرق کوردستان في ایران مثل (سەردەشت، سابلاغ، سنندج و تبریز).

و بعد ان توسعت دائرة أعمالە فکر في الرحیل الی احدی المدن الکبیرة ذات النفوذ الواسع، لأن تلك المدن التی کانت أکبر من مدینة کویە، تشکل البیئة الأمثل لتوسع أنشطتە التجاریة التی یصبو الی توسیع مداراتها وتنمیتها. في تلك الفترة کانت الولایات الثلاث(الموصل، بغداد والبصرة) تحت نفوذ الحکم العثماني وکذلك السلیمانیة بعد إنهیار إمارة بابان تحت وطأة تناحر الأطماع في الحکم بین الأبن وأبیە، أو بین الأخ وأخیە. وکان هو حائراً علی مفترق طریقین، الذهاب الی السلیمانیة أم الموصل، الموصل التی کان عدد سکانها المسیحیین أکثر من سکان مدینة السلیمانیة وهم علی دینە، ولکنهم یختلفون عنە لغة وقومیة وعادات.

أو الرحیل والاستقرار في السلیمانیة ذات الأکثریة المسلمة ولکن سکانها هم من قومیتە ولغتە ویماثلونە في عاداتهم وممارساتهم اليومیة، وکان یری بأنە یرتاح أکثر وهو بین ظهرانی بني قومە وإن اختلفوا معە في دینە وانە لم یلحظ أی تمایز دیني في مدینة کویسنجق وکان یقابل بالترحاب من قبل المسلمین قبل المسیحیین. لذلك اتخذ القرار النهائي بالتوجە نحو السلیمانیة قرر أن یستشیر في ذلك (مریم) شریکة حیاتە، ولکن یبدو أنها لم تستسغ هذا الأمر في البدایة لأنها تبتعد الی حد ما من أهلها وأقاربها وأبدت امتعاضها متباکیة في البدایة، ولکنە استطاع إقناعها.

کانت هذە الخطوة هامة، لأنە کان یحسب لأراء زوجتە وجبر خاطرها ألف حساب. واثرذلك أخذ یعد العدە للتهيؤ للسفر الذی أزمع القیام بە. وبعد أن أتم جمع ما کانوا یحتاجون الیە، قام بزیارة أقاربە ومعارفە للأستئذان بالسفر ووداعهم، کما قام بزیارة القس وطلب منە مبارکتە لە بالسفر والتمنی لە بالتوفیق. کما زار أضرحة القدیسین، ومن ضمنهم ضريح (مربین قدیشة) المقدس لدی المسیحیین والمسلمین علی حد سواء والذي يطلق علیە المسلمون شیخ محمدی دیری وقبل الرحیل جلس (ألیاس) مرة أخری مع قرینتە التی یکن لە کل الحب للأستشارة و قال لها: ” إني أعرف أن الأبتعاد عن الأهل ومسقط الرأس صعب، ولکن یجب أن نعرف أن مدیات التقدم في التعامل التجاری هنا، ضیق الآفاق ومحدود وأنني لا أستطیع الوصول الی ما أصبو الیە في توسع تجاری، لذا لا أرید البقاء هنا والدوران في هذا الأفق الضیق. ثم أنني لا أری فرقا کبیرا بین مدینة کویە والسلیمانیة، ثم أری أن اللە سیفتح علینا باب رزق أوفر وأوسع.

حین کنت أکتب هذە المقدمة ونیة (ألیاس) في التوجە نحو السلیمانیة لیتخذها قاعدة لمیدان محلە التجاري، تذکرت قصة کتبها الکاتب التقدمي الأذری الأیراني (صمد بهرنگی) عن سمکة صغیرة سوداء تعیش مع أمها في جدول صغیر قلیل المیاە و مدار الحرکة فیە ضیق. وتفکر السمکة في أن ترحل الی مکان أخر أوسع مما هی فیە وأرحب. وحين یعرف الکبار بنوایاها یحاولون ردعها وينصحونها بعدم ترك أمها قائلین لها أن الدنیا هي التي نحن نعیش فیها. ولکنها تصرعلی أنە لابد من وجود عالم أرحب وأوسع من هذا الجدول وأخیرا تنفذ قرارها وتترك الجدول الضیق القلیل الماء وتصادف ساقیة أکبرمن الجدول الذي ترکتە، ثم تصادف نهرا أوفرماء من الساقیة. وبعد البحث والتجوال تصادف نهرا کبیرا واسع الشواطيء تعیش فيە عدد کبیر من الکائنات المائیة وتعقد صداقات مع بعض تلك الکائنات و تتجنب الکائنات التي تحاول إلحاق الأذی بالأخرین.

کان یفکر في الکلف التي یصرفها علی استیراد البضائع من مدينة سنه (سنندج) الی السلیمانیة ومنها الی کۆیە علی ظهر الدواب، یراها باهضة وتتطلب وقتا وجهدا کبیرين وکذلك بالنسبة لتصدیر البضائع من صوف وغزول وعفض وغیرذلك، الی السلیمانیة ومنها الی مدينة سنندج والمدن الحدودیة الأخری، بالأضافة الی جهود کبیرة ووقت طویل. وبعد استكمال واجب الزیارات والوداع من الأهل والأقارب والمعارف، تهیأ للسفر. وکان قد اکتری عددا من البغال التی یتصف أصحابها بالمهارة والخبرة وصدق النوایا، مع الحارس الذي يرافقهم في سفرهم. و کانت الحاجیات الضروریة للبیت مهیأة مع شيء غیر قلیل من البضائع والسلع التجاریة التی یعرف ألیاس بخبرتە أنها ضروریة ویمکن أن تلقی رواجا هناك وفي غیرها من المدن الأیرانیة. وتم تحدید یوم السفر، وتهیأوا للتحرك في صبیحة یوم قبل بزوغ الشمس، حمل ألیاس أحمالە علی ظهر البغال وأرکب السیدة مریم قرینتە فرسا بیضاء ناعمة الخطوات. وکان یدیر نظرە في من حضرمن سکان قریة (هەرموتە) الواقفین بعیون دامعة الذین کانوا یودعون ابنهم البار الکریم الذي طالما أغدق علیهم بکرمە، ورافقوهم الی مسافة طویلة متضرعین الی اللە وعیسی المسیح ومریم العذراء أن یصونوهم ویحموهم ویوصلوهم الی منزلهم الجدید غانمین سالمین. کان حارسهم الشخصی یحمل بندقیة وألیاس تمنطق ببندقیة أیضا لحراسة القافلة والدفاع عنها.

تمنی لهم الأهل والأقارب الذین رافقوهم السلامة والوصول الی مبتغاهم وهم یرسمون علامة الصلیب (بأسم الأب والأبن وروح القدس). یستغرق الوصول من(هرموتە) الی مدینة السلیمانیة حوالي یومین و أن هذە الطرق التی تمر عبر الجبال وعرة والبغال القویة هي التی تستطیع اجتيازها.

سارت القافلة ذلك الیوم الی المساء. ولما وجدوا أن الظلام سیخیم قریبا، أنزلوا الأحمال من علی ظهر الدواب وربطوها ربطا محکما وقدموا لها العلف اللازم. ثم نصب ألیاس خیمة جلبها معە لتأخذ مریم قسطا من الراحة والتی کانت تشکو بعض الألم من ظهرها لأنها لم تکن متعودة علی رکوب الخیول و الدواب، وبعد أن هیأت مریم الطعام الذي کانوا قد جلبوە معهم، وبعد تناول الطعام وارتشاف استکانات من الشاي، رکنت مریم الی الراحة داخل الخیمة و قالت لزوجها أنها تشکو بعض الألم من ظهرها، وطمأنها زوجها الحنون بأن هذا الألم سوف یزول بمجرد وصولهم وسیحاول إحضار من یمکن أن یساعدها ومعالجة هذا الألم الذي ألم بها من جراء تعب الطریق ورکوب الفرس. وبعد أن آوت مریم الی الخیمة وناصت، أخذ ألیاس مع مرافق القافلة وهما ممسکان ببندقیتهما لحراسة القافلة من اللصوص والأشرار الذین قد تسول لهم أنفسهم التحرش بهم وإلحاق الأذی بهم، فضلا عن الحیوانات البریة الضاریة التی تسرح وتمرح في هذە السهول والجبال بحثا عن فريسة أو طريدة وربما تحاول مهاجمة تلك الدواب. لذا کانت عیونهما ساهرة ولم تطبق جفونهم الی أن اقترب انبلاح الفجر وتمیز الخیط الأسود من الخیط الأبیض فأخذا قسطاً قليلا من النوم، وقاما بعد ذلك وشرعوا في تحمیل الدواب بأحمالها و واصلوا السیر الی مدینة السلیمانیة التی وصلوها مساء ذلك الیوم.

وفي مدخل المدینة کان أحدا المختارین مع عدد من التجار الذین تعامل معهم ألیاس في إنتظارهم وجری استقبالهم استقبالا لائقا من قبل هؤلاء وأصدقائهم ومعارفهم، حیث أخذوا البضائع و السلع التجاریة الی (الخان) ونقلوا حاجیاتهم الی المنزل الذي کانوا قد هیأوە لهم. وعملا بآداب الضیافة المعروفة والتی يتصف بها مواطنو المدینة للضیف النازل علیهم، استقبلوهم واستضافوهم تکریما لهم. وقام الجیران بتکریمهم واستضافتهم واستغرق ذلك حوالي أسبوعین وکانت الأستضافة تلك تشمل الوجبات الثلاث و أن الأکلات الکوردیة کانت تتصدر قائمة الأطعمة التي تعد خصیصا للضیف الجدید. وعمت الفرحة الأسر المسیحیة المتواجدة في المدینة بمناسبة قدوم (ألیاس) الی مدینتهم واستقرارە هو وعائلتە فیها، وکانت شهرتە قد انتشرت وذاعت في السلیمانیة حتی قبل قدومە الیها. في تلك الفترة کانت مریم زوجة ألیاس تعانی من آلام الظهر، وحین علمت زوجة المختار بذلك، استدعت إحدی النساء الخبیرات بأمراض النساء، فاستخدمت تلك المرأة (الحجامة) وبعض الأدویة النباتیة، وخلال أسبوعین زالت تلك الآلام التی کانت تشکو منها کلیا. وسرعان مابدأ ألیاس بأنشطتە التجاریة وانخرط في العمل و اختلط بجدارة في مجتمع المدینة بشکل یدعوا الی الأعجاب نال حظوة و اعتبارا منقطعي النظیر، وأصبح صدیقا لکبار رجال المدینة ومن بینهم عالم المدینة الديني الكبير وأخذ مع هؤلاء يقوم بمعالجة المشاكل التي قد تحدث أحياناً وتعكر صفو المدينة. وإذا ما حدثت مشاکل بین التجار، سرعآن ما یقومون بأیجاد حلول ناجحة لها وإعادة الصفاء وحسن التعامل بین أصحاب تلك المشاکل. استقر ألیاس في الخان الذي استأجر فیە دکانا وجعل منە محلا واسعا یؤمە التجار نظرا لحسن تعاملە وبشاشة وجهە، فتوسعت أعمالە التجاریة یوما بعد یوم وأخذ في استیراد البضائع والأقمشة والسلع التي تلقی رواجا في السوق وکان یتمتع بحس تجاري یجعلە موفقا في إختیار مایستورد وکذلك ماسيقوم بتصديره الی خارج المدینة وخاصة المدن الأیرانیة التی سرعان ما عقد صداقات مع کبار التجار في المدن التي کان یزورها لمزاولة تجارتە. الآن أصبحت المدن الکوردستانیة التي کانت البعیدة والتی کان السفر الیها یستدعي الوقت الکثیر والجهد المضني، أصبحت قریبة الی حد کبیر، ولاسیما المدن التجاریة الکبیرة مثل سنندج (سنه) وتعرف علی أحد کبار تجار المدینة المسیحیين (إسمە الشماس یلدا) و عقد معە علاقة متینة وأدی هذا التعارف الی تبادل الزیارات بینهما. وفي أحد أسفارە لاحظ (الشماس یلدا) أن مدینة السلیمانیة تفتقر الی کنیسة، و کانت الکنیسة مقامة في بناء قدیم جعلوا منە مرکزا لعبادة اللە. یعود تواجد المسیحیین في مدینة السلیمانیة الی أواسط القرن الثامن عشر مع بناء مدینة السلیمانیة، و کانوا یعیشون في جزء من محلة (گویژە) وکان یطلق علی هذا الجزء من المحلة (گاوران) ولازال هذا الأسم یطلق علی الأحیاء التی یقطنها المسیحیون. و علی هذا الأساس شمر (الشماس یلدا) عن ساعد الجد بالتعاون مع عدد من الأخیار فبنوا أول کنیسة رسمیة في عام ١٨٦٢ والتی أصبحت تابعة لأیرشیة (سنە).

کان ألیاس یمدد العون والمساعدة الی العوائل المسلمة والمسیحیة دون تفریق وتمییز. وثمة أحداث کثیرة تؤید ما ذهبنا الیە وعرضناها علی مسامعکم. وهذا واحد من تلك الأحداث.

کان أحد التجار الیهود متجاورا مع تاجر مسلم وکان کلاهما یبیعان الصابون. وأخذ التاجر الیهودي ببیع الصابون بسعر أقل مما یبیعە صاحبە التاجر المسلم، لذا کان الأقبال علی دکانە شدیدا دون أن یذهب أحد الی التاجر المسلم، وهذا ما أغاض ذلك التاجر فهاجم دکان الیهودي و بدأ بالتدمیر والتحطیم وعمل في الدکان فسادا ولم یکن للیهودي بد سوی رفع شکوی ضد زمیلە المسلم لدی السلطات العثمانیة التی کانت السلیمانیة خاضعة لحکمها فقامت الشرطة المعروفة ب(الضیطیة) باستقدام التاجر المعتدي. طالب التاجر الیهودی بتعویض عادل جراء ما لحقە من أضرار والأهانة التي ألحقها ذلك التاجر بە. ولما أبی التاجر تقدیم أی تعویض، أمر مسؤول المرکز بسجنە. ورغم أن المختار وعدد من وجهاء وأخیار المدینة قد تدخلوا لأقناع الیهودي بالتنازل عن دعواە، لكن جمیع محاولاتهم باءت بالفشل إزاء تعنت الیهودي و مطالبتە بالتعویض. وحاول عدد من الأشخاص جمع المبلغ الذي طالب بە الیهودي، غیرأنهم لم یتسیر لهم ذلك، وظل التاجر المسلم قابعاً في السجن.

و کان ألیاس في تلك الآونة مسافرا الی مدینة سنندج (سنە). مرت عدة أیام علی هذە الحادثة و کانت السیدة مریم قد علمت بذلك، ولکنها لم تستطع فعل شیء وظلت تترقب عودة زوجها ألیاس. وبعد غیابە عدة أیام، عاد في مساء أحد الأیام وقبل أن یرتاح من وعثاء السفر ویأخذ قسطا من الراحة، أخبرتە زوجتە بالحادث، فقام على الفور وخرج من البیت طالبا بیت التاجر الیهودي وسلمە مبلغ التعویض وأخذە الی المسؤول الحکومي حیث تنازل التاجر الیهودي عن دعواە وأطلق سراح التاجر المسلم من السجن دون أن یدري کیف تم إخراجە من السجن.

مرت الأیام والشهور والسنوات، ومنح اللە ألیاس أربعة أبناء وبنتین، وهذە أسماؤهم حسب تأریخ تولدهم (بربارە، عبدالکریم، رزوقي، خانم، عبدالرحیم و قرنسیس).

أطلق علی ألیاس إسم (علکة). وهذا الأسم هو اسم تصغیر مثل کثیر من الأسماء الأخری حیث یتحول أحمد الی (ئەحە) و محمد الی (حەمە) واسماعیل الی (سمە). وعلی هذا المنوال تحول اسم ألیاس إلی (ألکة) ثم الی علکة، وأصبح هذا الأسم فیما بعد الی الأسم العائلي لهم وورثە من بعدە أبناؤه وأحفادە وأصبح (علكة) لقبهم العائلي یعرفون بە.

ترعرع أبناء ألیاس في أسرة غنیة ذات إمکانات مالیة وعقیدة خالصة في حب اللە ونشأوا علی حب الخیر وتقدیم العون لمن هم في حاجة الیە، وأکملوا الدراسة والتعلم بأفضل الطرق والأسالیب المتاحة في ذلك الحین وتعلموا فنون التجارة وأسرارها وأسالیبها الخالیة من الخداع و التضلیل، وتبوأ (عبدالکریم) مرکز الصدارة في هذا الشأن وکان یصاحب والدە في الذهاب الی مدینة (سنة) في شرق کوردستان والمدن الأخری خارج مدینة السلیمانیة. أوکل ألیاس التاجر الکبیر والمشهور في السلیمانیة والأمین الصادق کثیرا من الأمور التجاریة الی إبنە عبدالکریم وأناطها بە لأستکمال سیرة والدە وقد أثبت بكل قدرة وجدارة بأنە خیر خلف لخیر سلف. أخذ عبدالکریم کل الأمور التي أوکلها إلیە والدە في الوقت الذي کانت البلاد تحیا فترة عصیبة والتي انتزعت من العثمانیین وسیطر البریطانیون علی أمور البلاد. مرت عدة سنوات علی مباشرة هذا التاجر البالغ حدیثا وأصبح یسافر وحدە الی المدن التي کان والدە یزورها لغرض التجارة، لأنە كان قد نال حظا وافرا في أمور التعامل التجاري وإختیار البضائع و السلع التي ربما تلقی رواجا أکثر. وفي إحدی تلك الأسفار شاهد إحدی الفتیات الحسناوات في مدینة (سنه)، فاخترقت سهام نظراتها قلب عبدالکریم. ولم تکن تلك الفتاة سوی بنت الشماس یلدا صدیق والدە. وفي مدینة (سنە) بعث ببرقیة الی والدە یخبرە فیها بأنە وجد ضالة المنشودة المتمثلة في (فریدة) ابنة الشماس یلدا وأنە ینوی الأقتران بها. وبعد إتمام مراسیم واجراءات الخطبة واقتراب موعد زفافها، وصلت فریدة وأهلها وعدد من أقاربها وصدیقاتها الی السلیمانیـة ونزلت عائلة الشماس یلدا ضیوفا علی مختار محلة گویژە. وفي لیلة ما قبل الزفاف بدأت لیلة الحنة التي تسبق الزفاف، حیث ذهبت بنات قریبة من بیت ألیاس علکة وعدد من البنات المدعوات الی بیت المختار الذي تحل فیە فریدة، سیرا علی الأقدام وهن یرددن الأغاني الکلدانیة والکوردیة، ثم قدمت عائلة ألیاس حاملات الحلي والمخشلات الذهبیة المتنوعة مصنوعة من الآستانة وقدموها الی فریدة. وفي الیوم التالي الذي هو موعد الزفاف ونقل العروس الی بیت العریس تم نحر عدد من الخراف وقامت الطاهیات بأعداد أنواع و أشکال مختلفة من الأطعمة لتقدم الی المدعوین و المدعوات. وکانت حفلة الزفاف تلك بحق حفلة کبیرة کحفلة أبناء الملوك وتبقی ذکراها عالقة بأذهان الناس الذین شارکوا فیها. وجرت مراسیم الحفلة حسب الطقوس الکلدانیة ویقال أن الراهب (بطرس أوراها) هو الذي قام بعقد القران في الوقت ارتفع صوت المزمار وقرع الطبول الی عنان السماء.

و حین جلبوا العروس وهي تتهادی متخایلة، واقتربت من البیت، ألقی عبدالرحیم أخو العریس عبدالکریم، جرة ملیئة بالنقود المعدنیة أمام أقدام العروس فتناثرت النقود وهرع الأطفال لألتقاط قطع النقود المتناثرة، واستمرت الحفلة الی منتصف اللیل، وشاهد ألیاس بأم عینیە تزف العروسة الی أبنە الکبیر. ولکن مع مزید من الأسف، أن کل حي یجب أن یرتشف كأس المنايا، وافت المنیة ألیاس بعد عمر حافل بالخیر والأنسانیة وأقیم مجلس عزاء لائق شارك فیە کبار رجال المدینة و وری جثمانە الثری وحضر مراسیم الدفن وتقدیم التعازي عدد کبیر من المواطنین حتی أن الشیخ محمود الحفید حضر مراسیم العزاء و المواساة وکان هذا أول لقاء لعبدالکریم بالشیخ محمود الحفید.

أنجب عبدالکریم الذي اشتهر فیما بعد ب (کریمي علکة) خمسة أطفال من زوجتە فریدة وهم (شاکر، ملك، بهیە، زکیە، نصوري). کان عبدالکریم في الواقع خیر خلف لخیر سلف ونال في وقت قلیل ثقة الأسر البابانیة وشیوخ البرزنجە والتجار الذین يشار الیهم بالبنان.

کان کریم علکة طلیق اللسان ویجید اللغات العربیة والفارسیة والترکیة والأنگلیزیة والکلدانية الی جانب لغتە الکوردیة. کان رجلا یتصف بالأخلاق الرفیعة یهاب اللە وحباە ملکة قوة إمتناع الآخرین و هذا ما جعلە یصبح وجها مشرقا بین وجهاء ورجالات المدینة.

وتطویرا لأعمالە التجاریة التي أخذت تتشعب کثیرا، أرسل شقیقە رزوقی الی (آلتون کوپری = پردی) لشراء الصوف وغسلە وتجفیفە وإرسالە الی بغداد عن طریق (الأکلاك). یتکون (الکلك) من مجموعة من القرب المنفوخة المشدودة شدا محکما الی بعضهما البعض ویفرش علیها القصب بشکل تکون أرضیة مسطحة وتشد عیدان القصب بعضها ببعض حتی لاتنزلق و توضع علیە الأحمال المزمع إرسالها الی بغداد عن طریق الزاب الصغیر ومنە الی نهر دجلة وأن هذا النوع من النقل لایکلف مصاریف کثیرة. وفي بغداد یتلقی شقیقە الآخر فرنسیس تلك السلع والبضائع وینقلها الی خان کبیر استأجرە لأعمالە التجاریة. ویرسل مقابل ذلك السکر(السکر القند) والشخاط وغیرهما من البضائع التي تحتاجها مدینة السلیمانیة و ماجاورها من المدن الأخری. کان کریم علکة أول من أوصل السکر(القند) الی السلیمانیة عن طریق القوافل التي تمرعبر کفري وقرەداغ. غیر أن عبدالرحیم ظل في السليمانیة لیکون المساعد الأمثل لشقیقە في ادارة الأعمال التجاریة المتشعبة.

و کما قلنا آنفا، أنجب عبدالکریم خمسة أولاد من زوجتە فریدة. تزوجت أختە (خانم) ب(فتوحی عبداالأحد) وأنجبت منە(مینا، صوفیا، نازلي، جیران، نوري و قسطنطین) واقترنت أختە الکبری (بربارە) ب (عیسی صراف) وأنجبت منە (إسحاق واللە ویردي). وأنجب عبدالرحیم من زوجتە الأولی (أنجیلا) بنتین هما (إيڤیت وبرنادیت). وبعد وفاة زوجتە تلك تزوج (ریجینا تیسی) أنجب منها (مادلین، ماري، سیسیل، ڤیکتور، لطیف، میخائیل و عزیزی). وخطب فرنسیس (نجمە هیندی) وتزوجها فأنجب منها(مجید، جمیلة ونعومي). هؤلاء هم کل من أسرة ألیاس پطرس المعروف (بألیاس علکة).

حین اندلعت الحرب العالمیة الأولی وأصبح العثمانیون طرفا في هذە الحرب بجانب ألمانیا، بدأ النفیرالعام في المناطق الخاضعة للسیطرة العثمانیة وتم إقتیاد الشبان علی شکل مجموعات الی میادین القتال کوقود لتلك الحرب الشرسة الطاحنة التي کانت لاتبقي ولاتذر وتحصد مواطني الدولة العثمانیة التي لم تدخل الرحمة في قلوب السلاطین والولاة وکل من بیدە الحل والربط. وبالأضافة الی ذلك استولی الجیش العثماني علی کل ما وصلت یدە الیها من المؤن والذخائر ونهب المواشي والحیوانات الأخری ویرسلها الی جبهات القتال غیر مکترث بما یقوم به من تجویع و تقتیل. وإضافة الی المآسی التي نجمت عن الحرب التي لاتبقي ولاتذر، وشحة المواد الغذائیة والحیوانات والمواشی التي نهبتها السلطات الغاشمة العثمانیة، أمسکت السماء عن الأشفاق بالناس التي ابتلیت بمظالم الحکام و کأنها تنتقم من المظلوم بدلا من الظالم و لم تمطر و توقفت الأمطار بشکل کلي کأنها سنوات القحط التي خیمت علی مصر في العهود الفرعونیة و لم تنتج الأرض محاصیلها وأصبح توقف الأمطار وشحة الأنتاج الزراعي کارثة کبیرة حلت بالناس. ومن جراء ذلك حل الغلاء في عامی ١٩١٦ و ١٩١٧ وخیم القحط بشکل لم یسبق لە مثیل، فکان الناس یموتون جوعا وتسقط أشلاؤهم في الأزقة دون أن یبالي أحد بدفنهم. وکان الناس الجیاع یقتاتون علی قشور الأشجار والأعشاب البریة. نفقت الحیوانات الباقیة جوعا وفطست الكلاب والقطط، فلم یتورع هؤلاء الجیاع من تناول لحوم الحیوانات النافقة وجثت القطط والکلاب جوعا، حتی أن الحیوانات آکلة اللحوم أخذت تأکل الأعشاب والحشائش. في هذە الظروف العصیبة والقحط الذي حل بالبلاد تلقف بعض التجار الجشعین الطامعین هذە الفرصة، وکانوا یبیعون الطحین الی مواطنیهم الجائعین بأثمان باهضة فجمعوا ثروة طائلة و اکتنزوا الذهب والفضة علی حساب الفقراء. صحیح أن هؤلاء الذین ربما زار عدد کبیر منهم بیت اللە الحرام، قد جمعوا ثروة طائلة، غیر أنهم فقدوا أعز شیء لدی المرء وهو کرامتهم و شرفهم اللذین لایعوضان بکل ثروات الدنیا ولکن کریم علکة کان کملائکة الرحمة، کریم علکة المحب للأنسان والأنسانیة اشتری مقادیر کبیرة من المواد الغذائیة و خزنها في مخازنە وعین علی حراستها رجالا أشداء خوفا من الأغارة علیها، فأخذ یوزع الطحین علی الفقراء والمعوزین دون مقابل وبنصف قیمة البیع لمن کانوا قادرین علی الشراء. وفي الوقت ذاتە شرع في تشغیل عدد من الطواحین لطحن الحبوب، القمح والشعیر، ویوزعە علی الفقراء وفتح عددا من المخابز حیث کان الخبز یوزع علی الفقراء وبجانب ذلك، کان قد أمر بطبخ الأکل في قدور کبیرة کل مساء حیث یحضر الفقراء و ذوو الحاجة ویأخذون نصیبهم مما کان یطبخ کل مساء ویأخذونە الی أهلهم وذویهم. بهذا العمل الأنساني أنقذ کریم علکة آلاف بني البشر من الموت جوعا دون أخذ الدین والقومیة والعرق بنظر الأعتبار، بل یعتبرهم أناسا یحتاجون الی العون والمساعدة وفي الوقت الذي کان کریم علکة یؤدي واجبە الأنساني في السلیمانیة، کان یعیش في السلیمانیة عدد کبیر من التجار الذین ربما یفوقونە ثروة وثراء، ولکن قلوبهم کانت فقیرة ولم تعرف الرحمة الی قلوبهم سبیلا. في هذە الظروف القاسیة التي أناخت بکلكلها علی صدور الناس وکانوا یتساقطون کأوراق الأشجار في میادین القتال، وفي المدن التي کان الجوع يفتك بهم، أغاث ثلاثة أشخاص الجیاع، أحدهم کریم علکة المسیحي ذو الأصل الکویسنجاقی في السلیمانیة وسید أحمد خانقا في کرکوک حماغا في مدینة کویە إذ کانوا قد فتحوا الأبواب علی مصراعیها لتأمین الأکل للجیاع وبذلك أنقذوا عددا کبیرا من بنی البشر من الموت جوعا، وإن الله لایضیع أجر من أحسن عملا. ان الشعور الأنسانی والإنسانیة والعمل علی إحقاق الحق والسعي من أجل تثبیتە شیء مزروع في القلوب ويثمر نتیجة التربیة الصحیحة وأنە لن یتوفر بالمال والجاە والثروة الکبیرة ولا السلطة، کما لا یتأتی عن طریق جمع الجیوش والعساکر والأسلحة المتنوعة، ولا یمکن نیلە عن طریق التعبد الکاذب والمظاهر الدینیة الخداعة، وقد شاهدنا وسمعنا وقرأنا عن حکام کانوا یتمتعون بالسلطة الدنیویة ویمتلکون الثروات الطائلة محاطین بکثیر من الخدم والحشم، غیر أنهم عجزوا عن التمتع بحب الناس وجذب قلوبهم إلیهم وأن ذکراهم ذابت کما تذوب ثلوج الربیع بمجرد دفنهم وإهالة التراب علیهم، وبعد ذلك خیم النسیان علیهم ولم یعودوا یذکرهم أحد، إذا ما ذکر أحدهم تصب علیهم وعلی قبورهم اللعنات. وکذلك الحال بالنسبة للمتسربلین بجلباب الدین کذبا وریاء. ان التدین والتعبد وحب اللە یجب أن یبعد المرء عن کل ما یلحق الضرر بالآخرین. إن إقامة الصلاة لذر الرماد في العیون، والدعوة الی اللە أکبر، وقتل الناس بالمناداة بأللە أکبر، إنما هو دجل وکذب وریاء والأمثلة علی ذلك کثیرة وفي مقدمة هؤلاء حرکة داعش الأرهابي الذي ألحق أشد الأذی والأضرار بالمسلمین وغیر المسلمین. کان کریم علکە یملك کهریزا لأرواء أراضیە الزراعیة، غیر أنە لما سمع بأن بعض المساجد تشکو من قلة الماء، أمربحفر جداول لأيصال الماء الی تلك المساجد، وهذە المساجد هی: (مسجد شیخ أمین، تکیە روتە، همزا أغا، و شیخ محمد البرزنجی). ومن جانب أخر أمر بأن یدفن أموات من یشکون الفقر، علی حسابە دون إلقاء أي جهد علی ذوي المیت وأهلە. کما أمن الملابس الشتویة لکل الطلبة الفقراء بالأضافة الی تأمین مصاریف الدراسة للطلبة بالخارج الذین یدرسون فأصبحوا فیما بعد أطباء و محامین وظهر بینهم شعراء مشهورون يشار إلیهم بالبنان. أنجز کریم علکة کثیرا من الأعمال الأنسانیة التی تذکر الی أبد الآبدین. والی جانب کل ما ذکرنا، کان وطنیا طاهرا نقیا. وعلی سبیل المثال وفي تلك الظروف الصعبة التی اختلط فیها الحابل بالنابل وکانت الفوضی ضاربة أطنابها في کل أرجاء البلاد، زار القنصل الروسي مدینة السلیمانیة وأراد الأجتماع بوجهاء المدینة والرجال المشهورین، فذکروا لە اسم کریم علکه، فأرسل من یدعوە لزیارة القنصل، غیر أنە أبی ورفض الذهاب الیە. فأراد القنصل أن یذهب هو الیە وطلب منه تحدید موعد لزیارتە ورفض ذلك أیضا قائلا إن مطلبە لیس عندي، وإذا کان یرید التعرف علی الأوضاع، علیە أن یزور المتصرف لأنە هو من یمثل الحکومة. و لما تأسست حکومة الشیخ محمود الحفید عین کریم علکە وزیرا للمالیة لأنە کان متیقنا من أن هذا الرجل الکریم یصرف من أموالە الخاصة ولا يمد يده الی أی فلس من أموال الحکومة. ولما ساءت الأوضاع في السلیمانیة وحدثت القطیعة بین الشیخ محمود والبریطانیین، وقصفت المدینة من قبل الأنگلیز، قام الجیش البریطانی بنهب أموال وبیت الشیخ محمود ومؤیدیە، ولما علم کریم علکە بذلك قام بشراء الأموال المنهوبة من الجنود البریطانیین، ولما عادوا أعاد إلیهم کل الأموال والبضائع المنهوبة دون مقابل.

و لما ساءت الأوضاع أکثر، وجد کریم علکة أن بقاءە في المدینة لاجدوی منە، رحل هو وعائلتە الی کرکوک ومنها الی بغداد واتخذها مکرها مستقرا لە. وبعد عمر طویل حافل بأعمال الخیر شمل شرائح کثیرة من أبناء المجتمع رحل عنا هذا الأنسان العظیم یوم٢٥/١/١٩٤٨ وترك وراءە إرثاً کبیرا من الحسنات و ذکری طیبة ستبقی خالدة في أذهان الخیرین من الناس. تم دفنە في المقبرة الکاثولیکلیة في بغداد.

ألف تحیة وسلام علی روحە الطاهرة ونتضرع الی اللە تعالی أن یجعل من خیراتە وما قدمە من عون ومساعدة الی المحتاجین درجات عبور الی الفردوس الأعلی.

و تکریما لهذا الرجل الفاضل، أطلقت البلدیة اسمە علی الشارع الذي یمر أمام منزلە کما کرمت المدیریة العامة للتربیة إحدی المدارس بأطلاق اسمە علیها وتنوي مدیریة الآثار اتخاذ دارە متحفا وبأسم کریم علکە. وهنا یجدر بي أن أقول أن کون المرء إنسانا بکل ما تحملە هذە الکلمة من معنی أمر صعب لایستطیع کل شخص أن یحمل هذە الصفة مالم یتجرد من الکراهیة والأنانیة ویسلك سلوك تقدیم الخیر للآخرین دون مقابل، ولکن التجرد من القیم الأنسانیة یکون من أعمال وممارسات المتصفین بالوحشیة والمفتقرین الی الأدب والأخلاق.

و قبل أن أنهي هذە الأسطر، أود أن أشیر الی أنە، کان یعیش في السلیمانیة تجار کثیرون وربما زار عدد منهم بیت اللە والکعبة المشرفة وفاقوا کریم علکة ثروة ومالا، ولکن لایأتي ذکرهم علی لسان أحد ولا تعرف حتی أسماؤهم، ولکن کریم علکة ستبقی ذکراە خالدة الی أبد الآبدین.

الخاتمة

کان من المفروض أن أکتب مقدمة لهذا البحث. غیر أنني لم أفعل ذلك، بل بدأت بکتابة الموضوع دون مقدمة، لأن الموضوع بحد ذاتە استهواني لکون کریم علکة یعود أصلە الی مدینتي أي کویە وأن الأخ العزیز تحسین قادر بەرزنجی الذي أُکنُ لە کل احترام وتقدیر طلب مني أن أضطلع بکتابة هذا الموضوع. وکما أسلفت، قیامي بهذا العمل کان مبعث فخر واعتزاز لي لأن هذا الرجل الشهم استطاع بطیب أعمالە وحسن أخلاقە وشهامتە أن ینفرد بأشرف موقع وأبرزە ویسجل أروع الأعمال في التأریخ والذي لم یستطع أحد من ذوي السلطة بمالە وجاهە وأسلحتە أن يضاهيه، ثم أن من اکتب عنە هو من مدینتی (کویە) التي أنجبت الکثیر من العظماء والشعراء الأفذاذ والعلماء من شتی المیادین الذین یحظون بأحترام الناس علی مختلف مشاربهم وغایاتهم، وکریم علکة هو من أحد أبناء مدینتي التي أنجبت العظماء في شتی المیادین مثل حاجي قادري کویي، وملا محمد جلیزادە المعروف الملا الکبیر، وابنە مسعود محمد وغیرهم.

و قبل أن أنهي هذە الأسطر التی کرستها لرجل عظیم شهدتە مدینة السلیمانیة، أود أن أشیر إلی أن هذا الرجل الفاضل والمحب للخیر، فضلا عن صیتە الطیب، ترك أبناءا و أحفادا ساروا علی خطاە واشتهروا في مدینة السلیمانیة واتخذوا موقعهم اللائق في قلوب الناس بحسن أخلاقهم وسجایاهم ویحتلون مراکز مرموقة في المجتمع ویحضون باحترام الناس لأنهم یشارکون إخوانهم سراءهم وضراءهم ویساهمون في کل ما یعود بالخیرعلی بني قومهم. وفي هذا المجال نتمنی لهم التوفیق واطراد التقدم.

عبدالكريم شيخاني

*في کتابة هذا الموضوع، استفدت من الانترنيت وبعض المعلومات التي استقيتها ممن لهم اطلاع عن کريم علکة و عائلتە الکريمة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

704 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع